تقرير

أرمن سوريا يجدون في يريفان موطنا جديداً لهم

منذ قرابة العقد، استقر في أرمينيا عدة آلاف من الأرمن السوريين الفارين من المعارك في حلب، وأعادوا بناء حياتهم من جديد في هذه المنطقة من القوقاز. ويحاول نظام دمشق -الذي طالما كان قريبًا من نظام يريفان- إعادتهم إلى حلب.. لكن دون نجاح يُذكر.

بيروت، 2013. أرمني سوري يحمل علم البلدين خلال إحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن.
وكالة فرانس براس.

وحده ضوء باهت ينير صالون الحلاقة الذي يشبه مئات الصالونات الأخرى في يريفان. هنا في شارع يزنيك كوباتسي، على مرمى حجر من ساحة الجمهورية، تشكلت حلب صغيرة في قلب العاصمة الأرمنية. يجلس حلبيّون مسنّون ليشربوا القهوة بالهيل أمام محلاّتهم. وباستثناء لوحات السيارات ونوعية الحجر التي تشكّل المباني، يمكن للمرء أن يخال نفسه في حلب، في حي العزيزية أو السليمانية المسيحيين، قبل أن تدمّرهما الحرب.

في صالون حلاقة “كوكو”، يتبادل الحاضرون أطراف الحديث، ويأتي الزبائن بآخر الأخبار. “هل نزلت إلى حلب؟ لدي أرض في كسب1 أرغب في بيعها، لكنني أحتاج إلى مستند خاص”. يعود بعض الأرمن السوريين في الشتات إلى حلب لبيع شقة أو محلّ تجاري والعودة بالمال، لكن الأمر قد يعرّضهم إلى بعض التعقيدات مع الجمارك الأرمينية.

“علينا أن نتكيّف قدر الإمكان”

بمجرّد أن يدخل حريف جديد إلى صالون الحلاقة، يغيّر الشاب الذي يحلق لحيتي لغة حديثه من الأرمنية إلى العربيّة. كيف ينظر إلى حياته في أرمينيا، وهو الذي ترك حلب منذ أقلّ من عامين؟ “ليست لا الجنّة ولا الجحيم، هي فقط بلاد يتعيّن عليك فيها أن تتكيّف قدر الإمكان”. منذ عشر سنوات، لجأ عشرات الآلاف من الأرمن السوريين بصفة مؤقتة أو دائمة إلى أرض أجدادهم. وحتى تلك الفترة، كانت أرمينيا بمثابة المنتجع، حيث كانت مدة رحلة الطيران ساعة و20 دقيقة من حلب (وقد باتت ساعتين و15 دقيقة منذ أن أغلقت تركيا مجالها الجوي). وقد كانت البرجوازية السورية الأرمنية تأتي هنا لاستنشاق الهواء النقي، بعيدًا عن أعين مجتمع حلب المحافظ للغاية. وحتى اليوم، تربط رحلة أسبوعية لشركة “أجنحة الشام” دمشق وحلب بيريفان، وتبلغ تكلفة الرحلة ذهابًا وإيابًا بين حلب ويريفان حوالي 500 دولار.

فعلاً، أصبحت أرمينيا بأديرتها العديدة وجهة صيفيّة مميّزة لهؤلاء المسيحيين المنفيين، حيث يحتفلون بزفاف أو تعميد، وتكون تلك فرصة للعائلات التي شتّتتها الحرب لتجتمع حول مأدبة.

وصل العديد من الحلبيين إلى أرمينيا في الرحلات الأخيرة من صيف 2012، حاملين حقيبة سفر مليئة بثياب صيفية. هل هم لاجئون؟ لا يقبل أي من الأطراف المعنية هذا التعريف. ففي ذروة معركة حلب، سهلت وزارة الشتات الأرمينية حصولهم على الجنسية وقدمت لهم المساعدة وبعض الخدمات الاجتماعية بالشراكة مع المنظمات غير الحكومية المحلية. ولمدّة عام، تمكّن الأطفال من مواصلة تعليمهم وفقًا لبرنامج وزارة التربية الوطنية السورية في مدرسة خُصّصت لهذا الغرض. وبقي ثلث “اللاجئين” في هذا البلد الذي يُعتبر أساسًا نقطة انطلاق نحو كندا -وجهتهم الرئيسية-، والسويد، وأستراليا، وبدرجة أقل فرنسا.

اندمج قرابة العشرة آلاف أرمني الذين ظلّوا في يريفان، دون التدخّل في الجو العام، لكن المدينة استفادت من معرفتهم ومواهبهم، أقلّها عدد المطاعم التي تقدّم مجموعة من الأطباق الشرقية الممتازة، والتي فتحت أبوابها في العاصمة. كما يتمتّع السوريون الأرمن بسمعة جيّدة بفضل رصانتهم وطاقة عملهم، ما سهّل عليهم فتح شركات صغيرة ومتوسطة، بينما وجد الشباب عملاً في قطاع التكنولوجيات الجديدة.

“الحياة هناك باتت لا تُطاق”

ليفون بلخيان، صاحب الشارب الكثيف، هو أحد أصحاب الشركات الذين يتطلعون إلى الأمام دون النظر إلى الوراء. في البداية، وضع ليفون أطفاله في مأمن في أرمينيا، ثم التحق بهم في نهاية المطاف في عام 2015، ليبدأ نشاطه التجاري في صناعة ملابس رياضية على الصعيد المحليي. يوظّف ليفون 25 شخصًا بشكل مباشر، وحوالي خمسين آخرين بشكل غير مباشر من خلال ثلاث ورش تعمل بأقصى قدرتها. وتكمن وصفة النجاح في إتقانه لسلسلة الإنتاج وجودة منتجاته. أما سلطات الضرائب الأرمنية، فتتركه وشأنه. فليفون يدفع ضرائبه ولا يزعج أحدا ولا يشعر بالحرج من أي شيء. في حلب، يحتفظ بعض أقاربه بشقته في منطقة سكنية راقية. وتبدو العودة احتمالا بعيدا بالنسبة إليه، فرغم توقف الحرب في مدينته، لا يزال هناك نقص شديد في الكهرباء وزيت الوقود والماء.

يقول ليفون: “مرة في السنة، يزورنا ممثل عن الحكومة السورية ويجتمع بكامل الجالية. إنهم يحاولون حثنا على العودة، حتى أنهم يقولون إنهم مستعدون لتغطية أسعار تذاكر الطائرة. الناس هنا مهذبون ومتحفظون، لا يجرؤون على الرفض علناً، لكنهم يعرفون جيّدا في قرارة أنفسهم أن الحياة هناك باتت لا تُطاق بدون تدفئة، ولا كهرباء، ولا خدمات عامة، ولا حدّ أدنى من الرفاهية.. في تلك الأثناء، قام الأتراك بتوطين سكان معادين لنا على بعد بضع كيلومترات من حلب، في منطقة إدلب، كما نهبوا معظم ممتلكاتنا”. فعلا، فالعودة إلى سوريا تعني محاولة العيش بليرة فقدت 80% من قيمتها، والاكتفاء بمتوسط راتب يبلغ 25 دولارًا. قليلون من هم مستعدون لمثل هذه التضحيات.

أروج يسيان رائد أعمال أصيل مدينة تل أبيض، وينشط كثيراً في صفوف الجالية. كان يتاجر بقطع غيار السيارات في حلب، والتي كانت من اختصاصات الأرمن قبل الحرب، ما مكّنه من التمتع بأسلوب حياة مريح. يتنهد أروج قائلاً: “بات الأرمن السوريون في أرمينيا يعانون اقتصاديا واجتماعيا بسبب ارتفاع الإيجارات والضغط العقاري”. لا يشكو أروج أمره، فهو يكسب عيشه جيدًا بفضل عمله في قطع غيار الثلاجات ومكيفات الهواء. لكنه يفتقد أطفاله وأحفاده الذين انتقلوا إلى العيش في كندا والولايات المتحدة. كم عدد الأرمن الذين بقوا في سوريا؟ “لم يتبق في حلب سوى 8000 أرمني، وألف فقط في دمشق، و100 عائلة في كسب، و200 في القامشلي. أما في طرطوس، فعددهم لا يتجاوز الخمسين حلبيّاً”.

“يجب أن تُؤخذ أصواتنا بعين الاعتبار”

أرارات قسطانيان يبلغ من العمر 39 عامًا، وهو باحث في معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم، ويُعِدّ أطروحة دكتوراه حول الأقلية الأرمنية في سوريا في إحدى الجامعات الإندونيسية. إنه يدرك جدّا البعد الاستراتيجي للعلاقات الأرمينية-السورية: “لقد اندمج أرمن سوريا جيدًا في النسيج الاجتماعي والاقتصادي، وهم لا يشعرون كثيراً بالغربة. فأرمينيا قريبة جدا من أسلوب حياتهم الشرقي. عموما، تم استقبالهم بشكل جيد، ولا يمكن أن نتحدث عن تمييز”. رغم ذلك، يشير أرارات إلى قلة اندماج الأرمن السوريين في الحياة العامة: “صحيح أنهم يعيشون في أرمينيا، لكنهم ظلّوا في قوقعتهم. يجب تغيير العقليات. يقول أصدقائي إنه لا ينبغي التدخل في الحياة السياسية الأرمنية، لكنّني لا أتفق معهم. أرى أنه علينا أن ننشط في جميع المجالات، وأن نخرج من حيّنا الضيق، حتى تُؤخذ أصواتنا بعين الاعتبار”. يشير هذا الشاب إلى ثقل رجال الأعمال السوريين الأرمن في يريفان ويضيف: “أعتقد أن تعزيز هذه العلاقة الاقتصادية سيجعل من الأرمن السوريين جسراً بين البلدين”.

كانت الجمهورية العربية السورية من أوّل الدول التي اعترفت باستقلال جمهورية أرمينيا الفتية. ولطالما كانت العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين وثيقة رُغم تواضعها. وفي عام 1992، تبرّع الرئيس حافظ الأسد بـ 6000 طن من القمح لأرمينيا بعد الحظر الطاقي الذي عرّض البلاد إلى الشلل التام، خلال الحرب مع أذربيجان.

سفيرة مقرّبة من أسماء الأسد

كما وضعت سوريا على ذمة الأرمن بداية التسعينيات منطقة حرّة واسعة في حي التلل المسيحي بحلب، لتسهيل تصدير السلع الاستهلاكية اليومية. من جهتها، حافظت أرمينيا على سفارتها مفتوحة في دمشق. أما السفيرة السورية الجديدة في يريفان، والتي تم تعيينها بمرسوم رئاسي في ربيع عام 2022، فهي النائب السابقة للطائفة الأرمنية بدمشق في مجلس النواب السوري، وتدعى نورا أريسيان. وهي مؤرخة، وقد كتبت أطروحة رائعة حول موقف المثقفين السوريين أثناء الإبادة الجماعية لعام 1915، كما أنها لا تخفي صداقتها مع سيدة سوريا الأولى أسماء الأسد. وتُعدّ تسميتها ذات رمزية مهمة، فهي أول امرأة أرمنية تمثل سوريا في أرمينيا.

تتحدّث نورا أريسيان العربية والأرمنية، وتطمح إلى فتح مركز ثقافي سوري في يريفان، حتى يبقى أبناء الجالية السورية الأرمنية هناك على صلة وطيدة باللغة والثقافة العربيتين. كما تريد تعزيز الدراسات العربية في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم وفي جامعة يريفان، اللتين دأبتا على تهيئة أجيال من المستعربين على مدى عقود. لكن من أجل تحقيق كل ذلك، يتعين على السفيرة إقناع شركائها بإرسال الطلبة إلى دمشق، كما كان الحال حتى عام 2012.

مباشرة بعد توليها هذا المنصب، جمعت نورا أريسيان حوالي خمسين نفراً من رواد الأعمال السوريين الأرمينيين لدراسة إمكانية إقامة علاقة ثنائية لم يتم إلى حد الآن استغلالها بشكل كبير. وهي بذلك تعتبر أرمينيا بوابة السوق الأوراسية بالنسبة إلى رجال الأعمال السوريين، وتسلّط الضوء كذلك على النقاط المشتركة بين يريفان ودمشق، مثل الدفاع عن الأقليات في الشرق، وتَقارب وجهات النظر حول القومية التركية أو القومية الإسلامية.. وتَلقى هذه السردية المحبوكة صدًى إيجابيًا في دمشق، حيث تتوق الحكومة إلى عودة البرجوازية الأرمنية الحلبية، بهدف إعادة بناء البلاد. لكن يبقى هذا الطموح في الوقت الحالي مجرّد أمنية، طالما أن العقوبات الدولية تَحول دون أمل ولادة جديدة.

1مدينة في شمال سوريا، غير بعيدة عن الحدود التركية.