العصيان خلال حرب استقلال الجزائر

من خلال كتابه “العصيان في حرب الجزائر. أزمة سلطة في الجيش الفرنسي” ومن خلال دراسته لأرشيف المحاكم العسكرية، يهتم ماريوس لوريس-روديونوف بمختلف أشكال العصيان في صفوف الجيش الفرنسي في الجزائر. وهنا قراءة في الكتاب، يليها حوار مع المؤلّف.

باريس، 30 سبتمبر/أيلول 1955. مجندّون فرنسيون اجتمعوا في كنيسة “سان سيفرين” احتجاجًا على رحيلهم إلى الجزائر.
Intercontinentale/AFP

قد يحتاج الأمر أحيانًا عدّة عقود قبل أن يتسنّى تقدير تداعيات حدث ما، ومدى تأثيره على مجتمع أو بلد أو دولة. في فرنسا، وطوال عدة سنوات، تم تعريف ما حدث في شمال إفريقيا، وتحديدًا في الجزائر من 1954 إلى 1962، بعبارات تم اختيارها باستمرار للتخفيف من وقع ما كان يحدث على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وتجريده من طابعه العسكري: “الأحداث في الجزائر”، “عمليات الشرطة”، “إجراءات إنفاذ القانون”، “عمليات في شمال أفريقيا” أو “التهدئة”. بينما كان هناك حرص على عدم ذكر أسماء مقاتلي جبهة التحرير الوطني، والذين تم اختزالهم في عبارات من قبيل “المشتبه بهم”، أو “الإرهابيين” أو “المارقين عن القانون” أو “المتمردين”.

أما على أرض المعركة، فقد كان مقاتلو جبهة التحرير الوطني والجنود الفرنسيون - من محترفين ومجنّدين وعُصاة مسالمين – يستعملون الكلمات الحقيقية للتعبير عن هذه الحرب التي غيّرت وجه وتاريخ الدولة الفرنسية بشكل جذري. ولم تصوّت المجموعة الوطنية للاعتراف بها كـ“حرب” سوى عام 1999.

من خلال التركيز على الأزمات التي شهدها الجيش الفرنسي خلال الحرب الجزائرية، إلى جانب العصيان، والهروب من الخدمة العسكرية، والانتفاضات في صفوفه، وصولاً إلى محاولة الانقلاب على الجنرال ديغول، يساعدنا ماريوس لوريس روديونوف أيضًا على فهم طريقة تطوّر فرنسا منذ الستينيات حتى يومنا هذا. الكتاب هو أطروحته التي دافع عنها عام 2013، بفضل فتح جزئي لأرشيف القضاء العسكري، عقب وصول حكومة اشتراكية إلى السلطة في فرنسا. لكن الانفتاح كان مؤقّتًا..

الفريد من نوعه في النهج الذي اختاره المؤلف، هو مقارنته بين عاصين انتفضوا لخيارات متعارضة جذريًّا: من ناحية، أولئك – وهم مجنّدون في أغلب الأحيان - الذين رفضوا الخدمة في هذه الحرب التي كانت تجسّد أكثر من قرن من الاستعمار، كما رفضوا الانصياع لأوامر قادة لم يتردّدوا في اللجوء الى التعذيب والاغتيالات. ومن ناحية أخرى، القادة الصغار وكبار الضباط الذين أرادوا مواصلة هذه الحرب حتى النهاية، وبكل الوسائل، إذ كانوا مصمّمين على إبقاء سيطرة فرنسا على الجزائر. وفي كلا الجانبين، نجد جنودًا شاركوا في المقاومة ضد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية..

هذه الحرب الأخرى، داخل الجيش الفرنسي، حملت أيضًا بذور التخلي عن الخدمة العسكرية وظهور جيش محترف حصريًّا، ومطيعة دون تحفّظات. ما لا يعني بالضرورة أن الأمر كان مكسبًا ديمقراطيًّا بالنسبة للمواطنين.

****

سيلفي برايبانت: أهديت كتابك إلى أجدادك، أندريه تيسو-روديونوف الذي “لقّنك أصول التاريخ” ونيكولاس روديونوف “الذي نجح في عدم الذهاب إلى الجزائر”. هل هذا ما دفعك لدراسة الحرب الجزائرية؟

ماريوس لوريس-روديونوف: في سنة 1960، كان جدي على وشك إنهاء دراسته ولم يكن يريد الذهاب إلى الجزائر. كانت نهاية الحرب وشيكة، ولكن في 1961/1962، وحتى 1964، استمر إرسال المجندين إلى هناك، وهو كان حقّا لا يرغب في الذهاب. فقام، مع آخرين، بتنظيم إضرابات عن الطعام، بل إضرابات عن قاعة الطعام، وهي إضرابات تمت في كل من الجزائر وفرنسا. لقد فعل ما في وسعه، لم يكن فارّا من الجُنْدِيَّه، ولم يكن متمرّدا، لكنه عوقب، ومع ذلك نجح في عدم الذهاب إلى الجزائر وبقي في ثكنته بفرنسا بفضل فعل عصيان.

اهتمامي بالجزائر جاء من خلال ثانوية بوفون، في الدائرة الخامسة عشرة بباريس، بفضل كلود باسويو، وهو أستاذ تاريخ متقاعد اليوم، قام مع طلابه بجمع شهادات المرحّلين العائدين من محتشد أوشفيتز. ثم عندما كنت تلميذًا عنده من 2002 إلى 2004، فعل الشيء نفسه مع المجندين للخدمة العسكرية في الجزائر. هكذا اكتشفتُ حرب الجزائر من خلال هذا البحث الشفوي، وأيضًا من خلال الأرشيف الذي اطلعنا عليه. عندما حصلتُ على درجة الماجستير في الجامعة عام 2011، تقاطع مساري مع مسار امرأة - كاتبة - فرنسية-جزائرية. لذا فإن اهتمامي بالجزائر ينطوي أيضًا على بعد حميمي. كان هناك أيضًا موضوع عام، سياسي، يثير اهتمامي، حول تلك الذاكرة المخفية لحدث أساسي.

س. ب.: تتحدث عن “الذاكرة المخفية” لحرب الجزائر، وقد استشهدت بعدد من المصادر العسكرية في كتابك، فهل كان الوصول إلى أرشيف تلك الفترة ممكنًا؟

م. ل. ر: في أوائل سنوات الألفين، كان هناك مع ليونيل جوسبان (الوزير الأول الفرنسي الاشتراكي آنذاك) انفتاح أول، ولكن بقيت هناك وثائق يتعذر الوصول إليها تمامًا، لا سيما تلك الخاصة بالقضاء العسكري. وصلتُ شخصيًّا في الوقت المناسب، إذ شرعتُ في العمل على أطروحتي في 2013. كانت فترة تناوب سياسي، حيث عاد الاشتراكيون إلى السلطة، ما فتح إمكانية الوصول إلى أرشيف القضاء العسكري في الجزائر.

بالطبع، يجب دائمًا تقديم المطالب قبل فترة طويلة واستباق جميع العقبات المتعلّقة بالتراخيص. لكن الوصول إلى المحفوظات تم تدريجيًا وسمح لي ذلك بإنهاء أطروحتي. لم يدم هذا الافتتاح طويلا، وأُغلقت هذه المحفوظات مع تغيّر الحكومة، وتأويل أكثر صرامة ابتداءً من عام 2019 للتعليمة العامة الوزارية المشتركة بشأن “حماية أسرار الدفاع الوطني” وإغلاق المبنى بدعوى وجود الأميانت (الأسبست). علاوة على ذلك، يتم اليوم نقل أرشيف الدفاع من مكانها.. ما يعني أن إجراء بحث في التاريخ العسكري وحروب إنهاء الاستعمار سيصبح أمرًا معقّدًا للغاية.

س. ب.: هل يجب مراجعة وتغيير تأريخ حرب الجزائر؟ هل تاريخ الجيش خلال هذه الفترة أحد الوسائل لتحقيق ذلك؟

م. ل. ر: كانت هناك أطروحة حول “العدالة في حرب الجزائر” لسيلفي تينو (1999)، والتي سارت في هذا الاتجاه، ثم أطروحة المؤرخة رافائيل برانش “الجيش والتعذيب أثناء الحرب في الجزائر: الجنود وقادتهم والعنف غير القانوني” (2001)، وأطروحة ترامور كيمنور “حرب بدون”لا“؟: عصيان ورفض الانصياع وفرار الجنود الفرنسيين أثناء حرب الجزائر: 1954-1962” (2007). جاء بعدهم جيل من المؤرخين - وأنا منهم - مهتم بالعمل في مجالات أخرى، مثل “عقيدة الحرب الثورية” التي طُبّقت أثناء حرب الجزائر مع دينيس ليرو، ودور“المكتب الخامس”، ومعسكرات إعادة التجميع مع فابيان سكريست، وكانت مجالات بحث جديدة نوعًا ما. لكن في نفس الوقت - الوقت الذي وصلت فيه -، لم تعد “حرب الجزائر” “موضة” في المجال الجامعي، بل مالت الكفّة لصالح موضوع الاستعمار بشكل عام. قدمتُ أطروحتي عام 2018 تحت عنوان “أزمات وإعادة تشكيل علاقة السلطة في الجيش الفرنسي أمام تحدي حرب الجزائر (1954-1966)” تحت إشراف رفائيل برانش، لكني لا أزال دون منصب جامعي في فرنسا، وهذا يبرز عدم الاهتمام بالمسألة.

ما كان يهمني هو صنع تاريخ اجتماعي للعدالة العسكرية، لفهم علاقات السلطة والتفاوض والمقاومة في الجيش بطريقة أشمل. وقد استلهمت أيضًا، بعد حرب الجزائر، من بحوث أولئك الذين عملوا على التاريخ الاجتماعي للجيش بشكل عام والمؤرخين وعلماء اجتماع السلطة، مثل إيف كوهين.

س. ب.: أنت تقارن بين أولئك الذين عصوا لأنهم كانوا ضد الحرب في الجزائر، وأولئك الذين تمرّدوا لأنهم كانوا مع حرب أكثر شراسة ضد المقاتلين الجزائريين..

م. ل. ر: أميّز بينهم بوضوح في الكتاب. لكن ما أردت إظهاره هو أزمة السلطة في الجيش. وهي أزمة تتخذ مسارات مختلفة، مثل ما هو حال المجتمع الفرنسي. هناك من يعتقد أن الحرب حق ويجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك، وأولئك - من اليسار - الذين يناضلون ضد هذه الحرب. لا تسير المجموعتان في نفس الاتجاه، لكنها كلاهما تهز المؤسسة. من الحقائق الرئيسية للحرب أن حرب الاستقلال في الجزائر أضعفت كثيرًا المؤسسة العسكرية - وهي ليست كتلة متراصة. وهو أيضا حال الحركات الاجتماعية بشكل عام، فعلى سبيل المثال، نجد ضمن “السترات الصفراء” أقصى اليسار واليمين المتطرف. لستُ هنا أساوي بين تصرفات المنظمة المسلحة السرية (OAS) وأفعال العَاصِين. في تاريخ هذه المقاومات العسكرية خلال حرب الجزائر، لا نجد فقط المجندّين للخدمة العسكرية، بل يوجد أيضًا الجنود المحترفون. فالجيش كان انعكاسًا للمجتمع الفرنسي، لفرنسا الاستعمارية حيث تتصادم قوى مختلفة مع بعضها بعضا.

س. ب.: هل هذا العصيان المتعدّد، صغيرًا كان أم كبيرًا، مظهر من مظاهر المطالبة بمزيد من الحريّة أو بمزيد من الطاعة؟

م. ل. ر: إنها إحدى الأسئلة الكامنة وراء الكتاب. في الفصل المخصص لأشكال العصيان المتسترة، السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هو رفض حقيقي للطاعة أم أنه على العكس من ذلك، طريقة لقبولها بشكل أفضل؟ سؤال لا يزال دون جواب، لكنه مع ذلك يبدو أنه يشير إلى رفض عام للانضباط، حتى لو لم يصل الرفض إلى حد التشكيك في الحرب لأن ذلك ينطوي على مخاطرة كبيرة. قلة قليلة من الناس يمكنهم الذهاب إلى حد الفرار من الخدمة العسكرية، والمخاطرة بالسجن. لكن بعض أشكال العصيان تشهد أيضا على الرغبة في أن تكون هناك قيادة أفضل أو أكثر، تلك هي المفارقة التي أثارها ميشيل فوكو من خلال العديد من أزمات العصيان. التمرد ضد قائد يختلف من حالة إلى أخرى. وهو يتولّد عندما يُضاق ذرعًا بالانضباط، وأيضًا عند الخوف من أن تُقتل بسبب ذلك القائد.

س. ب.: لماذا لا يحضر مقاتلو الاستقلال الجزائريون والحركيون إلا قليلاً في الكتاب؟

م. ل. ر: الرماة أو المجندون الجزائريون موجودون. أشرت بسرعة أكبر إلى “المساعدين” (الحركيون)، لوجود أعمال أخرى خُصّصت لهم، ولأن الأمر يتعلّق كذلك بعوامل أخرى. فهم، على سبيل المثال، يحصلون على أجر أفضل من الجنود العاديين، المجنّدين في الجيش. يبدو لي أنهم لا يخضعون لنفس علاقة الطاعة التعاقدية مع الجيش.

س. ب.: من خلال دراسة الأزمات التي شهدها الجيش خلال حرب الجزائر، هل أردت أيضا إظهار تداعياتها على المجتمع الفرنسي والجمهورية الفرنسية حتى اليوم؟

م. ل. ر: إننا نعيش بالتأكيد تداعيات حرب الجزائر، أقلّها كون ظهور الجمهورية الخامسة وطرائقها ناتجة عن هذه الحرب، مثل السلطات الاستثنائية للرئيس، التي عززها انتخابه بالاقتراع العام، وهو نظام اقتراع مرتبط مباشرة بالحرب، حيث إن محاولة اغتيال ديغول في بيتي كلامار من قبل المنظمة المسلحة السرية في أغسطس/آب 1962، دفعته إلى اتخاذ هذا الخيار الدستوري. من ناحية أخرى، تسببت الحرب في الجزائر أيضًا في أزمة سلطة عامة. لم يعد الجنود العائدون إلى فرنسا يطيقون أي سلطة، لا سيما سلطة الرؤساء وأرباب الأعمال في المصانع والورش التي كان يعمل فيها الكثيرون. ليس من قبيل المصادفة أن كانت الستينيات فترة تمرّد على السلطة، بما في ذلك بالطبع مايو/أيار 1968. كان هناك أيضا إعادة تدوير كبيرة لقادة الجيش في المحافظات وفي الشركات الفرنسية الكبيرة. هذا حال مارسيل بيجار، الذي أتحدث عنه كثيرًا. بيجار هو الحرب الهند الصينية، هو حرب الجزائر، وأين نجده في السبعينيات؟ نجده ككاتب دولة للدفاع الوطني، وهو منصب عرضه عليه في 1975 الرئيس جيسكار ديستان، الذي طلب منه صراحة، من بين أمور أخرى، محاربة لجان الجنود1. ثم بالطبع، هناك مسألة ذاكرة حرب الجزائر، ولا سيما بالنسبة لجزائريي فرنسا وأحفادهم، ولكن أيضًا بالنسبة للأقدام السوداء وأبنائهم.

ندخل هنا في مسألة عامة أكثر، وهي مسألة ذاكرة الاستعمار. لم تنته الحرب بين فرنسا والجزائر على مستوى الذاكرة، ولن تنتهي إلا بعد خطاب على أعلى مستوى يعترف بهذه الحرب، مثل خطاب جاك شيراك في يوليو/تموز 1995 حول مسؤولية نظام فيشي في الإبادة الجماعية لليهود. في فرنسا، لا يزال المجال السياسي مستقطبًا حول هذا الموضوع مع حزب التجمع الوطني (اليمين المتطرّف)، على سبيل المثال، المتأتي مباشرة من هذا التاريخ. ونرى أيضًا أن البحث في هذه الحرب لا يزال مَلْغُوما في فرنسا.

س. ب.: يحكي كتابك قصة رجال، كما هو الحال غالبا عندما يتعلق الأمر بالجيش. مع أن النساء قد “دخلن” رسميًا في الجيش في 1952..

م. ل. ر: في فترة حرب الجزائر التي أتحدّث عنها، لم ألتق أي امرأة في الواقع. هناك نساء في الجيش، لكنهن لسن ضمن القوات المقاتلة، لذا لم أرهُنّ خلال أبحاثي. والنساء اللواتي “التقيت بهن” هن جزائريات، ضحايا اغتصاب نادرًا ما يُحاكم مرتكبوه أمام القضاء العسكري.

س. ب.: لقد ذكرت “واجب العصيان” لأي أمر حين يكون غير قانوني بشكل واضح. وهو مبدأ كرّسه القانون في عام 1972، ثم أعيد تأكيده من خلال “تعليمات” نُشرت في الجريدة الرسمية للقوات المسلحة في ديسمبر /كانون الأول 2005. هل هذا ردّ مباشر، بقوة القانون، على محاولة الانقلاب التي قام بها الجنرالات في أبريل/نيسان 1961 في الجزائر؟

م. ل. ر: هناك خلاف بيزنطي حول الصياغة. الحقيقة هي أنه في النهاية، ولتجنب انقلاب جديد، اختار ديغول ووزراؤه ورؤساء أركانه صياغة مُلْتَبِسة في الخطاب العسكري: يجب العصيان إذا كنت أمام أوامر غير قانونية، ولكن لم يُعتبر الأمر غير قانوني، فالعصيان ممنوع. وكونه مجرد نص تنظيمي وليس واجبًا مكرّسا في الدستور، فذلك يحدّ بشكل كبير من نطاقه. علاوة على ذلك، عندما لم يكن الجيش محترفا فحسب، عندما كان لا يزال هناك جيش من المجنّدين، كان العصيان لا يزال ممكنًا. أما مع نهاية الخدمة العسكرية، تختفي إمكانية وجود قوة مضادة ضمن الجيش المحترف.

1ملاحظة من هيئة التحرير. تم تشكيل لجان جنود في السبعينيات في فرنسا، للمطالبة بمزيد من الحقوق للمجندين، وكانت هذه اللجان ترى نفسها أحيانا كهيكل معارض لأي محاولة لاستخدام الجيش ضد الديمقراطية، مثل ما جرى في تشيلي في 11 سبتمبر/أيلول 1973.