اقتصاد

إسرائيل. اللحوم المستزرعة، إرث كولونيالي

تعدّ إسرائيل واحدة من الرواد العالميين في مجال شرائح اللحم المفروم المصنع في المختبرات، وهو ما يمثل سوقاً ضخمة ونجاحاً تجارياً ناجمين عن عادات استهلاكية وإنتاجية نشأت مع احتلال فلسطين.

“لقد تم إبلاغنا باختراع”اللحوم الاصطناعية“في بلدنا، وقد تم إنتاجها انطلاقاً من الفطر والباذنجان..” - “أي نوع من الحيوانات هذا؟” - “إنها بقرة اصطناعية!”
“معاريف”، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1949، المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

في شهر آذار/مارس 2022، احتفلت شركة إسرائيلية بدخولها بورصة نيويورك عبر قرع جرس ناسداك. وقد كرّس هذا الحدث الشراكة بين Tnuva، الأشهر من بين شركات الصناعات الغذائية في إسرائيل، و Pluristem وهي شركة إسرائيلية للتكنولوجيا الحيوية متخصصة في زرع الخلايا، والهدف من هذه الشراكة هو تسويق “اللحوم المستزرعة”.

لتصنيع اللحوم المستزرعة، يأخذ العلماء أولاً خلايا من الحيوانات، ثم يحفزون الأنسجة الدهنية والعضلية للنمو بشكل مستقل، قبل أن يدمجوها على هيئة منتوج يشبه اللحم المفروم. ويكمن التحدي اليوم في تطوير هذه التكنولوجيات والحد من كلفتها للسماح بالإنتاج على نطاق واسع. ورغم أنّ هذا الهدف لا يزال بعيد المنال، إلاّ أنّ شركات ناشئة بدأت في الترويج للحوم الخليوية كبديل بيئي لصناعة اللحوم التقليدية.

موقع رائد في سوق جديدة

صُنعت أول شريحة لحم “مستزرعة” في العالم في إسرائيل، وهناك أُطلق أول مصنع. وكان رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو أول مسؤول رفيع يُقبل على تذوقه. وخارج وادي السيلكون في كاليفورنيا، نجد هناك عدداً كبيراً من الشركات الناشئة المختصة في التكنولوجيا الحيوية والمصانع التجريبية المخصصة لإنتاجها. في العام 2022، نجحت شركة ناشئة إسرائيلية واحدة في جمع 347 مليون دولار، وهو رقم قياسي في هذا المجال. كما تُضَخُ قرابة 40% من الاستثمارات العالمية في اللحوم المستزرعة في شركات إسرائيلية، ومنها مؤخراً استثمارات سويسرية من شركة نستلي وشركة التوزيع Migros.

ليس مفاجئاً أن تكون إسرائيل في موقع رائد في مجال تكنولوجي. ففي “وطن الشركات الناشئة” كما نصّبت نفسها، يُطلق على الصناعات التكنولوجية تسمية “سيليكون وادي”، ولكلمة “وادي” نفس المعنى باللغتين العربية والعبرية. اعتادت الدولة في الواقع تسخير الحلول التكنولوجية، سيما لمواجهة التحديات البيئية. ومع ذلك، فإنّ خيار الاستثمار في اللحوم المستزرعة لا يرجع ببساطة إلى البراعة الإسرائيلية، كما أنّ استزراع اللحوم ليس فقط مسألة مستقبل مستدام. فالتكنولوجيات مرتبطة بتاريخ الأماكن التي تنشأ فيها وتتطور، وهذا التاريخ منغمس في إسرائيل في الإرث الكولونيالي وفي الطلب على استهلاك اللحوم في بيئة طبيعية لا تسمح بتلبيته.

عادات غذائية حديثة

في فلسطين، وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان الأثرياء جداً فقط من يأكلون اللحم بانتظام. إذ لم يكن مناخ وطبيعة البلد الواقع على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط بصيفه الطويل والجاف، متوافقاً مع تربية مكثفة للمواشي. كان أغلب الفلاحين ينتجون الحبوب ويستخدمون الحيوانات أساساً للعمل. وللتزود باللحوم، كانت فلسطين جزءاً من شبكة إقليمية يشتري فيها التجار الماشية من المربين المحليين وينقلونها إلى الأسواق. تدريجياً، مع تنامي التمدن والازدهار الراجعين إلى تطور الصناعات المتصلة بالحمضيات، باتت أعداد أكبر من السكان تُدخل اللحوم في نظامها الغذائي.

بعد الحرب العالمية الأولى، طرأ تغيير على استهلاك اللحوم. اجتاحت القوات البريطانية فلسطين واضعة حداً لـ400 سنة من الهيمنة العثمانية. وكانت الحكومة البريطانية المشكّلة حديثاً تدير مجتمعاً متنوعاً من المسلمين والمسيحيين، وأقلية يهودية مكوّنة أساساً من السفرديم. في منطقة بلاد الشام، وضع المسؤولون البريطانيون والفرنسيون الذين تقاسموا الأراضي العثمانية سابقاً حدوداً جديدة، وراقبوا حركة البشر والماشية. كما وُضعت مراكز للحجر على امتداد هذه الحدود، فارضة قواعد جديدة على تنقل الحيوانات في المنطقة، وقاطعة بشكل مصطنع الطرق التاريخية لتجارة الماشية.

بينما كانت سبل دخول الماشية من المنطقة إلى فلسطين تتقلّص تحت الهيمنة البريطانية، كانت الهجرة تتوسع. وبسبب السياسة البريطانية، ومعاداة السامية المتنامية في أوروبا، قدم المستوطنون اليهود الأوروبيون بأعداد كبيرة إلى فلسطين في فترة ما بين الحربين العالميتين. خلال هذه الفترة، ازداد الطلب على اللحوم كثيراً. وإذا ما كانت الجماعات المختلفة في فلسطين تقبل عليها لخصائصها المغذية والمشبعة، فإنّ الطبقات المتوسطة اليهودية الأوروبية كانت معتادة على الأكل منها بنسب وانتظام أكبر من غالبية الفلسطينيين أو اليهود السفرديم المحليين.

المهنة التقليدية لجزء من اليهود المهاجرين

سرّعت الهجرة اليهودية الواسعة وتيرة التوترات بين الجماعات المختلفة في البلاد، ما أدى إلى الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، وقد كانت لحظة حاسمة في تاريخ فلسطين. شمل الإضراب الفلسطيني العام المرفأ والطرق والأسواق، قاطعاً مؤناً عدّة عن المستوطنين اليهود. أما بالنسبة إلى المسؤولين الصهاينة في فلسطين، فقد أبرزت الثورة اعتماد المستعمرة اليهودية على الزراعة والبنية التحتية الفلسطينية، لا سيما في التزود باللحوم.

كان اليهود في أوروبا نشطين في تجارة الماشية منذ العصر الوسيط، ولكن استهلاك اللحوم في فلسطين اعتمد على المربين العرب الفلسطينيين والإقليميين. حاول المورّدون واللّحّامون والسلطات الدينية والمسؤولون المدنيون اليهود كسب مكان في سوق اللحوم. وفي نهاية الثلاثينيات، بدأ تجّار الماشية اليهود يستوردون الماشية من أوروبا بالاعتماد على شبكاتهم القديمة في القارة العجوز، وبجلب حيوانات من وراء البحار، فحوّلوا التجارة الإقليمية في فلسطين إلى تجارة عابرة للقارات. هذا التبادل البحري لم يجنّبهم أبداً التجارة الإقليمية العربية، ولم يفصلهم تماماً عنها، وإنّما مكّن التجار اليهود من الدخول إلى تجارة اللحوم في البلاد من خلال توريد عجول أوروبية إلى فلسطين أكبر حجماً بثلاث مرات من الأنواع المحلية.

وبينما كان التجار اليهود يستثمرون في توريد الماشية، لم يكن المسؤولون الصهاينة يحاولون تطوير الإنتاج المحلي من لحم العجول اليهودي. ويُفسَّر ذلك بالظروف البيئية في فلسطين، كونها غير متوافقة مع تربية مكثّفة تهدف إلى إنتاج اللحوم. وبالتالي، بينما كان الاقتصاد يُصوَّر على أنه اقتصاد كولونيالي منفصل ومكتفٍ ذاتياً، كان التزود باللحوم لا يزال محكوماً من قبل المربين الفلسطينيين والتجار العرب الإقليميين والواردات من أوروبا. كانت كل هذه العناصر في تناقض صارخ مع التطلعات الصهيونية للاكتفاء الذاتي.

إلا أنّ الأرقام التي تعود إلى حجم الإيرادات تبيّن أنّ المستهلكين اليهود الأوروبيين قد استمرّوا في شراء لحوم متنوعة المصادر، واستهلاكها بكميات كبيرة رغم التصورات الاقتصادية لقادتهم. كانت تل أبيب على سبيل المثال المدينة الأكثر أهمية في المستعمرة على الصعيدين المالي والديموغرافي، وكذلك من حيث استهلاك اللحوم.

بدلاً عن صورة “أرض اللبن والعسل”، رأى المستعمرون في اللحوم تجسيداً لأحلامهم في الرخاء والوفرة. ربما كان تيسير سبل حصول اليهود على اللحوم في فلسطين تحت الحكم البريطاني يتعارض والمُثل الاقتصادية، ولكنه خدم الهدف الصهيوني المتمثل في توسّع المستعمرة واحتلال فلسطين.

نقص في اللحوم عند قيام إسرائيل

خلفت نهاية الحكم البريطاني في العام 1947 الحرب العربية الإسرائيلية في 1948. طردت الكتائب الإسرائيلية الفلسطينيين من أراضيهم ونهبت كذلك مواشيهم، فتقلّصت إمدادات اللحوم. غداة الحرب، كلّف وزير الزراعة الإسرائيلي شركة Tnuva بمركزة تجارة اللحوم المحلية. في ذلك الوقت، كانت Tnuva أكبر موزّع للمواد الغذائية في إسرائيل، وكانت ترتبط بشكل أساسي بالصناعة اليهودية للألبان. تذكّر الشركة على موقعها الإلكتروني بكيفية دخولها في تجارة اللحوم: كان التزود باللحوم محكوماً إلى العام 1948 “بالزراعة العربية والبدو الرحل. ولكن مع إنشاء الدولة، اختفى هذا المصدر الرئيسي للحوم”. وترديداً للموقف الإسرائيلي المهيمن، يختزل موقع Tnuva الفلسطينيين في كونهم “مصدر لحوم” وشتاتهم القسري في أنه “اختفاء”.

بالنسبة إلى اليهود الإسرائيليين، كانت ندرة اللحوم إحدى السمات البارزة لسنوات إسرائيل الأولى. في ذلك الوقت المعروف بفترة التقشف، كانت الحصص الغذائية تتيح استهلاك حوالي 100غ من اللحوم أسبوعياً لكل شخص. انهمرت الشكاوى على وزارة التموين والتقنين، ونزل المواطنون إلى الشوارع احتجاجاً على تقليص حجم حصص اللحم، وازدهرت السوق السوداء التي كانت مربحة إلى درجة أنّ الأعمال العدائية بين الجماعات لم تثنِ بعض اليهود والفلسطينيين عن التعاون في الإتجار عبر الخطوط المعادية. كان البعض يهرّب اللحوم من القرى الفلسطينية إلى المناطق التي يسكنها اليهود، والبعض الآخر يقود الماشية إلى ما بعد حدود بعض الدول العربية المجاورة. وهكذا، أُعيد فتح الطرق الإقليمية التاريخية للماشية، والتي بقيت مفتوحة منذ عهد العثمانيين وطوال فترة الحكم البريطاني، رغم إعلانها طرقاً غير قانونية.

العصر الذهبي لمرق الباذنجان

شكّلت ندرة اللحم في البيوت اليهودية المطبخَ الإسرائيلي الجديد. كان أساتذة الطهو وأخصائيو التغذية وربات البيوت يجرّبون وصفات نباتية مختلفة لمحاكاة اللحم. في الخمسينيات، ادعى كيميائي إسرائيلي اختراع “اللحم الجديد”، أو كما أسمته الصحافة حينها “اللحوم الاصطناعية”. كان الاختراع نباتياً في جزء كبير منه، مخمّراً وواعداً بمذاقِ أفضل قطعة لحم بقر، مع قليل من دهن البط. لكن هذا “اللحم الجديد” لم يصل أبداً إلى مرحلة الإنتاج التجاري، إذ رفضت وزارة التموين والتقنين طلب مخترعه في استيراد المكوّنات اللازمة لصنعه.

عوضاً عن ذلك، تم تشجيع الطهاة والمستهلكين الإسرائيليين على الاتجاه نحو الباذنجان، الخضار المحلية الأقرب إلى اللحم. يرمز تعويض اللحوم ببدائل مختلفة إلى نوع التضحيات التي كانت تُطلب من الإسرائيليين الجدد. كما يؤكد أشهر أخصائي للتغذية هناك أنّه “لا يتوجّب على المهاجر الجديد التعلّم فقط، عليه أيضاً أن ينسى”. وكما هي الحال مع الأنماط الغذائية، صارت بعض المواد البديلة تدريجاً جزءاً لا يتجزأ من المطبخ الوطني. لا يزال مرق الباذنجان الشعبي -وهي وجبة شهية من أوروبا الشرقية يراد منها محاكاة طعم وقوام الكبدة المفرومة- يباع اليوم في محلات البقالة الإسرائيلية. ولم تصبح اللحوم غذاءً أساسياً في إسرائيل إلا بعد الازدهار الاقتصادي في التسعينيات وفتح السوق الإسرائيلية أمام الواردات العالمية. ورغم الميول النباتية الحديثة، لا يزال استهلاك اللحوم في ارتفاع مطرد. في العام 2021، كانت إسرائيل الرابعة عالمياً بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في استهلاك لحوم البقر، بعد الولايات المتحدة الأميركية والأرجنتين والبرازيل. ولكن على عكس هذه البلدان، لا تنتج إسرائيل الكثير منه محلياً. وترتبط صناعتها باللحوم المبرّدة المستوردة، وبشحنات الحيوانات الحية الآتية من الخارج.

بعد حوالي 70 عاماً من طلب الدولة مركزة صناعة اللحوم، تدخل Tnuva اليوم مجال اللحوم المستزرعة. ولديها اليوم -كأكبر منتج صناعات غذائية في إسرائيل وبشبكة توزيع واسعة ونحو أربعة ملايين منتج يباع يومياً- القدرة على تطوير هذه الصناعة. فيما يذكّر جرس ناسداك بأن تجارة اللحوم كثيراً ما كانت تاريخياً تغذي الاحتلال.

للاطلاع أكثر على الموضوع:

 Roza El-Eini, Mandated Landscape: British Imperial Rule in Palestine 1929-1948, Routledge 2004.
 John Ryan Fischer, Cattle Colonialism: An Environmental History of the Conquest of California and Hawaii, University of North Carolina Press, 2015.
 Tamar Novick, Milk & Honey: Technologies of Plenty in the Making of a Holy Land, 1880-1960, MIT, forthcoming.
 Joshua Specht, Red Meat Republic: A Hoof-to-Table History of How Beef Changed America, Princeton University Press, 2019.
 Efrat Gilad, Meat in the Heat: A History of Tel Aviv under the British Mandate for Palestine (1920-1940s), PhD dissertation, Graduate Institute of International and Development Studies, Genève, 2021.