تقرير

في إسرائيل، المواطنون الفلسطينيون رهائن بين براثن الجريمة المنظمة

قُتل 109 مواطنين فلسطينيين من إسرائيل في أعمال إجرامية خلال سنة 2022. تغض السلطات الطرف عن هذه الجرائم مادامت عمليات القتل هذه لا تطال الإسرائيليين اليهود.

أم الفحم، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021. مظاهرة لفلسطينيي الداخل للتنديد بالعنف والجرائم التي تستهدفهم، ومطالبة شرطة الاحتلال بالتدخل.
أحمد غرابلي/وكالة فرانس برس.

تُقضي وطفة جبالي الجمعة مع أحفادها الثمانية على أرضها، على تخوم بلدة الطيبة، وسط إسرائيل. من هنا، لا يمكن رؤية سوى أشجار الزيتون وبعض المنازل على التلال. في الربيع، ستزرع وطفة أشجار التين في الأرض التي تُركت بورا. تبتسم هذه الأم الفلسطينية التي تبلغ من العمر 53 عامًا، في ثوبها المخملي الأسود الطويل، وحجابها الأزرق الملائم: “هذا ما يجعلني أستمر”.

في يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، قُتل ابنها سعد، 24 سنة، ببقالته أسفل بيتها الذي يقع غير بعيد عن وسط الطيبة. “حدث ذلك مساءً، كانت الساعة تشير إلى التاسعة إلا عشر. بالكاد دام الأمر 30 ثانية. سمعتُ طلقات نارية فقلت لابنتي”هذه لنا“. تطلّعت من الشرفة وصاحت: ’سعد’. لم أتمكن من الدخول إلى محل البقالة، بقيت هنا أصرخ: ’سعد، سعد’..”.

هكذا تقص وطفة الجبالي الحادثة بصوت أجش، وهي ترفع نظارتها وتفرك عينيها: “لم يخرج سعد بعدها أبدا”. قبلها ببضعة أشهر، كانت هذه المرأة التي يناديها الجميع هنا باسم أم شوكت - على اسم ابنها البكر- قد عاينت مسكنا. كانت صاحبته تنوي تأجيره لجيران سابقين للجبالي، وهي عائلة سبق وأن تسببت في مشاكل بالحي. أقنعتها وطفة بتركه لابنتها المقبلة على الزواج، لكن الأسرة الأخرى اعتبرت ذلك إهانة: “أصبحنا نحن المستوطنين”، كما تقول. أسابيع قليلة قبل الجريمة، تم استهداف البقالة مرتين بإطلاق نار، وتم إشعار الشرطة التي حضرت للمعاينة. تؤكد وطفة: “لم يفعلوا شيئا. لا شيء!”.

في المقابل كان التحقيق في مقتل سعد نموذجيًّا. ففي 2020، وفقاً لحسابات جريدة “هآرتس” الإسرائيلية، تم حل 23% فقط من جرائم القتل التي طالت فلسطينيي إسرائيل، مقابل 71% عند اليهود الإسرائيليين. تواصل أم شوكت وهي تشعل سيجارة رقيقة: “إنها الحالة الوحيدة التي ساعدت فيها عائلات الحي الشرطة”. بل وقد أُجريت محاكمة حتى، ففي 30 مايو/أيار 2021، حُكم على ساري ابو ربيعة بالسجن 30 عاما، وعلى شريكه – القاصر - بعشر سنوات من السجن. تقول وطفة وهي تنقر الطاولة بعصبية بيدها الصغيرة: “جاء الناس لتهنئتي بعد النطق بالحكم، وقالوا لي: ’هل تعين ما جرى؟’ كثير من الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن أيضا يعتبرنني محظوظة. ولكن أي حظ هذا؟! ألا ترون الحال الذي وصلنا إليه؟”

تنفجر الجريمة بين أولئك الذين تسميهم تل أبيب “عرب إسرائيل”، أي أحفاد الفلسطينيين الذين بقوا على أراضيهم عند النكبة، بينما أُجبر الآخرون - وهم الغالبية العظمى – على الانتفاء. لا يمثل فلسطينيو الداخل سوى ما يزيد قليلا عن 20% من سكان إسرائيل، لكن 70% من جرائم القتل تقع في صفوفهم. خلال سنة 2022، قُتل 109 فلسطينيين، أغلبهم خلال تصفية حسابات تمت في صفوف الجريمة المنظمة.

“طالما يقتلون بعضهم بعضا”

حصل التحول من عشرين سنة. ففي 2003، قُتل ثلاثة أشخاص وجُرح 19 آخرون في تل أبيب، في انفجار استهدف أحد زعماء المافيا آنذاك، زئيف روزنشتاين. أما هو فقد خرج منه سالماً. تحركت الدولة، وفي غضون عشر سنوات، تم تفكيك أهم منظمات المافيا اليهودية وسجن قادتها. يؤكد وليد حداد، وهو عالم جريمة مقيم بالناصرة، عمل لمدة 15 سنة بوزارة الداخلية قبل أن يستقيل: “صار الناس يأتون من كل البلدان، بما في ذلك إيطاليا، لتعلم التقنيات الإسرائيلية في مكافحة الجريمة”. كان وزير المالية في ذلك الوقت، بنيامين نتنياهو، أحد رواد هذه السياسة. انتقلت الجريمة المنظمة حينها إلى المجتمعات الفلسطينية، حيث تركت الدولة الحبل على الغارب، وكانت الفكرة السائدة أنه “طالما يقتلون بعضهم بعضا، فتلك مشكلتهم”، كما اعترف بذلك وزير الشرطة السابق عُمير بارليف في 2021.

أتت هذه الاعترافات بعد أشهر قليلة من مظاهرات مايو/أيار 2021. فبينما كانت إسرائيل تقمع بعنف المشاركين فيها في القدس والضفة الغربية وتقصف غزة، انفتحت جبهة داخلية بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين. خشيت حينها السلطات الإسرائيلية أن يتجاوز العنف حدود المجتمع العربي. وأصبحت الجريمة المنظمة مسألة وطنية، كرست لها الحكومة - التي وصلت إلى السلطة بدعم من حزب “راعم” الإسلامي - خطة خماسية في ذلك الوقت. وفي 2022، أطلقت الشرطة حملة تحت عنوان “الطريق الآمن”. يقول الناطق باسم قوى الأمن ردا على سؤال “أوريان 21”: “بفضل عمل الشرطة الحازم والصارم، تم إحباط 73 محاولة اغتيال، وتم إجراء 507 متابعات ضد أفراد يُعدون من كبار المجرمين، ومنهم 37 كانوا أعضاء في منظمات إجرامية في المجتمعات العربية”.

أسلحة وإفلات من العقاب

تناولت وسائل الإعلام الإسرائيلية المسألة واصفة إياها بالـ“وباء”، غير أن المشكل سياسي بامتياز، كما يذكر وئام بلعوم، الباحث في جمعية “بلدنا” للشباب العربي والمؤلف المشارك لدراسة طويلة حول الموضوع. يقول بأنه في الأحياء العربية لمدينة اللد، وسط البلاد، عندما تحصل جريمة قتل، تقوم الشرطة

بغلق المنطقة لمدة لا تتراوح بين 10 و15 دقيقة فقط، ثم تغادر. في يوم ما، كان يهودي يسير في الحي فقُتل خطأً خلال تبادل إطلاق نار بين عصابات عربية. أخبرنا الناس أن الشرطة جاءت وجمعت كل الرصاص من الشارع، وكل أعقاب السجائر، وبقيت لساعات تفتش وتستجوب الناس.. لقد رأى السكان الفرق! هذا ليس عنصرية فحسب، بل يعطي إشارة مفادها أن قتل العرب مستباح.

يغذي الإفلات من العقاب الخوف. حتى الشهود العيان لا يتكلمون. يستنكر عمدة الطيبة شعاع منصور مصاروة قائلاً:

يخشى الناس إن بلّغوا عن شخص ما، أن يعود الأخير ليقتلهم أو يهاجم عائلاتهم. للأسف، هذا الخوف لا يأتي من عدم، ففي 2001، تمت دعوة أحد السكان للإدلاء بشهادته لكن الشرطة لم تحمه فقُتل! أطلقوا عليه النار قبل المحاكمة. لسنا محميين، إنها مسؤولية الدولة، وقد فشلت تماماً في ذلك.

زد على ذلك سهولة الحصول على الأسلحة. تؤكد الشرطة بأنها حجزت في 2022 “3300 قطعة سلاح ناري من أنواع مختلفة” في “القطاع العربي”. لكن هذا العدد قطرة ماء، ففي 2020، قدر الكنيست بأنه يتم تداول حوالي 400 ألف قطعة سلاح غير شرعية في البلاد. 70% من الجرائم المقترفة بسلاح ناري التي تم الإبلاغ عنها في 2021 تمت ببندقية قادمة من مخزون الجيش، وفق الموقع الإخباري الإسرائيلي “والا نيوز”، وقد تمت سرقتها أو بيعها من قبل مجندين سابقين. أما الباقي، فيأتي سرًّا، أساسا من الأردن، وكذلك من بعض الورشات المحلية في الضفة الغربية التي تنتج “الكارلو”، وهي بندقية هجومية تقليدية. همّ الدولة الوحيد هو ألا يقع السلاح بين أيدي المقاومة الفلسطينية. يلخّص وليد حداد قائلاً:

إذا تم اعتقال أحدهم وبحوزته أسلحة لارتكاب جريمة، يمكن أن يقتصر الأمر على عقوبات مخففة، وأحيانا فقط على ما يسمى الخدمة المدنية، ولن يدخل السجن. في المقابل، إذا كنت تتهيأ لاستعمال الأسلحة لارتكاب هجمات ضد أمن الدولة، فيمكن أن تعاقب بالسجن لمدة 15 سنة.

تابع وليد حداد الجانحين - تائبين كانوا أم لا - على المدى الطويل.

يطلق على معظم الذين قُتلوا تسمية ’الجنود’. أغلبهم من الشباب الذين تعرضوا إلى سوء معاملة في عائلاتهم، ويعانون من أوضاع اقتصادية واجتماعية جد هشة. إنهم يرغبون في الحصول على سيارات جديدة جميلة وألبسة فاخرة.. الانضمام إلى منظمات إجرامية هو الطريق السهل إلى ذلك. إنهم يحصلون مقابل كل طلقة على مبلغ 20 ألف شيكل [5392 يورو]. بالطبع هم مجرمون، إنهم يقتلون، لكن البيئة التي جاؤوا منها لم تكن لتقودهم لمكان آخر. أما المجرمون الكبار، فعندما يشعرون بأن الرياح باتت تجري بما لا تشتهيه سفنهم، يهربون إلى خارج البلاد، وهم دائماً في مأمن.

استولت منظمات المافيا العربية على الكازينوهات ومسالك الإتجار بالأسلحة والمخدرات. لكن تبقى السوق السوداء عملهم الأكثر ربحا، إذ أصبحت العصابات بدائل للبنوك التي “لا تُقرض العرب”، كما يؤكد وئام بلعوم. “إنهم يقدمون قروضاً للناس بمعدلات فائدة جنونية. بدأ بعضهم بمبلغ 50 ألف شيكل [أكثر بقليل من 13 ألف يورو] لينتهي بهم الأمر عند عشرة أضعاف لقرض واحد، بفضل تراكم الفوائد”.

تتوالى الخطط.. دون جدوى

تزدهر الجريمة بسبب التهميش الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الفلسطينية في إسرائيل بعد عقود من سياسات التمييز في الميزانيات، وفي تخصيص الأراضي، وفي الوصول إلى مجالات العمل.. وفقا لتقرير رسمي لسنة 2021، يعيش 39% من فلسطينيي إسرائيل تحت خط الفقر. أمام هذه الحالة الطارئة، تبنت حكومة بنيامين نتنياهو في 2015 “الخطة 922”، إذ وعدت باستثمار 15 مليار شيكل (4 مليارات يورو)، وهي أكبر ميزانية تم تخصيصها على الإطلاق “للقطاع العربي”.

منذ بداية تنفيذ هذه الخطة، تضاعفت جرائم القتل. “كانت الميزانية تفرض الكثير من الشروط - خاصة فيما يتعلق بالتخطيط والبناء - التي لم تستطع البلديات توفيرها، فلم تصلنا أبداً معظم الأموال”. هكذا استنكر مضر يونس، رئيس اللجنة الوطنية لرؤساء البلديات العرب في إسرائيل، في 2020. يؤيده زميله بالطيبة شعاع منصور مصاروة قائلاً: “لم يتم إنفاق سوى 20 إلى 25٪ من المبلغ المعلن عنه”. يحذوه أمل أكبر في “الخطة 550”، التي اعتمدتها الأغلبية السابقة في 2022 على مدة خمس سنوات: 30 مليار شيكل (8 مليارات يورو) للاستثمار بشكل خاص في التعليم والإسكان والتوظيف. يُضاف إليها 2.5 مليار شيكل (670 مليون يورو) مخصصة لمكافحة الجريمة. غير أن الفجوة التي يتعين سدها بين البلديات العربية واليهودية سحيقة. ففي سنوات الألفين، كانت معظم البلديات الفلسطينية الإسرائيلية مدينة بالمال، وقد وُضع بعضها تحت مراقبة محاسب، وكان بعضها - مثل الطيبة - مُسيّراً مباشرة من طرف موظف تعيّنه الدولة. عشر سنوات بدون رئيس بلدية أنهكت المدينة، إذ تم القيام بـاقتطاعات كبيرة في الميزانية، مما حرم السكان من الاستثمارات في مجال الخدمات الأساسية. وعلى الرغم من الخطط الخماسية، تواصل السلطات تخصيص ميزانيات متدنية للفلسطينيين. يلاحظ شعاع منصور مصاروة: “يبلغ الاستثمار لكل تلميذ عربي 440 شيكلاً - مقابل 1600 شيكل للتلميذ اليهودي”. ويؤكد وليد حداد، الذي يدير عيادة لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من الإدمان، متنهدا أن الخدمات الاجتماعية غير كافية إلى حد كبير في المجتمعات العربية.

مجتمع مفكك

لهذا الوضع تداعياته على الرابط الاجتماعي، خاصة وأن الدولة الإسرائيلية تعمل بالتوازي على خنق أي هوية فلسطينية جماعية داخل حدودها. آخر مثال على ذلك: أمر وزير الشرطة المتبني لنظرية “التفوّق اليهودي” إيتمار بن غفير أعوانه بمصادرة الأعلام الفلسطينية بشكل منهجي. يرى وئام بلعوم أنه

هكذا يعمل المشروع الصهيوني: إنه يهدف إلى القضاء على الفلسطينيين كمجتمع. في المجتمع الإسرائيلي، تم تصميم النظام لخلق مجتمع حول الرموز والسرديات الوطنية.. بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل، العكس هو الصحيح. إذا كنت تريد أن تنجح فعليك إخفاء هويتك، فأي شيء يمكنك القيام به كمجتمع هو محل شك. والمأساة هي أن الناس في النهاية يستوعبون ذلك.

تعد يافا في هذا الصدد حالة نموذجية تقريبًا. إذ تم دمج هذه المدينة الفلسطينية مع تل أبيب اليهودية. يجد السكان الذين تم تفقيرهم صعوبة في مقاومة الاستطباق (gentrification) المرافق لسياسات التهويد. وقد تمت زعزعة التوازن الاجتماعي المحلي بصفة واسعة أيضًا بسبب النزوح السكاني. يشرح وئام بلعوم: “مع كل انتفاضة أو حرب، يتم نقل موجات من ’المتعاونين’ من الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد اكتسب هؤلاء حصانة، لأنهم يواصلون العمل مع أجهزة المخابرات ويقومون بتجنيد أشخاص”. وقد نبذ السكان المحليون الوافدين الجدد وتجاهلوا أطفالهم.

هكذا انقلبت بنية المجتمع بأكمله رأسًا على عقب، فلم يعد له تحكّم على الأفراد، خلافاً لما عليه الوضع في الضفة الغربية على سبيل المثال. وأمام استقالة الدولة في مواجهة التنظيمات الإجرامية، طرح البعض فكرة اللجوء إلى مجالس الصلح التقليدية، في محاولة لاسترجاع الرقابة الاجتماعية. يقول الطبيب النفسي زياد الخطيب: “في السابق، عندما يحدث نزاع بين عائلتين، كان الأعيان هم الذين يحلّون المشاكل دون اللجوء إلى القوانين. غير أن سلطة هذه الشخصيات تراجعت، واليوم، أصبح قادة المافيا هم الأعيان”.

تؤكد أم شوكت بإصرار: “يجب أن تتدخل الدولة. أليست لدينا حكومة، ألسنا مواطنين في هذه الدولة؟ على الدولة ضمان حمايتنا!”. أنشأت أم شوكت حركة تجمع أمهات ضحايا الجرائم، ونظمت مسيرة في 2020 لتنبيه السلطات. وهي اليوم منخرطة في نشاط يستهدف المدارس، حيث تروي قصتها على أمل توعية التلاميذ، قبل أن تقوم المنظمات الإجرامية بتجنيدهم. تقول أم شوكت: “هم أيضا لديهم أمهات وأخوات وعائلة”.

تَعِد حكومة اليمين المتطرف الجديدة - التي يدعو بعض أعضائها المنادين بالتفوق اليهودي إلى ترحيل “عرب إسرائيل” غير الموالين للدولة اليهودية - بمزيد من القمع دون حلول سياسية. يخطط وزير الشرطة إيتمار بن غفير لتوظيف “الشاباك”، جهاز الأمن الداخلي، لمحاربة الجريمة. يقول رئيس بلدية الطيبة بحزن: “ليس لدينا أي أمل. يتحكم إيتمار بن غفير وبتسلإيل سموتريش بأهم ملفات الدولة: الأمن الداخلي والمالية. وهم يقولون ذلك بصراحة: سوف نبني مستوطنات ونضعف القطاع العربي”. يذكّر وئام بلعوم بأسف بأن المشكلة أعمق من ذلك، فالتمييز مسجل في المؤسسات. ولوقف كل هذا، “يجب أن يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم مواطنون من الدرجة الأولى. ولن يحدث ذلك ما دامت الدولة تعرّف نفسها على أنها دولة يهودية”.