شهادة

رسائل من غزة تحت القصف

هذا النص شهادة من صحفية فلسطينية من غزة تعيش في فرنسا. حياتها اليومية تتراوح بين محاولة البقاء على تواصل مع عائلتها في القطاع، والخوف من تلقّي خبر فاجعة.

فتاة فلسطينية تمشي على الأنقاض بينما يتفقد آخرون الأضرار الناجمة عن القصف الإسرائيلي في رفح بجنوب قطاع غزة، في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
سعيد خطيب/وكالة فرانس برس.

شقيقتي الباقية في قطاع غزة طلبت منا أن نسجل لها أغنية “الصيصان شو حلوين” لابنتها الرضيعة، فهي تحبها وتعودت عليها، ولا يمكن تشغيل تطبيق “يوتيوب” وسط قطع الكهرباء والإنترنت في قطاع غزة. سجلناها وأرسلناها لها على تطبيق “واتس أب” حيث من الأسهل فتح الرسائل الصوتية مع ضعف تدفق الإنترنت.

عدتُ إلى جهازي المحمول لأكمل كتابة مقالاتي المتأخرة، لكنني لم أفلح. فما هي إلا دقائق حتى بدأ تهديد مستشفى القدس من جديد، والقصف في محيطه، وربما هذه المرة العاشرة التي يتم فيها ترهيب العاملين فيه، إضافة إلى الـ 14 ألف نازح ونازحة داخله، فتحتلّ كل متر منه عائلة ما مرعوبة.

من الممكن أن تفعلها إسرائيل. لقد فعلتها قبل أسبوع حين قصفت مستشفى الأهلي المعمداني الذي وصل أعداد القتلى وقتها إلى ما يزيد عن 300، وبعضهم اضطر ذووهم أن يجمعوا أشلاءهم في أكياس. كما استهدفت في 28 أكتوبر/تشرين الأول المستشفى الإندونيسي وقصفت بجوار مستشفى القدس في اليوم ذاته. ثم لا يجب أن ننسى قتل الصحافية شيرين أبو عاقلة من قناة “الجزيرة”، والتعنت إزاء التحقيق بمقتلها وهي التي تحمل الجنسية الأميركية، ولم نسمع صوت الرئيس الأميركي بايدن حينها. ومرة أخرى حاولت إسرائيل التهرب من الجريمة بإلقاء اللوم على المسلحين الفلسطينيين.

بعد قصف مستشفى المعمداني، أحد الآباء يمسك كيساً بلاستيكيًّا ينقط منه الدم ويقول: “هدول أولادي”، وهو يصرخ في هستيريا. آباء وأمهات آخرون لم يتعرفوا حتى على أشلاء أحبائهم.

وكأنها النهاية

اتهمت إسرائيل الفصائل الفلسطينية بالقصف. عادة ما يحدث ذلك حين يقع عدد كبير من المدنيين في مكان واحد ويُحرج العدو أمام العالم، فيقلب الطاولة ويفبرك الأدلة. لقد شهدتُ ذلك من قبل خلال تغطية ثلاث حروب في القطاع، وقد كان دومًا من السهل على الناس في غزة أن يميزوا بين صوت صواريخ الفصائل المسلحة في غزة وصواريخ إسرائيل، كذلك أثر الصاروخ في الأرض، أصبحوا خبراء عسكريين من كثرة الحروب التي شهدوها. وخلال أيام قليلة كانت منصات كشف الحقائق والصحف العالمية تشكك برواية الاحتلال واتهمته بتزوير الأدلة.

كانت آخر حرب شهدتها عام 2014، ثم تابعت البقية في مايو/أيار 2021 وأغسطس/آب2022 على شاشة التلفاز بعد أن وصلت إلى فرنسا، حيث يبدو فشلا كاملا حين تكون صحافيا أن تراقب الحرب على بلدك من بعيد.

إلا أن هذه الحرب تبدو وكأنها النهاية، لا أدري إذا ما كانت المدن تنتهي بالحروب بعد أن يحل الخراب في عشرات آلاف المباني السكنية؟ لقد غدت الشوارع مهجورة إلا من بعض قطط هنا وهناك تبحث عما تأكله، بعد أن جفف الحصار الإسرائيلي المشدد المدينة من الماء والغذاء.

ذكرتني مقاطع فيديو مدينة غزة بصور مدينة الموصل عام 2017 بعد أن حررتها القوات العراقية المشتركة بدعم التحالف من تنظيم الدولة “داعش”، تداعت كل الأماكن التاريخية والأحياء الجميلة. وهذا أول ما فعلته إسرائيل، دمرت حي الرمال الذي يُعتبر أرقى أماكنها، كما أن جزءًا كبيراً من مستشفى المعمداني تراثي ويطل على البلدة القديمة في غزة، بل يقول لي صديقي الصحافي وائل عصام الذي غطى في العراق وسوريا وزار غزة، إنه لم يشهد خرابًا كخراب غزة، ومساحاتها الواسعة من الدمار.

تعلّم الخوف

أسمع أصوات ابنة أختي مسجلة على تطبيق “واتس أب”. إنها تصدر أصواتًا أعلى وأكثر تعبيرًا، ربما تحاول أن تنافس الأصوات الجديدة حولها/ تقول لي شقيقتي إن ابنتها تعلمت الخوف في هذه الأيام القليلة بينما كان يجب أن تتعلم أن تحبو في هذا العمر.

هربًا من تدمير المدينة، نزحت أختي من شمال قطاع غزة مع ابنتها إلى جنوبه، بعد تحذيرات الجيش الإسرائيلي. بحثت عن مكان الموت فيه أقل، فالنجاة الآن مجرد صدفة. لقد قصفت قوات الاحتلال كل شيء؛ المدارس التي لجأ إليها النازحون، والمنازل الآمنة، الأسواق، المستشفيات، والجامعات، والمخابز.

مهما بلغت فراستك وخبرتك في الحروب لا يمكن أن تخمن المكان الآمن، وكذلك يفعل أكثر من مليوني شخص، نصفهم نزحوا من الشمال إلى الجنوب، يقضون يومهم يفكرون: أين يمكنهم النجاة؟

أحد الآباء يقول على قناة “الجزيرة” وهو يبكي ابنه المسجى عند قدميه: “تركنا حي النصر في غزة، ليموت أبنائي الثلاثة في رفح.. انتشلنا واحداً من تحت الأنقاض وبقي اثنان”.. مضيفًا وهو يشير إلى جثمان ابنه على الأرض: “لا يزال في الصف الخامس الابتدائي”..

“تدعيش” قطاع غزة

تقع رفح أقصى جنوب قطاع غزة، وقد وصل إليها أعداد كبيرة من النازحين الذين يستمرون في التحرك، على الرغم من المطالبة الأممية المتكررة من إسرائيل بالتراجع عن إجبار الأهالي على النزوح القسري، الذي يُعتبر جريمة حرب وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة، لكن يبدو وكأن دولة الاحتلال تطرد أهل غزة عبر الحدود إلى سيناء. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد عبر عن رأيه بصراحة في اجتماعه مع المستشار الألماني أولاف شولتز في القاهرة في 18أكتوبر/تشرين أول الجاري، أنه لا يريد “عمليات إرهابية” في صحراء سيناء ضد إسرائيل، واقترح صحراء النقب لنقل السكان حتى انتهاء إسرائيل من عمليتها.

وبذلك استمر إغلاق معبر رفح البري برغبة مصرية، حتى فُتح في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني بإشراف الاحتلال الذي اختار أسماء المواطنين من حملة الجوازات الأجنبية والجرحى المسموح لهم بالسفر عبر قوائم أرسلها للمصريين. وبذلك تتلاشى السيادة الفلسطينية المكتسبة منذ اتفاقية أوسلو 1993، والانسحاب من قطاع غزة عام 2005، وكأنها كانت هلامًا.

غزة الآن مثل يوسف بن يعقوب وقد تركه إخوته في ظلام الجُب، وهنا تُركت غزة للسياسيات الأميركية الغاضبة التي أعطت الضوء الأخضر كي ترتكب إسرائيل أكبر الجرائم بحق عائلات قطاع غزة التي قُتل منها أكثر منها 900 عائلة بمجموع 6500 شهيدًا من 10 آلاف شهيد ومفقود حتى اللحظة.

ضلل بنيامين نتنياهو العالم حين ردد حادثة قطع رؤوس الأطفال في مستوطنات غلاف غزة عدة مرات، في “كلاكيت” ثاني مرة لكذبة أسلحة الدمار الشامل التي طالب الرئيس جورج دبليو بوش بالتخلص منها بالعراق، واستمر بالبحث عنها مدمرًا بلاد الرافدين منذ الغزو عام 2003 حتى انسحاب القوات الأميركية الأول من العراق عام 2011، وقتل خلالها 200 ألف مدني عراقي وما يزيد عن 4500 جندي أميركي.

وشوهت هذه الكذبة إرث القضية الفلسطينية الفريد والعادل عبر ربطها بداعش والإرهاب. وعلى الرغم من فضح كثير من الأخبار الزائفة في خطابات نتنياهو وجيشه حول هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلا أن نتنياهو يصر على المضي بها لـ“تدعيش” قطاع غزة، وهو ما له مفعول السحر في العالم الغربي.

تحوّل في الخطاب الأوروبي

لقد شهدتُ تحوّل الخطاب الأوروبي حتى في مؤسساته الحقوقية والليبرالية بعد الربيع العربي بسنوات قليلة من استنكار جرائم نظام بشار الأسد الذي قتل مئات الآلاف بدعم من روسيا وحزب الله في سوريا منذ الثورة عام 2011، إلى استنكار أفعال تنظيم الدولة “داعش”، ونسوا جميعًا جرائم النظام وأنه لولا تطرفها لن تكن هناك مجموعات تبيح قتل الجميع باسم الدين.

ولولا السكوت عن جرائم نظام الأسد وحلفائه في سوريا لما تجرأت الحكومة الإسرائيلية على الجرائم التي تفعلها الآن في قطاع غزة، من قصف أحياء سكنية كاملة وتجمعات ذات كثافة سكانية مثل مخيم جباليا، وهو بالضبط ما كان يفعله الأسد في حمص عام 2012 ومخيم اليرموك عام 2013 ولاحقًا عام 2015 في مناطق ريف دمشق يحاصرها ويجوعها ويمنع عنها الدواء، وأثناء ذلك يرمي عليها براميل القنابل.

والآن مع ما يحدث في غزة تجاوز الأمر السكوت، بل إن بلد الإخاء والعدالة والمساواة الذي أعيش به وصل حد أن يلقي علينا قنابل الغاز لمجرد الهتاف لفلسطين في المظاهرات. أصبح الأمر من المحرمات هنا، ولاحقنا رجال الشرطة المدرعون في مظاهرات يومي 12 و25 أكتوبر/تشرين الأول في ميدان جان جوريس بمدينة تولوز.

هناك عزل لفلسطين بسبب العملية العسكرية التي قام بها الجناح العسكري لحركة حماس بقيادة محمد الضيف، وبالتأكيد لا مبرر لقتل واختطاف المدنيين في أي مكان بالعالم، بل لا أراه يفيد تاريخ أية قضية نضالية، لكن لا يجب أن يتغاضى العالم ذاته عما فعلته إسرائيل في آخر ثلاثة أعوام. ولن أقول منذ 75عامًا حين مشى جدي وجدتي طريقًا طويلًا من الآلام من قريتي الأصلية صرفند العمار حتى وصلا إلى غزة عام 1948. واليوم وسط هذا النزوح والقتل المتواصل والسكوت العالمي، أشعر أنني أفهم ما كانا يواجهانه في ذلك الوقت، ولماذا اضطرا للهجرة.

وفي هذه الأعوام الثلاثة الأخيرة، تضاعفت أعداد المستوطنين في أراضي الضفة الغربية والقدس، وأصبحت السجون الإسرائيلية مليئة بحوالي ستة آلاف أسيرًا فلسطينيًا منهم مرضى لا يتلقون العلاج، وبينهم أكثر من ألف وتسعمائة احتجاز إداري أي دون محاكمة، كما هناك 170 طفلًا منهم يتعرضون للتعنيف جسديًا ونفسيًا. ناهيك عن 17 عامًا من الحصار على شريط ساحلي كان ياسر عرفات وعد يومًا بأن يجعل منه “سنغافورة جديدة”، حين عاد إلى غزة قبل ثلاثين عامًا، وقد كان سلم كل أوراقه وأسلحته لتحقيق السلام.

إذا كانت إسرائيل أطعمت في الماضي هذا “الوحش” الذي أكلها حية في الحاضر، كيف سيكون الجيل القادم الذي يشهد كل هذا القتل والخوف والدم؟ هل سيحب فكرة السلام؟ هل سيعيش يومًا في مظلة ثنائية القومية أو حتى حل الدولتين؟ لا يمكنني أن أرى ذلك، ولن يبقى الأطفال الذين يشهدون الآن جرائم قتل عائلاتهم كاملة أطفالًا للأبد.. لكن الليلة على الأقل، الليلة فقط، ضمنت أن ابنة أختي الرضيعة نامت بشبه ابتسامة على فمها بعد أن سمعت أغنية “الصيصان شو حلوين”.