المملكة العربية السعودية

نوبيون مصريون أمام القضاء.. والتهمة غياب صورة عبد الفتاح السيسي!

آلت عمليات التهجير التي شهدها النوبيون في مصر إلى استقرارهم في أماكن وبلدان عدّة، سيما المملكة العربية السعودية. لكن حادثة تنافس داخلية في إحدى الجمعيات الثقافية النوبية في الرياض مع تقارب المصالح ووجهات النظر بين النظامين المصري والسعودي، عادت بالضرر على أفراد من هذه الجالية فباتوا متهمين في قضية أمنية.. على خلفية ندوة تاريخية تطرّقت إلى مشاركة المشير الطنطاوي في حرب أكتوبر 1973.

غرافيتي للمشير محمد حسين الطنطاوي في القاهرة، بإمضاء الفنان المجهول “كايزر”.

في 28 سبتمبر/أيلول 2022، سيُحال 10 نوبيين مصريين في جلسة خامسة للمقاضاة أمام المحكمة الجزائية المختصة في الرياض، والتي [تتهمها منظمة العفو الدولية] بأنها تُستخدم “منذ عام 2011 بصورة ممنهجة لمقاضاة الأشخاص بناءً على تهم مبهمة، غالباً ما تساوي بين الأنشطة السياسية السلمية والجرائم المرتبطة بالإرهاب”. وتعود خلفيات هذه القضية إلى أواخر سنة 2019، حيث اعتزمت مجموعة من الجمعيات النوبية في الرياض عقد ندوة يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول حول المحاربين النوبيين الذين شاركوا في حرب أكتوبر 1973، وتم تصميم لافتة بصورهم، ومن أبرزهم الصُّول الراحل أحمد إدريس، وهو الذي اقترح فكرة تشفير المراسلات الحربية باللغة النوبية، وقد ساهمت فكرته في تأمين المراسلات المصرية خلال الحرب، وكذلك المشير الراحل محمد حسين طنطاوي1 بصفته أحد الضباط الذين شاركوا في الحرب.

صبيحة يوم الندوة، اتصل الأمن السعودي برئيس الأسرة النوبية عادل سيد، ورئيسها السابق فرج الله يوسف، بالإضافة إلى مستأجِر مقر الأسرة النوبية ومسؤول صفحتها على الفيسبوك ومصمم اللافتة، وطلب منهم الذهاب إلى قسم الشرطة. وبمجرد خروج كلٍّ منهم من منزله، وجد القوات تحيط به وتقوده إلى التحقيقات. كما تمت مداهمة مقر الندوة في ذات الوقت، وكان بداخله خمسة أشخاص اعتُقلوا جميعا، دون أن تكون لهم علاقة بتنظيم الندوة. وعقب التحقيقات، أفرجت السلطات السعودية عنهم بالإضافة إلى مصمم اللافتة، واحتجزوا الأربعة الباقين لمدد تتراوح بين شهر وشهرين. وخلال هذه الفترة “أظهر أحد وكلاء النيابة تعجّبه من وجود قضية، فتم تغييره في التحقيق الذي يليه”، بحسب عمرو فرج الله.

لم تقم السفارة المصرية في تلك الفترة بتقديم مساعدات قانونية، وبعد خروج المعتقلين، طمأنتهم بأن الموضوع انتهى، إلا أن بعضهم فوجئ أثناء التقدم بطلب تأشيرة خروج لقضاء الإجازة في بأنهم ممنوعون من السفر على ذمة القضية، وقد شمل المنع جميع من سبق إيقافهم.

قامت القوات السعودية بإعادة اعتقال العشرة في 14 و15 يوليو/ تموز 2020، وهذه المرّة، هوجمت المنازل، واستولت الأجهزة الأمنية على الهواتف والحواسيب، ولم يستطع ذووهم معرفة أماكن احتجازهم حتى ورد الاتصال الأول من أحد المعتقلين بأسرته في ديسمبر/ كانون الأول 2020. وهم اليوم معتقلون في سجن عسير، في مدينة أبها، التي تبعد 950 كم عن العاصمة الرياض.

نصف قرن من الحضور

اعتاد النوبيون المصريون أن ينظّموا أنفسهم في تجمعات في أي مكان يجتمعون فيه خارج مدنهم أو قُراهم، وذلك منذ أول عملية تهجير عام 19022. وتنشأ هذه التجمعات سواء كان النوبيون في مدن ومحافظات مصرية، أو ارتحلوا إلى دول أخرى، ويرجع هذا إلى الترابط الثقافي والاجتماعي الذي يميز النوبيين، وأيضا لوجود قناعة بأن هناك استهدافا لثقافتهم ولغتهم النوبية، يستدعي التواصل بينهم، وتعليم اللغة ونقل الثقافة النوبيتيْن إلى الأجيال الجديدة. تشكّلت الجمعيات النوبية لأغراض ثقافية أو اجتماعية، وبحسب الناشط النوبي آدم (اسم مستعار) فقد “تم منع النقاشات السياسية الخاصة بالاختلافات الأيديولوجية بين المصريين داخل الجمعيات النوبية”، فالآراء السياسية المتعارضة في مجتمع مشحون بالكراهية ضد الآخر، كانت كفيلة بتفكيك إرث أكثر من قرن من محاولات التماسك الاجتماعي للنوبيين، لذا تم الإسراع في إغلاق هذا الباب مع ثورة 25 يناير.

ونشأت أول جمعية نوبية في الرياض عام 1970 بعد نهاية عملية التهجير الكبرى إثر بناء السد العالي بست سنوات، وبلغ عدد الجمعيات أكثر من 30 جمعية نوبية بالرياض فقط، لها 17 مقرا. ومع تعدد الجمعيات النوبية أصبحت هناك ثلاث أُسر نوبية كبرى تجمع النوبيين في المملكة السعودية، وهي الأسرة النوبية في الرياض، وفي جدة، وفي المنطقة الشرقية. وفي الرياض حدثت ثاني أكبر قضية للنوبيين المصريين3، على الأقل، في العقود الأربعة الأخيرة.

أقامت الأسرة النوبية في الرياض العديد من الفعاليات الثقافية، منذ تأسيسها عام 1990، ومنها ما كان مشترَكا مع السفارة المصرية بطلب منها، أو بحضور السفير لندوات أقاموها، ومنها ما كان بدعوة من مؤسسات سعودية. وكان من المفترض أن تمر ندوة “النوبة نواة الجيش المصري” كسابقاتها، لكنها فتحت بوابة السجون السعودية لعشرة أشخاص وذويهم.

طرد الأُسَر

تعبّر النيابة السعودية رسميا عن القضية بأنها قضية فرج الله يوسف ومرافقيه، والدكتور فرج الله أحد علماء الآثار الإسلامية، ويعمل مستشارا لهيئة الآثار والسياحة السعودية التي يرأسها الأمير سلطان نجل الملك سلمان. أخبرتنا زوجته، السيدة فاطمة، أنه خلال اعتقاله الأول “كانت الأصفاد موضوعة في قدميه، ونظرا لأنه مريض بالسكري، تسببت الأصفاد في إصابته بقدمه، وأجريت له خلال فترة احتجازه 4 عمليات جراحية”، وكان من ضمنها عملية بتر.

وبعد إعادة اعتقال فرج الله منتصف 2020 وحتى الآن، لم تستطع زوجته رؤيته سوى مرة واحدة في ديسمبر/كانون الأول 2020، وبعدها منعوا عنه الزيارة تماما، رغم أن إدارة السجن كانت تتصل بها لزيارته لكن تمنعها من رؤيته حين مجيئها. وتضيف أن اتصالات زوجها انقطعت منذ شهر مارس/آذار 2022، ولا تعرف عنه شيئا منذ ذلك الوقت، ولا توجد أي وسيلة للاطمئنان عليه".

زاد من معاناة السيدة فاطمة أن زوجها كان عائل الأسرة الوحيد، وبعد اعتقاله “كانت وحيدة في بلد غريب، ولم تتمكن من دفع الإيجار”. كما تم استدعاؤها وبعض زوجات المعتقلين من قبل الأمن السعودي الذي طلب منهن مغادرة البلاد، بحجة عدم وجود عائل لهن، لكنها رفضت قبل أن تُضطرّ للعودة إلى مصر منذ أكثر من عام بعدما لم يتم تجديد إقامتها.

ويروي عمرو، ابن فرج الله الأكبر، أن شقيقته الوحيدة تخرجت من جامعتها دون والدها، لتضطر إلى “حمل صورته على هاتفها وتلتقط صورها التذكارية هكذا”، واضطر هو الآخر “إلى أن يتزوج دون وجود والده معه، واختار والده اسم أول أحفاده وهو في السجن”. وبالضرورة ارتبكت أوضاع أشقائه المالية، لأن “عمل والده مع الهيئة بدون عقد وترتبط المستحقات بتواجده في العمل، وبعد اعتقاله، لم تعد تُصرف إليه المستحقات، والأموال التي لدى الهيئة أو البنك لا يمكنهم الوصول إليها”.

أما محمد فتح الله، مسؤول الصفحة التي أعلنت عن الندوة، فقد طلبت زوجته الانفصال عنه، وبحسب شقيقه مؤمن، فإنها “كانت في العام الأول من اعتقاله تحاول فهم ما حدث معه، وعندما استشعرت أن الاعتقال سيطول طلبت الطلاق”. يقول مؤمن إنهم رأوا شقيقهم لآخر مرة في مارس/ آذار 2019 عندما كان في زيارة إلى مصر ويضيف: “كنتُ إذا تعثرت في مشاغل الحياة أطمئن لمعرفتي بأن هناك من سأستند عليه، والآن لا أجد هذا الاطمئنان”.

ويجتمع هذا العبء مع كون الاحتجاز في دولة أخرى، ما يجعل أيديهم مقيّدة. ويطالب مؤمن بتدخل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من أجل إنهاء معاناتهم. أخبرنا آدم المقرّب من أسر المعتقلين أن المعتقل “وائل إسحاق لا يعلم حتى الآن بوفاة والده، لأن أهله لا يقدرون على إبلاغه بالوفاة لشدة تعلّقه به. ووالده كان من الشخصيات المعروفة، ودعته الرئاسة إلى إفطار الأسرة المصرية الذي يشارك فيه السيسي، ورغم علاقاته الواسعة فإنه لم يستطع تقديم أي عون لابنه حتى وفاته”.

كذلك توفيت والدة رئيس الأسرة النوبية، ولم يخبره ذووه بذلك خوفا عليه من الخبر وهو في منتصف العقد السابع من عمره. أما صالح جمعة الذي كان متواجدا في المقر وقت مداهمته، فقد توفيت والدته وهي تنادي باسمه، ففارقت الدنيا دون أن تطمئن عليه أو تراه، وهو معتقل في بلد يبعد عنها مئات الكيلومترات.

“كأن التحقيقات تُكتب في مصر وتُسأل في السعودية”

عقب اعتقال عام 2019، أصدرت القنصلية المصرية العامة بالرياض إعلانا للمصريين بدا منه التنصّل من مسؤوليتها تجاه مواطنيها، ولم تقم بمتابعة القضية مع المؤسسات السعودية، ولم تشارك في تكليف محامين للدفاع عنهم، الأمر الذي كان مثار تساؤل، حتى اتضحت طبيعة الأسئلة في التحقيقات وبدأت الخيوط في التجمّع.

يقول آدم: “تركّزت التحقيقات على أسباب وضع صورة المشير محمد حسين طنطاوي، وعدم وضع صورة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. كما سُئلوا عن آرائهم في قضية عودة النوبيين إلى مواطنهم التي هُجِّروا منها في ستينيات القرن الماضي، فكأن التحقيقات كانت تُكتب في مصر وتُسأل في السعودية”.

ويضيف “خلال جلسة تلاوة التهم في سبتمبر/أيلول 2021 سمع المعتقلون والحضور الاتهامات لأول مرة بعد أكثر من عام من الاعتقال، وكان منها ما تعلق بإنشاء جمعية بدون ترخيص، وإشاعة أخبار كاذبة، وطالب الادعاء بمحاكمتهم وفقا لمواد تتعلق بالإرهاب”. وتقع هذه المواد في نظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وتتسم بكونها فضفاضة وتحمل ألفاظا عامة مثل: الإخلال بالنظام العام - زعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة، إلخ.

ويعتقد آدم بأن الأمر يعود إلى تنافس داخلي:

تُجري الأسرة انتخابات على مقاعد إدارتها، وقد جرى تنافس على مقعد رئيس الأسرة بين “أ.ب” وعادل سيد. الأول معروف بصلته بضباط الاتصال بالسفارة المصرية، وقد خسر الانتخابات، ثم جرى شجار بينه وبين عادل، أعلن بعده لأعضاء في الأسرة بأن أمرا ما سيحدث بعد أيام. وقبيل اعتقال هذه المجموعة بيومين عام 2019، سافر الرجل إلى مصر. وخلال التحقيقات أخبرهم أحد المحققين أن هناك شخصا داخل الأسرة قام بالإبلاغ عنهم.

يضيف آدم: “تواصلت الأُسَر مع مجلس الوزراء المصري، ووزارتيْ الخارجية والهجرة، وأعضاء من مجلس النواب، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، لكن لم يصلهم رد كتابي أو شفهي من أي جهة”. لكن منظمات حقوقية تضامنت مع القضية مثل منظمة العفو الدولية، ومراكز معنية بالشأن الخليجي مثل مركز الخليج لحقوق الإنسان ومنظمة القسط لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى عدد من المراكز المصرية الحقوقية، مثل مركز القاهرة لحقوق الإنسان، ومركز النديم لمناهضة العنف والتعذيب وغيرهم، وطالبوا بالإفراج عن المعتقلين العشرة. كما تواصلت الأسر مع عدد من المحامين المصريين للدفاع عن ذويهم، لكن السفارة السعودية في مصر “رفضت إعطاءهم تأشيرات لدخول المملكة”، وفق آدم.

وقد اتجهت العائلات لهذا الإجراء لأن المحامين السعوديين “يعتذرون عن الدفاع عندما يعرفون أن القضية أمنية. وبعضهم يطلب مئات آلاف الريالات لأجل الدفاع عنهم، وهو ما فهموه على أنه اعتذار بطريقة غير مباشرة، خاصة أنهم لا يستطيعون جمع المبالغ المطلوبة”. وقد قامت المحكمة بانتداب محامٍ للدفاع عن المعتقلين، لكنه، وفق آدم، “لا يجيب على اتصالات الأُسَر، ويرفض إعطاءهم أي شيء يتعلق بالقضية، بما في ذلك مذكرة الادّعاء، بحجة أنها أسرار الدولة. فنحن حتى الآن لا نعرف الاتهامات كاملة بصورة رسمية، كما يرفض المعتقلون في المكالمات ذكر أي تفاصيل عن القضية بسبب الرقابة الأمنية. وعندما تحّدث أحدهم عن بعض التفاصيل قطعت إدارة السجن المكالمة”.

وفقا لأُسر المعتقلين، فقد كتب المحامي المنتدَب في الجلسة الثانية ليناير/ كانون الثاني 2022 أن الاعترافات انتُزِعت تحت إكراه، فاعترض الادعاء على وجود إكراه، وألزمه القاضي بتعديل مذكرة دفاعه. الأكثر إثارة في الدور المصري المتعلق بالقضية، قيام قناة “بي بي سي” العربية في مصر بعمل تقرير عن المعتقلين عام 2021، لكن عند موعد عرضه لم تتم إذاعته، وبعد مراجعة القناة عدة مرات أُبلغوا في النهاية بأن “إدارة القناة تعرضت لضغوط اضطرتها لتأخير موعد عرض المادة، وانتهت القناة إلى بث تقرير مختصر، ونحن هنا نستغرب من سلوك الأمن المصري، ولا نُحمّل ما حدث للقناة التي أعادت التواصل معنا بعد أربعة أشهر، وأذاعت مقابلة كاملة” وفق آدم، ورفض عمرو فرج الذي أُجريت معه المقابلتان التعليق على هذه الرواية.

راجعنا التفاصيل التي ذكرها آدم مع مصدريْن آخريْن أكدّوا صحتها. ربما يرجع السلوك المصري إلى رغبته في السيطرة على أي تجمعات مصرية في الخارج بعدما أحكم قبضته الأمنية على الداخل المصري، خاصة أن التجمعات النوبية تمتاز بأنها منظمة ولديها القدرة على التواصل الداخلي، مما يرفع حساسية الأنظمة الأمنية تجاهها، وإن كان تجمعا بعيدا عن السياسة. ووفق بيان سابق للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن تعداد المصريين في المملكة يبلغ 2.9 مليون مصري وهي أكبر جالية مصرية في العالم، ويعتبر المسؤولون المصريون المهاجرين خطرين، والدارسين أخطر هذه الشرائح، ويسعى النظام دوما إلى التجسس عليهم ومراقبتهم، واعتقال من يبدي آراء معارضة عند عودته إلى مصر.

1رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي حكم البلاد بعد سقوط الرئيس حسني مبارك ووزير الدفاع منذ 1991 حتى تعويضه بالمشير عبد الفتاح السيسي في أغسطس/آب 2012.

2تعرّض النوبيون لأربع عمليات تهجير الأولى عام 1902 أثناء إنشاء خزان أسوان، وشهد عاما 1912 و1933 عمليتي تهجير خلال القيام بالتعلية الأولى ثم الثانية للخزان. وفي عاميْ 1963 - 1964، حدث التهجير الأكبر خلال إنشاء السد العالي، ونُقل نوبيون إلى أماكن أبعد من موطنهم الأصلي بمئات الكيلومترات

3القضية الأكبر كانت في مصر، وعُرفت بقضية “معتقلي الدفوف”، وضمت 24 شخصا عام 2017، وأثارت انتقادات حقوقية شديدة، وتوفي جمال سرور أحد المعتقلين بعد بدء إضرابه عن الطعام، وكان يحمل الجنسية الفرنسية.