تخطيط عمراني

مصر. الإسكندرية، مدينة تُفقِد وتُفقَد

تواصل الحكومة المصرية سياسة التغيير العمراني في المدن الكبرى، لتجعل منها مساحات متاحة فقط للفئات الأغنى. يغذّي عنف هذا التغيير الرغبة في الرحيل لدى الطبقات المتوسطة العليا. وهو الحال بالنسبة إلى دينا التي باتت لا تشعر بالانتماء في مدينتها الساحلية ومسقط رأسها، الإسكندرية.

الصورة تظهر مشهداً لجانب من البحر، حيث يمتد الشاطئ على الواجهة البحرية. يحيط بالمكان الطريق الذي يمتد على طول الساحل، ويظهر فيه عدد من الأشجار والنخيل. في الخلفية، يمكن رؤية مجموعة من المباني السكنية أو الفنادق التي تعكس نمط الحياة الحضري. لون المياه يبدو زرقاً صافياً، مما يضيف جمالاً إلى المشهد.
كيف التهم الإسمنت شواطئ الإسكندرية.
© Sophie Pommier

“عايزه أهرب، قبل اختفاء الأحياء الأساسية وكل ما أعرفه هنا، مثل محطة الرمل وسبورتنج وشارع بورسعيد وأحياء شرق الإسكندرية القديمة”. بهذه الكلمات بدأت دينا (سيدة سكندرية - 37 سنة) شرح دافعها لقرار الهجرة من بلدها ومدينتها، بعد أن فقدت الإسكندرية عدداً من مكوناتها العمرانية من مباني ومساحات عامة، على رأسها البحر! تزامنا مع ممارسات التطوير الرسمي الجاري بمصر، أحسّت دينا بفقدان مماثل للشعور بالانتماء.

في مارس/آذار 2022، اعتمدت الدولة مخطط الإسكندرية الاستراتيجى 2032، حيث أعلنت عن مشاريع تطوير عمراني، منها إنشاء مدينة طبية، ومشروع منتزه “جرينز” (كومباوند)، ومدينة سيدي كرير السياحية، ومنطقة “أليكس إكسبو” للمعارض والمؤتمرات. يولي المخطط اهتمامه إلى الاستثمار السياحي والصناعي، ويُخصَّص للخدمات، كما يفسح المجال للمستثمرين، لا سيما الأجانب، بصفتهم مموّلا أساسيا له.

الإسكندرية ليست المدينة الوحيدة التي تخضع إلى نموذج تحديث عمراني. وفي كلّ مرة، تتكرّر الإشارة إلى متاجر التسوق ومساحات الترفيه والاستثمار في كل القطاعات، حتى الصحية والتعليمية (الممثلة للحقوق الدستورية الأساسية لجميع المواطنين). لكن يبقى الحصول عليها والتواجد نفسه في حيزها مقرونا بالتكلفة الاقتصادية للأفراد القادرين/ات، فيما يشار إلى استفادة نسبة من العوام بالوظائف التي تتيحها هذه المشاريع. يحمل هذا السيناريو الاستثماري اسم “التطوير”، وتتصاعد وتيرة سرعته وعمق التغيرات به كلما اقتربنا من المدن المركزية ذات القيمة الاقتصادية، كما هو الحال في الإسكندرية والقاهرة -التي أعلنتها الدولة عاصمة تراثية وتجارية-، فيما تتأهب كافة الموارد لتدشين عاصمة إدارية جديدة.

“أُزيلت ذكرياتنا مع المعالم المُهدمة”

في هذه الأثناء، يُغيب كثيرون عن المشهد، ليس فقط بغياب تمثيل احتياجاتهم وقدراتهم ضمن مشاريع الدولة وطموح المستثمرين، بل يُغيبون قِبلا عن أي مشاركة عملية. لا تأثير يُذكر لآرائهم فيما يحدث لمُدنهم وينعكس بالتبعية عليهم. يُنظِر علم النفس البيئي لعلاقة البيئة العمرانية بالسلوك الانتمائي للسكان، حين يكون لديهم القدرة على المشاركة والتفاعل المتبادل بينهم/ن وبين الأمكنة. تفيد الدراسات كيف يصير الإنسان أكثر تقبلا للمحيط من حوله، حين يكون صاحب قرار في عمليات البناء والتشييد أولا، والترميم والتطوير اللاحق بالمشاريع العمرانية. ما يولد مشاعر الشعور بالذات والفخر والانتماء للحيز الذي يعيش فيه.

تعيش دينا حالة شعورية مقابلة، تسيطر عليها أحاسيس القهر والحزن على حال الإسكندرية: “لا أحد يستطيع فعل أي شيء حيال ذلك. عندي إحساس بالعجز والظلم، لأن ما نملكه يُؤخذ منا دون أن نُسأل عن رأينا، ورُغما عنا، أنا وغيري من المواطنين. لا خيرة لنا في الأمر”.

تعطي تفاصيل المخطط نبذة عن شكل الإدارة الحالي للفضاء العام، وكيف تتسبب ممارسات الخصخصة وانتزاع الملكية دون إفساح مساحة حرة للتفاوض والاتفاق المشترك مع المواطنين، في التحول العمراني الجاري من ناحية، ومخالفة لمبدأ العقد الاجتماعي المفترض أنه الحاكم للعلاقة بين الدولة والمواطنين من ناحية أخرى، كما يرصد الأكاديمون/ات.

نترجل أنا ودينا سويا المدينة. نتطلع إلى بيت قديم تارة، نتشارك توقع مستقبله قياسا على المباني المشابهة قِبالته: “سيُهدم أيضا، وتحلّ محلّه بناية شاهقة الطول”. تارة أخرى، تتعجب دينا من مجمع المطاعم والألعاب الموجود على الشاطئ: “بحر يقام عليه سيرك وخيمة! ما هذا الخراء!”. وتعقب: “كل هذا يُفقدنا أي شعور بالانتماء إلى الإسكندرية. كيف ننتمي إلى مدينة تم فيها تشويه كل ما تُعرف به، وأُزيلت ذكرياتنا مع معالمها المُهدمة؟”

لازالت دينا ترى في مصر أشياء لطيفة بعد، لكنها ترى أيضا أن رحيلها من البلد هو خيار اضطراري: “لو همشي وأسيب البلد فـ هيكون على عيني [أي رُغما عني]” لأنها لم تعد قادرة على رؤية المشاهد القبيحة هذه طول الوقت في الإسكندرية وخارجها في كل مصر: مساحة عامة خضراء (حديقة) أو قطعة جديدة من شاطئ البحر يتم تحويلها إلى مباني قبيحة وكافيهات ومطاعم.

“مأساة تيفولي”

يوثق بحث "كورنيش الإسكندرية بين الخصخصة وحق الرؤية" الصادر عن منظمة الإنسان والمدينة للأبحاث الإنسانية والاجتماعية بداية ردم الشواطئ منذ عام 1997، بحجة زيادة حجم استيعاب زحام السكان، ولا سيما في فترة الاصطياف. بعد تولي اللواء عادل لبيب المحافظة في الفترة ما بين (2006 - 2011)، دخل التعدي على الشواطئ مرحلة ثانية، حيث تم حجب البحر عن الرؤية. سمح لبيب بتقنين الحجب من قبل المنشآت السياحية التجارية. وقُسمت الشواطئ إلى فئات -مميزة، سياحية، مجانية-، كما قُسّم الشاطئ الواحد إلى أكثر من شاطئ، لاستغلالها ربحيا. طرح عدد من الشواطئ المجانية قبل ذلك إلى المزايدة العلنية. تصاعدت وتيرة التعديات التي خصخصت الشواطئ وحجبتها عن الرؤية في العقد الثاني من الألفية. واختتمت بإنشاء مشاريع استثمارية كبرى يملكها رجال أعمال، وأحيانا تتبع الجيش، منها مشروع كوبري سيدي جابر.

لم يكن المشروع ضمن مخططات أجهزة الدولة نفسها (المحافظة والمجلس الأعلى للتخطيط العمراني)، إلا أن ذلك لم يمنع تنفيذه، بجملة من المخالفات، مثل رفع منسوب الكورنيش إلى ثلاثة أدوار (طوابق).

بالنهاية، استقر الكوبري فوق شواطئ البحر، واقتطعت منه مساحة إضافية لإقامة مجمع سياحي ضخم يضم متاجر ومطاعم، وتم إنشاء فندقين جديدين وهدم مسرح قديم. وصار على الراغب/ة في رؤية البحر الوقوف فوق الكوبري. يُعرف هذا المشروع في المدينة بـ“مأساة تيفولي” (اسم المجمع)، وتصفه دينا بـ “الضربة القاضية”. بالإضافة إلى مجمع “ذا بريدج” في منطقة المحروسة.

شكّلت إزالة واستبدال هذه الأماكن مسامير في نعش علاقة دينا بالإسكندرية، وهي التي اعتادت الجلوس في مقهى بمنطقة جليم يُدعى “النجمة”، حيث كان بإمكانها رؤية البحر والناس يتمشون على “لسان الجليم” الذي تعرف به المنطقة والذي تحوّل إلى مجمع “جليم باي.”فجأة كده اللسان انتزع منا وأغلق، قبل أن يعاد افتتاحه مشروعا استثماريا“. وهكذا الحال مع مجمع المحروسة:”كنا نخرج من شارع الإقبال، وأمامنا البحر، يعني الشارع أخره بحر، تتطلعي إليه وأنتِ تصعدي من الشارع في اتجاه الكورنيش، أما الآن فستجدين “ذا بريدج”، مبنى مصمت، ملوش معالم، حل محل البحر“. هكذا تفقد دينا روابطها مع المدينة، الواحدة تلو الأخرى. تحاول إحصاء المزيد من الأماكن:”طبعا وجنينة القائد إبراهيم بردو التي أخذت، وبني عليها مطاعم وكافيهات“والتي تصفها بالـ”قبيحة جدا".

2011 نقطة تحوّل

تعي دينا قِدم التحولات في هوية الإسكندرية، وإن كانت وتيرتها أسرع الآن. تتنهد “كان زمان، أيام مبارك، يوجد بناء مخالف ومباني شاهقة الارتفاع، تصل إلى 20 و30 طابقا، ومباني أثرية تهدم، كل هذا كان مؤثر في”. في السنوات الأخيرة من حكم مبارك (عشرينات دينا) وما قبلها، عاشت دينا حياة تصفها بالـ “منغلقة”. تحكي “لم أكن متعلقة بالمدينة، لأن طفولتي وحياتي قبل الثورة لم تسمح لي ببناء ذكريات كثيرة داخل المدينة. حدث ذلك لاحقا، حين كبرت، وبالأخص بعد الثورة التي ارتبطت بتغيرات جذرية في حياتي”.

شكلت 2011 نقطة تحوّل على عدة أصعدة متصلة. أولها تدشين مبادرات وحملات لإنقاذ التراث، وهو جزء من النشاط العام الذي أنتجته الثورة. ثانيا، أفسحت أيضا مجالا أوسع لاتخاذ إجراءات مختلفة، ومنها مقاضاة الدولة والمستثمرين، ورفع دعاوى لمنع هدم المباني التراثية والدفاع عن حق المواطن في المساحات العامة بكل أنواعها داخل الإسكندرية. اجتماعيا، ساعدت الثورة والأحداث المصاحبة لها فئات أكثر على الخروج للمجال العام والمشاركة فيه والتعرف إلى المدينة وقضاياها، والتي لم تكن معروفة لهم/ن من قبل، أو لم يسبق الاهتمام بها من قبلهم/ن. وكانت دينا ضمن هذه الفئات.

انعكس التغيير الشخصي والعام المُصاحب للثورة على موقفها من السفر. تقول: “صار وجودي في المدينة وفي مصر مرتبطاً عندي بأشياء محببة، وبمكتسبات جديدة، مثل الجلوس على المقاهي والسهر والسفر داخل مصر كثيراً. بدأت أشعر أن مصر فيها أشياء وأماكن كثيرة لن أجدها خارجها”. تعدد هذه الأشياء: المقاهي البلدي، البساطة، الحياة غير المكلفة، الحياة الاجتماعية المختلفة عن الخارج، السهر لأوقات متأخرة دون خوف.. كل هذا جعلها تتصالح مع المدينة ومع فكرة البقاء في مصر، وتحب وجودها فيها، لكنها تقرن ذلك بـ “ثورتها الشخصية”.

قضت دينا طفولتها في منطقة جليم، حتى عُمر الثانية عشر. انتقلت حينها مع أسرتها للعيش في حي سموحة الجديد آنذاك، والذي يُعتبر الامتداد العمراني حديث التأسيس للإسكندرية في فترة الثمانينيات والتسعينيات. تصف دينا تغير السكن بالـ “نقلة”، أي نقطة تحول في حياة الأسرة: “لم نكن نسكن في منطقة جميلة من حي جليم، وكنا نعيش في الطابق السابع ببناية لا يوجد بها مصعد، في حين كانت سموحة منطقة قيد التعمير وقتها”.

حتى النصف الأول من القرن العشرين، كانت سموحة أرضاً غير مُعمرة، تنتشر بها المستنقعات المُحيطة بـ “بحيرة الحضرة”. في عشرينيات القرن، بدأ التاجر العراقي اليهودي جوزيف سموحة تجفيف البحيرة. بعدها، حصل بنفوذه الاقتصادي وعلاقاته الملكية على حق الانتفاع بمئات الأفدنة فيها من وزارة الأوقاف، مقابل استصلاحها. خطط سموحة للحي، كي يكون منطقة سكن “راقي للعائلات الارستقراطية” والأجانب. عقب إعلان الجمهورية في الخمسينيات، وهجرة الأجانب في الستينيات، ترك جوزيف سموحة مصر، ودفعت الحكومة المصرية تعويضا ماليا لنظيرتها البريطانية مقابل التنازل عن المنطقة، كون سموحة كان حاملاً للجنسية البريطانية.

مع بداية عصر “الانفتاح”1 في السبعينيات والعقود التالية، تصاعدت حركة المقاولات، ومعها طبقة جديدة من الأفراد والمجموعات العاملة في مجال شراء الأراضي وقطاع التشييد والبناء، خاصة بالمناطق الجديدة، ومنها سموحة. والد دينا كان أحد هؤلاء الأفراد. تقول دينا أن حصول الأب على أرض منزلهم بسعر منخفض كان سببا رئيسيا للتغيير، دون أن تشكل فكرة قِدم/حداثة المدينة ولا مسألة المكان الذي نشأت وتكونت فيه العائلة جزءاً من نقاش أو اهتمام الأسرة حول هذا الانتقال. لم يكن الأمر سوى فرصة أفضل للترقي، مقارنة بالمنطقة الشعبية التي كانوا يقطنونها. تصف دينا أصحاب البناية القديمة بأنهم كانوا “أشخاص غير جديرين بالاحترام، وسيئي السمعة”. بالرغم من كون سموحة بالنسبة لهم منطقة بعيدة تستقر على أطراف الإسكندرية، أكثر منها منطقة راقية كما اكتسبت شهرتها لاحقا، إلا أن الانتقال من منزل لآخر داخل حي سموحة نفسه، ظل مرتبطا بالترقي والصعود الاجتماعي للأسرة. توضح دينا: “لما نقلنا من عمارة للثانية، كانت نقلة كبيرة أيضا، لأن الثانية كانت أكبر، وأسفلها مول (مجمع تجاري)، يقصده الإسكندرانيون للتسوق والترفيه”.

لم يكن لدى دينا في ذاك الوقت ارتباط مع أحياء مدينة الإسكندرية الأقدم ولا بيتها الأول. تقول دينا إن علاقتها بالمدينة تكونت على مرحلتين، أولا: الزواج والعمل الذي سمح لها بالخروج والاحتكاك بالمدينة. ثانيا: مرحلة الثورة التي وطدت ارتباطها بالإسكندرية، كما سبق وأشارت. قبل ذلك، كانت معزولة اجتماعيا على حد تعبيرها: “زمان ماما كانت تقول لي: لاء، المناطق الشعبية مثل حي بحري ده، احنا منروحهاش”.

مجتمع “الفقاعة الآمنة”

انحصر هذا الارتباط الحديث بأحياء المدينة في محبة القديم بها، دون الانتقال للمعيشة فيه: “لا مش عايزه أمشي من سموحة أنا مبسوطة هنا”. ترى أن كل الخدمات التي تحتاجها موجودة بها، بالإضافة إلى وجودها بالقرب من وسط المدينة التاريخية. تخمن: “ربما لو كنت أعيش بمنطقة أخرى من سموحة نفسها كان الأمر سيختلف، أو سيكون أسوأ”. لا تحب الذهاب للجهة المقابلة لسموحة، حيث منطقة سيدي جابر المحطة وما بعدها، “بالنسبة لي، الناحية التانية دي مش موجودة، سيدي جابر، رشدي، سان استيفانو، سيدي بشر، كل ده بالنسبة لي ملغي، مش بحب المناطق دي”. تبرر ذلك بأن هذه المنطقة لا ترتبط بأي تاريخ، وأنها ليست سوى مناطق مكتظة على الدوام، وهي تكره الزحام.

يستقر بالجهة المقابلة التي لا تحبها دينا عدد من النوادي المهنية للقضاة والمهندسين والمعلمين، إلخ، والتي تحجب شاطئ البحر عن الرؤية. في هذه المناطق لا يمكن النزول إلى البحر، خلافا للأحياء القديمة. صحيح أن الشواطئ هناك مخصخصة والدخول إليها بتذاكر، لكنه لا يزال متاحا في بعض منها.

تربط دينا بين شعورها بالأمان وبين عيشها في سموحة. تصمت لبرهة ثم تُكمل: “أعتقد أن جزءاً من تحمُلي العيش والبقاء في مصر هو أني أعيش في الـ safe Zone (مساحة الأمان)”. لا تُحاول تعريض نفسها لأي شيء يمكن أن يُنغص عليها عيشتها. يدفعها الاحتكاك بالناس والاستغراق بالتفاصيل إلى الاحتكاك بالمشكلات، وهي لا تود أن ترهق نفسها بأشياء ضاغطة. تشير إلى أن أي شيء تود فعله لابد أن يكون داخل سموحة. “أي حاجة خارج سموحة مبروحهاش”. أسألها: ألا تشعرين أنك تعيشين داخل فقاعة؟

ترد “طبعا. لكن هذا لا يهمني”. ترى أن الفقاعة طريقة مناسبة للتكيف مع مصر. تعتبر منطقة سموحة بالنسبة للإسكندرية أشبه بكومباوند (منتجع مسور) لكن دون سور مادي. تعتقد دينا أن وجودها وارتباط خريطة تحركها بهذا المجتمع، خلق نمطا محددا لشكل حياتها، مرتبطا بالحي نفسه، حيث تتمتع بعضوية في نادي سموحة الرياضي، ويعيش والد ابنتها ووالدتها إلى جوارها. تقول إنها لا تقاطع الأماكن الأخرى لكنها تذهب إليها على سبيل النزهة، ليس من الضروري أن تعيش فيها، خاصة وأن حياتها داخل المدينة والبلد بأكملها، باتت على المحك، مع شعورها الدائم بالعجز عن التأثير.

بحثاً عن الحياة البسيطة

في السنوات الماضية، شاركت دينا في مبادرة لإنقاذ هوية الإسكندرية. تقول أنها حاولت من خلالها وقف نزيف الهدم والتغيير البصري والعمراني في هوية المدينة، لكنها تُكمل مسرعة “لم نتمكن من عمل شيء، ولم يتغير شيء، أزعجني ذلك جدا”. من ناحية أخرى، حاولت تدارك الأثر النفسي لعدم القدرة على التأثير، بتغير منظورها وعدم تقييم الأمور بالأبيض والأسود، لذا لم تعتبر خسارة معركة الدفاع عن المدينة في وجه التطوير الخرساني والكباري الإسمنتية النهاية. تسترجع “قلت لنفسي: طيب خلاص، مش مهم المباني، على الأقل لسه فيه بحر وبقدر أتمشى على الكورنيش، ولسه الأماكن القديمة موجودة، إلا إن الوضع الحالي يزيل ما حاولت أن أواسي نفسي بوجوده عن ضياع القديم”. تعرب عن تأثير ذلك عليها قائلة: “أخرجوا الإسكندرية مني، ويبقى أن أخرج أنا الآن منها”.

يُحوّل التغيير الجاري الآن بالمدينة فرص الحياة البسيطة إلى حياة “fancy” مكلفة، وهذا ما تبغضه دينا: “مبحبش الحياة اللي كلها أماكن أنيقة وكافيهات ومطاعم، وحتى المساحات العامة بتقل فيها، وكل ما تقل أشعر أنني أنفر من المدينة بشكل عام أكثر، ليس فقط في الإسكندرية، ولكن حتى في مناطق مثل سيوة في غرب البلاد، ودهب بالشرق”. تتجه العمارة نحو شكل يقضي على الطبيعة، وهذا يزيد من رغبتها بالعيش في مكان تكون الطبيعة والمساحات العامة جزءاً منه. ومن هنا يصير السفر أكثر إلحاحا.

من وجهة نظر المعماري أحمد برهام فإن هدف عملية التحديث الرسمي الجاري هو “إعادة تصميم المدينة بطريقة تحصر قدرة البقاء على من يستطيع مواكبة وتحمّل أعباء المدينة المستجدّة”. يجري تعديل المدينة بحيث تقتصر طبقيَّا على الفئات الأغنى، ومؤقتة الاستخدامات، مثل المعارض الفنية والأنشطة الترفيهية والتجارية المُتغيرة باستمرار. وللأمر تداعياته الاجتماعية، إذ كلما زادت حصرية الاستخدام ومنع الناس من دخول حيز ما، كلما زادت الجرائم، وفق دراسة عمرانية في مارس/آذار 2019 بعنوان "قراءة تحليلية في عمران الخوف. دراسة حالة المجتمعات المسورة بالقاهرة الكبرى"، للباحثتين رغد مفيد محمد إبراهيم وشيماء سمير كامل عاشور من كلية التخطيط العمراني والإقليمي لجامعة القاهرة.

الرحيل هو كذلك امتياز لا يملكه الجميع

هناك سبب شخصي آخر لعب دوره في تردّد دينا حول قرار الهجرة، وهو موقف طليقها الرافض لسفر ابنتهما معها. عزّز هذا السبب من رغبتها في التأقلم خلال السنين الماضية، وإيجاد أشياء تحب البقاء من أجلها في مصر. لكن مع ترعرع ابنتها وزيادة ارتباط دينا بالطبيعة، لم تعد قادرة على التحمل أكثر. تفكّر في أستراليا كوجهة مناسبة للهجرة، لأن شقيقيها يعيشان هناك، م قد يسهّل نسبيّا السفر إليها ويقلّل من الشعور بالغربة، خاصة وأن زياراتها السابقة هناك تركت لديها انطباعا بأن “البلد وناسها لطيفين” على حد قولها.

ليس البقاء داخل المدينة المُتحولة وحده الذي يعد امتيازً طبقيا واقتصاديا لا يملكه الكثيرين، لكن كذلك الرحيل. أمام الراغبين بترك البلاد، يوجد مساران للسفر إلى الخارج، أحدهما قانوني، وآخر غير شرعي. تتباهى السلطات المصرية في السنوات الأخيرة بالقول إن “مصر لم تشهد خروج أى مركب هجرة غير شرعية من أراضيها” وفق تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمّة فيشجراد في أكتوبر/تشرين الأول 2021. تحوم شكوك حول دقة هذا التصريح، لكن يبقى أن قضية الهجرة والحد من تدفق مهاجرين/ات دول الجنوب العالمي توجد على قمة أولويات المجتمع الدولي لا سيما في أوروبا، الأمر الذي تستخدمه السلطات كورقة ضغط بالمقابل.

على الجانب الآخر، يتطلب اتخاذ المسار الشرعي إجراءات وأموال، ليست في مقدور الكثيرين/ات من الساعين/ات للرحيل. كما أن حذو الطريق القانوني مقرون باحتمالات غير مضمونة النتائج. فعلى الرغم من تمتع دينا بامتيازات جيدة نسبيا (لغويا، طبقيا، ماديا)، إلا أن كل ذلك لم يمنع رسوبها في اختبارات العمل المهني بأستراليا، والذي كلفها مالا ووقتها. يمثل هذا الاختبار إجراءً واحداً فقط ضمن سلسلة المتطلبات اللازمة للسفر، والتي ستضطر لخوضها مجدّداً كي تتمكن من تحضير أوراقها بشكل رسمي.

ليست دينا الوحيدة في محيطها التي قررت ترك مصر. سافر الكثيرون، بدوافع مختلفة. كثيراً ما كانت الأسباب الاقتصادية هي الأبرز في حكاية الراحلين/ات عن البلاد، بينما لم يُفسح مجالا أوسع لمُشاركة مشاعر أعقد ودوافع أكبر عن قرار الرحيل، سقطت سهوًا أو عمدً تحت وطأة ما هو أعنف وأوضح.

1ملاحظة من هيئة التحرير: تبنت الدولة سياسة “الانفتاح” في عهد الرئيس السابق أنور السادات، وغيرت توجهها من الاشتراكية نحو الرأسمالية.