تحقيق

“هآرتس”، آخر أقطاب المعارضة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي

“إسرائيل عشية ثورة يمينية ودينية وسلطوية”، هكذا عنونت صحيفة “هآرتس” غداة الانتخابات التشريعية الإسرائيلية التي انعقدت في الأول من نوفمبر/تشرين 2022، والتي أثبتت تجذُّر تيار يميني متطرف فاشي النزعة، وإنكار حقيقة وجود القمع في فلسطين. وإذا كانت قوى اليسار التقليدية (حزب العمل وميرتس) قد أفلست، وحدها جريدة “هآرتس” الليبرالية تحافظ على توجّهٍ معارض متّسق في مواجهة السياسات الرسمية. تحقيق حول جريدة يومية لا مثيل لها.

قاعة تحرير جريدة “هآرتس” في تل أبيب، 24 يوليو/تموز 2019.
Deror Avi/Wikimedia Commons

ما إن تطأ قدمكم إسرائيل، تشترون جريدة “هآرتس” فتجدون العنوان التالي:“ارموا المادة في آبار المياه. وثائق قديمة تظهر شنّ الجيش الإسرائيلي حربًا بيولوجية في عام 1948”1. عند قراءة المقال، تكتشفون أنه تم إصدار أوامر بتسميم آبار المياه في القرى الفلسطينية إبّان الحرب الأهلية التي وقعت بين قوات الـيشوف (الاستيطان اليهودي في فلسطين) والسكان الأصليين في الفترة التي تلت قيام دولة إسرائيل، في 15 مايو/أيار عام 1948. كانت تلك العملية التي أطلق عليها اسم “ارمِ خبزك”2، والتي صمِّمت تحت قيادة بن غوريون الذي أصبح فيما بعد رئيسًا للوزراء، ويغائيل يدين، الذي أصبح رئيسًا للأركان في عهده، تهدف إلى منع الفلسطينيين من العودة بعد طردهم من أراضيهم.

كتب يدين إلى مرؤوسيه رسالة تأمرهم بـ“التحرّك في سرّيةٍ تامة”. وقعت أولى حالات التسمم في إبريل/نيسان عام 1948، بالقرب من عكا وفي القرى القريبة من غزة. سرعان ما تم التخلّي عن هذا التكتيك في نهاية الأمر بعد أن أثبت قلّة فاعليته.

الكشف عن جرائم الماضي

في الآونة الأخيرة، أصبحت “هآرتس”، وهي “الجريدة المرجع” في إسرائيل، تنشر بوتيرة متلاحقة معلومات من هذا النوع، تتناول فيها الطريقة التي طردت بها إسرائيل الفلسطينيين من أراضيهم. غالبًا ما تستقي تلك المعلومات من أبحاث المؤرخ الشاب آدم راز، الذي كوّن في عام 2015 مجموعة عمل باسم “معهد عكيفوت لبحث الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”. وكلمة “عكيفوت” بالعبرية تعني “آثار”، حيث يقتفي راز أثر الماضي الإسرائيلي الذي تعمّد التاريخ الرسمي محوه من أجل طمس الحقائق التي استُبدِلَت بسرديّةٍ بطولية. وينشر راز تلك المعلومات بشكل منهجي في أعمدة “هآرتس”. وقد عيّنت الجريدة صحفيًّا شبه متفرّغ، وهو أوفر أديريت، ليتابع أعمال المؤرّخين الذين “يفكّكون” الروايات الرسمية بالكامل. وفي السنوات الأخيرة، نشرت “هآرتس” أبحاث راز، الذي صدرت له عدة أعمال (منها كتاب “مذبحة كفر قاسم” في عام 2018)، في سلسلة مقالات فاضحة كتبها بنفسه أو كتبها أديريت نقلًا عنه، عن النكبة، وعن مذابح ظلّت طيّ الكتمان، وكذلك عن قضايا مثل إدماج اليهود الشرقيين الذي وفدوا حديثًا في الخمسينيات. يقول المؤرخ: “لم تكن صحيفة”يديعوت أحرونوت“(الصحيفة الأعلى قراءة في البلاد) أو أي صحيفة إسرائيلية أخرى لتقدِم على نشر تلك المقالات. كما يؤكد أن كبرى المؤسسات الإعلامية، باستثناء”هآرتس“، تدافع عن”الرواية الرسمية" التي تتبنّاها الدولة عن ماضي إسرائيل.

لا يقتصر عمل الجريدة اليومية على الكشف عن الماضي الذي يسعى الآخرون إلى دفنه فحسب. بل تكشف عن الحاضر أيضًا، إذ تُعرف “هآرتس” بتغطيتها الإعلامية الفريدة على المستوى المحلي. تقول هاجر شيزاف، مراسلة صحفية شابة تغطي أخبار الأراضي الفلسطينية المحتلة: “لا نخشى تناول الموضوعات الأكثر إثارة للجدل. لا أحد آخر ينشر بشكل منهجي متواصل معلومات كالتي ننشرها”. وتتابع عميرة هاس، أحد نجوم الجريدة المعروفين عالميًا، والتي تغطي أخبار الأراضي الفلسطينية منذ عام 1993، قائلة: “قام صحفي مثل نير حسن منذ عقدٍ من الزمن بتغطيةٍ استثنائية لعملية تهويد القدس والفصل العنصري الصادم الذي يمارَس ضد المواطنين الفلسطينيين. إنه يجسّد التغيير الذي شهدته الجريدة”.

وفقًا لـنوعا لانداو، نائبة مدير التحرير، يتجلّى “التغيير” المشار إليه في ثلاثة اتجاهات: “مبدئيًا، جريدتنا ليبرالية”– بالمفهوم الأنغلو ساكسوني للمصطلح، أي أنها تجنح إلى التقدمية. وتضيف قائلة: “من الواضح أننا مصدر المعلومات الأول عن احتلال الأراضي الفلسطينية ومعاملة المهاجرين وحقوق الإنسان”. كيف حدث هذا التغيير في جريدةٍ ظلّت لسنواتٍ طويلة ترفع راية الصهيونية المزعومة وتنتمي سياسيًا إلى تيار يمين الوسط، بعد أن أعادت عائلة شوكن (عائلة ثرية من اليهود الألمان الذين فرّوا من الحكم النازي) شراءها بين عامي 1933 و1934؟

تجذّر النزعة الاستيطانية المتطرّفة في المجتمع

لتفسير هذا التطوّر، يؤكّد صحفيو الجريدة وجود اتجاهين متقاربين. الأول هو الترسخ المتواصل لسياسة الاستيطان الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة، والثاني هو تجذّر النزعة الاستيطانية المتطرفة للمجتمع الإسرائيلي وتمثيلها السياسي على حدٍّ سواء. دفع هذان الاتجاهان هيئة التحرير تدريجيًّا نحو تبنّي أشكالٍ من “المقاومة” تزيد أو تقل في حدّتها، نابعةً من الشعور بخطرٍ متصاعد يتهدّد “الديمقراطية الإسرائيلية” أكثر ممّا يتهدّد الفلسطينيين أنفسهم. يجسّد عاموس شوكن، رئيس ومدير عام الجريدة منذ عام 1992، النسخة المعتدلة، ولكن غير المتهاونة، لهذا التطوّر. واليوم يقول: “نعم، أنا صهيوني. وحين نؤمن بالصهيونية التي وردت في إعلان استقلال إسرائيل، لا يمكن أن نقبل بقانون الدولة القومية لليهود، لأنه قانون ذو صبغة فاشية”. يفرّق هذا القانون الذي أقِرَّ عام 2018، والذي تم نعته بالـ“أساسي” (بفضل طابعه الدستوري) بين فئتين من المواطنين: اليهود، ويتمتعون بكافة الحقوق، وآخرون (فلسطينيون بطبيعة الحال) لا يتمتعون بكافة الحقوق رغم أنهم مواطنون. يقول شوكن: “هذا القانون يقودنا نحو كارثةٍ محقَّقة”. عارضت هآرتس قانون الدولة القومية لليهود منذ أن عُرِض أول مرة على البرلمان في عام 2011.

عام 2011 هو تحديدًا العام الذي تولّى فيه مدير التحرير الحالي ألوف بن منصبه. “ولكن عملية إطلاق حرية الرأي فيما يخص الفلسطينيين بدأت في عهد مدير التحرير السابق” (دوف ألفون، مدير تحرير جريدة “ليبراسيون” الفرنسية الحالي)، وفق جدعون ليفي، أحد أكثر كتاب الأعمدة نشاطًا (فهو يدعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS). ويضيف: “فيما مضى، كان يستحيل الحديث عن الارتباط الوثيق بين التفوّق اليهودي والصهيونية في”هآرتس“. ولكن في عهد بن، أصبحت مصطلحات مثل”جريمة حرب“و”فصل عنصري“و”التفوق اليهودي“وغيرها مُجازة” في الجريدة. لكننا نشهد منذ ذلك الوقت تناقضًا: إذ يسعى المسؤولون الإسرائيليون إلى إقناع العالم بأسره بأن استخدام مصطلح الفصل العنصري لوصف النظام المفروض على الفلسطينيين يُعَدّ مظهرًا من مظاهر معاداة السامية. ولكن داخل الجريدة الإسرائيلية الأكثر شهرة، “هناك جدل عميق حول استخدام مصطلح الفصل العنصري. ما جعل هذا الجدل ممكنًا أنه مبني على اتفاق جماعي مشترك، ألا وهو قدسية الحق في التعبير”، بحسب أنات كام، صحفية شابة تعمل في قسم الآراء بموقع الجريدة الإلكتروني.

تصاحب تلك التغيّرات على مستوى الألفاظ العديد من التغيّرات الأخرى. يقول ألوف بن: “طالما اعتقدنا أن احتلال الفلسطينيين ما هو إلا وضعٌ مؤقت. ولكن من الواضح أنه أصبح دائمًا. منذ ثلاثين عامًا، إذا قتل الجنود الإسرائيليون طفلًا، كنا ننتظر أن يُفتح تحقيقٌ في الواقعة. أما الآن، يجيز الجيش كافة الممارسات، ولم يعد هناك مجال للتحقيقات. هذا يفسّر نشأة حركة”كسر الصمت“(Breaking the Silence)، وهي منظمة غير حكومية من جنود الاحتياط الإسرائيليين الذين شهدوا ممارسات الجيش في الأراضي المحتلة. هذا أيضًا ما دعا”هآرتس“إلى تطوير نفسها:”غالبية الصحف لا تذكر شيئًا عن حقيقة الاحتلال. في المقابل، تتبوّأ جريدتنا مكانةً فريدة في هذا المجال".

هناك تغيّر آخر على جانبٍ من الأهمية، هو التطوّر الكبير الذي طرأ على طريقة تناول قضية التمييز ضد اليهود ذوي الأصول الشرقية. تقدّم ايريس ليعال، الكاتبة في القسم الأدبي، نفسها بوصفها “الأقلية الشرقية” للجريدة. فهي دائمًا ما تكتب عن موضوعها المفضّل، منتقدةً بشدة “تعامي” قيادات حزب العمل الأشكناز (يهود أوروبا الشرقية) عمّا تعرّض له اليهود الشرقيون تاريخيًّا. تقول: “معظم قرّاء”هآرتس“من الأشكناز (وهم بالتالي أكثر ثراءً وأفضل تعليمًا). وهم يحترمونني لأنني أنتمي إلى اليسار”، (أي ليس لكوني شرقية). في واقع الأمر، “ينعتني بعض القرّاء بالـ”نادِبة“، ويراسلوني قائلين إن”قضية الشرقيين قد تم تخطّيها“. وأغلبهم من الأشكناز. […] لكني أحظى بدعم الإدارة التي تحرص على تناول ما حدث وما زال يحدث لليهود الشرقيين في إسرائيل على نطاقٍ واسع”. وهي تنسب إلى جريدتها الفضل في الحول دون “إسدال الستار على قضية الأطفال اليمنيين”. تظل تلك القضية التي تعود إلى أوائل خمسينيات القرن الماضي بؤرة توتّر ساخنة. حيث أبلِغ أهالي مئات الأطفال حديثي الولادة، المنحدرون من أصول يمنية وعربية أخرى، بوفاة مواليدهم كذِبًا، لكي يتبنّاهم أزواج أشكناز غير قادرين على الإنجاب (منهم من فرّوا من معسكرات الموت).

وقد ظل الجدال محتدمًا طوال 50 عامًا دون أن يُحسم، بين من يدينون تلك الواقعة بوصفها “جريمة دولة” تفوق كل التصوّرات، ومن يطعنون في صحّتها بوصفها روايةً “خيالية” مختلَقة. ووفق ليعال، أفسحت “هآرتس” للقائلين بـ“كذب الرواية” مجالًا كبيرًا للحديث. ولكن ألون عيدان، المسؤول عن صفحات المناظرات التي أفردها لـ“الأصوات المتنافرة”، أعطى مساحةً كبيرة للمؤمنين بأنها جريمة دولة.

تعريب هيئة التحرير

لكن التغيير الأكثر إثارة الذي شهدته هآرتس هو بلا شك البدء في “تعريب” هيئة تحريرها. في عام 2000، أطلقت نوعا لانداو مشروع “هآرتس 21”، وكان الهدف منه تعيين صحفيين فلسطينيين (من مواطني إسرائيل). تقول: “كان من الصعب أن يستمر هذا الوضع. كنّا بحاجة إلى فلسطينيين في هيئة التحرير لسببين: الاتساق مع مبادئنا القائمة على المساواة في الحقوق بين المواطنين الإسرائيليين، والأهم من ذلك، عرض وجهة النظر الأخرى على قرّائنا، والتي لا يسمعها الإسرائيليون أبدًا. لا يسمح النظام الإسرائيلي للفلسطينيين بدراسة الإعلام. لذا كان لنا السبق في ذلك، إذ تلعب”هآرتس 21“دور الحاضنة. فقد ضمّت الدفعة الأولى عشرين شخصًا، يعمل خمسة منهم اليوم في الجريدة”. ستتخرج الدفعة الثانية بعد عام من الآن، وسيجري اختيار خمسة أو ستة صحفيين فلسطينيين منهم للعمل بالجريدة.

كانت شيرين فلاح صعب أولى المرشحين للمنصب. وهي تغطّي بشكلٍ أساسي الحياة الاجتماعية والثقافية للفلسطينيين الإسرائيليين، بأسلوبٍ صحفي غير معتاد. تُنشَر معظم مقالاتها في ملحق “غاليريا” الثقافي. عند سؤالها عن هويتها، تجيب بأنها “معقّدة”. دون أن تتنصّل من هويّتها الإسرائيلية، تشعر بأنها “فلسطينية أحيانًا، وعربية أحيانًا أخرى، وأحيانًا كلاهما معًا”. كما أنها دُرزية، وهي هويةٌ تتصدّر الهويّات الأخرى في ظروفٍ معيّنة. باختصار، تعيش شيرين “الصراعات الداخلية نفسها التي يعيشها غالبية الفلسطينيين الإسرائيليين فيما يتعلّق بالهويّة، والتي يُعزى جزء كبير منها إلى السياسة التي تفرضها علينا إسرائيل”.

فلسطينية تكتب في جريدة إسرائيلية؟ في البداية كان أصدقاؤها ينظرون إليها بارتياب. ولكن هذا “الأمر انتهى” الآن. كما تقول إنها “لا تشعر بالغربة” في هيئة التحرير. يتناول أحد آخر مقالاتها المعنوَن “حياة غسان كنفاني المأساوية”3 سيرة الرجل الذي لا يزال أحد رموز المقاومة الفلسطينية. اغتيل كنفاني في بيروت في 8 يوليو/تموز من عام 1972، على يد أحد عناصر الكوماندوز الإسرائيلي. خصّصت له فلاح صعب ثلاث صفحات في الملحق الأسبوعي، نقلًا عن كتاب داني روبنشتاين، الصحفي السابق في جريدة “هآرتس”. في ذلك الوقت، أيَّد الإسرائيليون اغتياله بوصفه “إرهابيًّا”. أما اليوم، يرى الكاتب أن كنفاني لم يعيّن حرسًا خاصًا، ولم يغيّر محل إقامته، بل ولم يكن يتخيّل أصلًا أن إسرائيل قد تعتبره “إرهابيًّا”. وتعرِض شيرين فحسب قصة رجل يُعَدَ وحشًا في نظر مجتمع، وبطلًا في نظر مجتمعٍ آخر.

“لم يكن أي من ذلك ممكنًا لولا مالك الجريدة” عاموس شوكن، عملاق الصحافة التقدّمي الذي يتعرّض لسُبابٍ دائم من اليمين الإسرائيلي، أشبه بما يتعرّض له جورج سوروس من الدوائر المؤيّدة لترامب، بحسب جدعون ليفي. “إذا اختفت”يديعوت أحرونوت“، ستظل إسرائيل كما هي. أما إذا اختفت”هآرتس“، لن يكون هناك من يتحدث عن الأراضي الفلسطينية، أو المخاطر البيئية أو القمع الذي يطال النساء”. وفي نفس الإطار، يضيف ألوف بن: “هل أصبحنا قطب المعارضة الوحيد في البلاد؟ بشكلٍ ما نعم”. وفقًا له، يبقى السؤال:

ما الذي أودى بنا إلى هذا الوضع؟ هل هو تعبيرٌ عن التعب والإحباط؟ باستثناء المستوطنين والجنود، لا يذهب الناس إلى الأراضي المحتلة. في الوقت الحالي، هناك انتفاضة يتم قمعها بوحشية في جنين ونابلس. لا تقدّم الحكومة ولا الجيش أي تفسيرات. ولكن لا أحد يسأل. نفس الشيء بالنسبة للقصف الإسرائيلي الدائم في سوريا. في واقع الأمر، بعد 15 عامًا من انتهاء الانتفاضة الثانية، لم تعد غالبية الناس تكترث بما يحدث للفلسطينيين.

ويختتم مدير التحرير حديثه قائلًا: “إذا كان الكشف عن الحقائق التي لا يرغب أحد في معرفتها جعلنا فريدين في مجالنا، فهذا لأن العديد من الأمور قد تغيّرت في العقود الأخيرة”. وتضيف الصحفية أنات كام قائلة: “نعم، تمثل”هآرتس“في واقع الأمر الصوت المعارض الوحيد أمام القيادات الإسرائيلية، بيد أن هذا الوضع يخفي وراءه وضعًا آخر، وهو أن الجريدة لا تنجح في إقناع سوى المقتنعين مسبقًا بآرائها”.

انتقاداتٌ يسارية

إذا كانت جريدة “هآرتس” تثير عند غالبية الإسرائيليين ردود أفعال غاضبة، فهي أحيانًا ما تُنتقد من وسائل الإعلام البديلة المعارضة للاحتلال. نذكر منها على سبيل المثال الموقع الإخباري “المكان الأكثر حرارة في الجحيم”، وأيضًا قناة Democrat TV التي ترأسها لوسي أهريش، فلسطينية إسرائيلية. ولكن الموقع الإلكتروني الأكثر نشاطًا هو “مكالمة محلية”، ونسخته الإنجليزية 972mag.com. وينتقد بعض صحفيّي الموقع وزائريه خاصة مَيل “هآرتس” إلى تبنّي لهجةً معتدلة نوعًا ما في انتقادها ممارسات السلطات الإسرائيلية. وتصف المخرجة أنات إيفين موقع “مكالمة محلية” على وجه الخصوص بأنه وسيلة الإعلام الوحيدة التي تعد “مزدوجة الجنسية بحق”. ففريق عملها وإدارتها يتضمّنان أسماء مثل هجاي مطر وأورلي نوي وميرون رابوبورت ويونيت موزس، إلخ... بالإضافة إلى باسل العدرا وفاطمة عبد الكريم وفيرا سجراوي وبكر الزعبي وسميحة هوريني وغيرهم. باختصار، يتساوى عدد الصحفيين الفلسطينيين والإسرائيليين في الموقع.

علاوةً على ذلك، هناك أيضًا أصواتٌ ناقدة داخل “هآرتس”. تؤكّد عميرة هاس، التي تعمل كمراسلة إخبارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تعيش فيها منذ عام 1993، أن جريدتها لا مثيل لها في إسرائيل. “نحن ننشر اليوم مقالات ومعلومات لم تكن لتُنشَر من قبل، ونتيح للفلسطينيين مساحةً إعلامية لا تتوفّر لهم في كبرى وسائل الإعلام”. لكنها تضيف قائلة:

تعطي “هآرتس” انطباعًا بأنها تفعل الكثير. هذا حقيقي مقارنةً بالآخرين. ولكن الأحداث الفعلية تتعدّى إلى حدٍّ كبير ما يُنشَر في الصحيفة، سواء أكانت حوادث قتل جنود لأطفال، أو هجمات مستوطنين على المزارعين الفلسطينيين، أو الوسائل التي تتّبعها إسرائيل للاستيلاء على الأراضي. ربما يمكننا تغطية كل ما يحدث في وجود عشرة صحفيين إضافيين، إذا سمح “التصنيف”4 بذلك.

كما يجب في نظرها توجيه الاهتمام إلى المجتمع الفلسطيني بقدر الاهتمام بالمواجهات اليومية. وتركز عميرة على “المفردات” التي “لم تتحرّر من اللغة الرسمية بالقدر الكافي” حين يتعلّق الأمر بالكتابة عن الفلسطينيين. مثال على ذلك: إذا تزايدت عمليات إطلاق النار الفلسطينية، يُنقَل مصطلح “التصعيد” الذي أطلقه المتحدث العسكري على الفور بشكل آلي كما هو في الجريدة. لكن “تسارع وتيرة الاستيطان”، وهي العملية الأكثر استمراريةً وعنفًا على الإطلاق، لا توصف أبدًا بالتصعيد“. مثال آخر:”دائمًا ما تُذكَر المستوطنات للإشارة إلى موقع المدن أو القرى الفلسطينية في وسائل الإعلام، من بينها “هآرتس”، مّما يعطي إحساسًا زائفًا بالتعايش والاستقرار. فبدلًا من القول أن مدينة سلفيت قريبة من أرييل (مستعمرة إسرائيلية ضخمة)، أفضّل القول أنها تقع في جنوب غرب ناباس، وأن أرييل شُيِّدت على أرضها“. وفي الوقت نفسه، تؤكّد قائلة:”في هآرتس، نتمتع بمناخ من حرية التعبير لا نجده في كبرى وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى، والتي تمارس جميعها رقابة ذاتية صارمة عند ذكر الاحتلال والاستيطان".

تأثير على الصعيد الدولي

في هذا الصدد، ما تأثير هآرتس على المجتمع؟ يختلف الصحفيون قليلًا حول تلك النقطة. تعتقد شيرين فلاح صعب أنهم استطاعوا “تحريك المياه الراكدة”. فهي تلاحظ ذلك في الرسائل التي تتلقّاها، حتى وإن لم تخلُ من الشتائم (“لا ألقي لها بالًا”). تقول هاجر شيزاف: “أحيانًا ما نسجّل نجاحًا على نطاق صغير، كأن نجبر الجيش على تعديل أحد تصريحاته. لكن لو قمت بعملي على أمل أن أغيّر مجرى الأمور، أعتقد أنني سأصاب باكتئاب شديد”. من جانبه، يرى جدعون ليفي بكل أسى أن تأثير جريدته على المجتمع الإسرائيلي “يكاد يساوي صفر”. لكن، من ناحيةٍ أخرى، بات تأثيرها على الصعيد الدولي ملحوظًا. والدليل على ذلك تزايد مبيعات نسختها الإنكليزية (الصادرة بالتعاون مع الجريدة الأمريكية “نيويورك تايمز”) وعدد زوّار موقعها الإلكتروني. فالساسة ورجال الأعمال والدبلوماسيون وأساتذة الجامعات وكل المهتمّين بشؤون الشرق الأدنى “يعلمون أنه ما من مكان آخر سوى”هآرتس“للحصول على معلومة موثوقة”.

ربما لا تستطيع الجريدة تغيير موازين القوى الدولية أو تعطيل نجاحات إسرائيل الدبلوماسية، لكنها تلعب دورًا هامًا في تحطيم صورة تلك الدولة أمام العالم يومًا تلو الآخر.

وختامًا، ترى نوا لانداو أنه من المبكر تقرير الحصيلة الحقيقية لتطوّر “هآرتس”. وهي تعتقد أن من أهم إنجازاتها هو أنها ساهمت إلى حدٍّ كبير في عرقلة مساعي القيادات الرامية إلى “تنحية النكبة من النقاش العام”، كما حاول بنيامين نتنياهو أن يفعل. لكن إنجاز جريدتها الأبرز، من وجهة نظرها، لم يُلمَس بعد، بيد أن هناك “مجموعات يهودية عربية تتشكل”، مثل “نقف معًا” (Standing Together)، وهي جمعية تناضل من أجل تحقيق المساواة في الأجور بين اليهود والعرب. “أصبح العديد من المنتمين إلى اليسار يدركون يومًا بعد يوم أنه لا مستقبل لإسرائيل دون أخذ الرأي العربي في الاعتبار. تزداد رغبة الفلسطينيين والإسرائيليين في العمل معًا جنبًا إلى جنب، وستظل قائمة”. هذا ما سيحدّده المستقبل، ولكنه على أي حال المسار الذي تعتزم “هآرتس” دعمه.

1Ofer Aderet : « Place the Material in the Wells’ : Docs Point to Israeli Army’s 1948 Biological Warfare »، “هآرتس”، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2022.

2جملة وردت في الإنجيل، سفر الجامعة 1:11.

3Sheren Falah Saab, « The tragic Life of Ghassan Kanafani »، “هآرتس”، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022.

4التصنيف هو عرض موقع إلكتروني لموضوع ما بما يتناسب مع حجم الاهتمام الذي أظهره القرّاء سابقًا.