أن تقول كلاما منمقًا لا معنى له: هكذا يفهم البعض الدبلوماسية، وهكذا “يفعل” البعض بالدبلوماسية. وهذا بالضبط “ما ارتكبه” العرب في الرياض في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد ما يتجاوز الشهر على بداية المجزرة الإسرائيلية في غزة، وما كتبه جو بايدن في مقاله “الدبلوماسي” في الواشنطن بوست، بعد أن أعطى عمليًّا لإسرائيل الضوء الأخضر - فضلا عن السلاح - في أن تفعل كل ما فعلته.. وتفعله.
في نشرة أخبار قناة “فرانس 24” الصباحية ليوم الأحد 19 نوفمبر/تشرين الثاني والتي قدمت عرضا لمقال بايدن “الدبلوماسي”، كان الخبر الأبرز هو قصف الطائرات الإسرائيلية لمدرستين تابعتين للأونروا، وتساقط عشرات الضحايا، معظمهم من النساء والأطفال.
الخبر الثاني، المصحوب بصور مروعة كان عن فرار مئات المرضى (أكرر: المرضى) من مستشفى الشفاء بغزة “مشيًا على الأقدام”، بعد صدور أوامر إسرائيلية بإخلائه “فورًا”، ولعدم قدرة سيارات الإسعاف على نقلهم، إما لانسداد الشوارع بأنقاض المنازل المدمرة، أو لنفاد الوقود الذي يمنع الجيش الإسرائيلي دخوله إلى القطاع. لا جديد في مثل تلك الأخبار، ولا حتى في تفاصيلها المروعة، والتي بلغة الإعلاميين كادت أن تفقد (لاعتيادها) تعريفها كأخبار.
الإفراج عن الإسرائيليين، كهدف حصري
في النشرة ذاتها أخبار عن الزيارات والاتصالات والجهود الدبلوماسية المحمومة التي تهدف حصريًّا للإفراج عما تسميه الآلة الإعلامية الإسرائيلية (وتلك التي تنوبها في الغرب) “الرهائن” الإسرائيليين (والحال أن من بينهم سجناء حرب) لدى حماس، وليس لا سمح الله إيقاف آلة القتل الجهنمية التي تستهدف الأطفال والمدنيين في غزة (أكثر من 13 ألفاً حتى كتابة هذه السطور)، ولا حتى تبادل هؤلاء الإسرائيليين بأولئك الأسرى الفلسطينيين من نساء وأطفال في المعتقلات الإسرائيلية، وهو بالمناسبة ما عرضته رسميا حماس “الإرهابية”، ورفضته الحكومة الإسرائيلية في البداية، قبل أن تقبل به في إطار الهدنة.
أكثر من مرة، يتصل ماكرون بتميم آل ثاني وعبد الفتاح السيسي، ثم يسافر ثانية إلى القدس لإبلاغ نتنياهو أن “عدد الضحايا في غزة كبير”. أما أورسولا فون دير لاين، الدبلوماسية الأوروبية الأولى، فقد هرعت إلى القاهرة “لبحث جهود الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين”، وليس لسبب أخر، كما يقول نص الخبر.
مثل تلك الأخبار لا تقول غير أن هناك من لا يرى قيمة لأرقام الضحايا العرب – بالآلاف -، كما لا يرى قيمة للقادة العرب أكثر من استخدامهم، أو محاولة استخدامهم للتوسط لإطلاق سراح الإسرائيليين. ولا بأس من تحسين البيان “الدبلوماسي” بحديث “دبلوماسي” عن التمسك بـ“حل الدولتين”، الذي يعرف كاتبو البيان، كما يعرف بايدن صاحب مقال “واشنطن بوست”، أن الإسرائيليين لم يتركوا عبر ثلاثة عقود من الاحتلال، وضم الأراضي، وتوسيع المستوطنات أي مجال واقعي لتطبيقه. ولكن “الكلام مش بفلوس”، كما يقول المثل الشعبي المصري، وكما تعلم كاتبو البيانات “الدبلوماسية” الغربية من خبراتهم مع الحكومات العربية.
أفعالٌ غائبة
المقال «الدبلوماسي» جدا للسيد بايدن، لا يمكن قراءته إلا كرد “دبلوماسي” على احتجاج لافت لعدد غير قليل من موظفي الخارجية الأمريكية على ما وصفوه بأنه “سياسة متسامحة للغاية مع ما تفعله إسرائيل بالمدنيين في غزة”. (بالمناسبة، هناك احتجاج مماثل لسفراء فرنسيين، لا يختلف في مضمونه، يعيبون على الرئيس الفرنسي، من خلال مذكّرة داخلية، تجاهله لموظفي الخارجية الفرنسية). كما قد يكون دالا أن احتجاج موظفي الخارجية الأمريكية كان عبر قناة داخلية أنشئت إبان حرب فيتنام، للسماح بالاعتراض (داخليا) على سياسات الإدارة. وربما كان لها أثر، ضمن عوامل أخرى، في الإسراع بإخراج الولايات المتحدة الأمريكية من المستنقع الفيتنامي.
في كل الأحوال، كان يمكننا أن نصدق ما ورد من كلام لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، لو لم نر من الأفعال – أو من غيابها - ما يتناقض شكلا ومضمونا مع ما قرأنا.
يكتب السيد بايدن: “لا ينبغي أن يكون هناك تهجير قسري لفلسطينيي غزة”، ولكنه يستخدم الفيتو في مجلس الأمن ليجهض قرارا بوقف الحرب، رغم أنه يعرف أن تدميرا ممنهجا للقطاع ومبانيه وبنيته الأساسية، فضلا عن التجويع، والتعطيش، والقصف العشوائي سيجعل من القطاع الضيق مكانا لا يصلح للحياة، وستكون نتيجته الطبيعية أن يحاول السكان الفرار من الجحيم.
متجاهلا أي إشارة إلى ما تفعله قوات الاحتلال في الضفة اجتياحا واغتيالا، يشير السيد بايدن إلى ما يفعله المستوطنون من “عنف متطرف” ضد الفلسطينيين، وإلى أنه يجب أن يتوقف، دون أن يقرر أو حتى يلمّح إلى أي إجراء عملي لإيقاف هذا “العنف المتطرف”، والذي بالمناسبة لم يسمه “إرهابا”، رغم قائمة الضحايا الطويلة التي توثقها المنظمة غير الحكومية الإسرائيلية لحقوق الإنسان “بتسليم”. بالمناسبة، لم يذكر بايدن في مقاله أبدا لفظ “مستوطنين”، رغم عشرات البيانات الأمريكية الرئاسية السابقة التي “تطلب” من الحكومة الإسرائيلية إيقاف خطط الاستيطان.
عندما يصبح “حلّ الدولتين” أقرب من وقف إطلاق النار!
رغم غياب هذه المفردة: “المستوطنين” في مقال الرئيس، ورغم حقيقة أن ثلاثة عقود من الاستيطان الممنهج أجهضت أي إمكانية واقعية لقيام كيان فلسطيني “مستقل” على تلك الأرض، ورغم موقف إسرائيلي رسمي معلن ومعروف، ولأن الكلام لا يعدو أن يكون سقف ممارسة الدبلوماسية، لم يتردد الرئيس في مقاله في ذكر الشعار “المخدّر” البراق: “حل الدولتين”، متسائلاً في براءة: “هل يأتي يوم نرى فيه الإسرائيليين يعيشون إلى جانب الفلسطينيين في سلام؟”. هل لنا أن نتساءل هنا (بالبراءة ذاتها): كيف لرئيس لا يستطيع أن يفرض هدنة أو أن يطالب بوقف نار، أن يحدثنا هكذا عن “حلّ الدولتين”؟
بالمناسبة تشير الرسالة الداخلية لموظفي الخارجية الأمريكية المعترضين على طريقة تناول الإدارة الأمريكية للأزمة إلى ضرورة تقديم خطة “جادة” لاتفاق سلام من شأنه أن يخلق دولة فلسطينية – “وليس فقط التشدق بالفكرة” – (and not simply pay lip service to the idea) كما تقول الرسالة نصًا.
أيا ما كان أمر المحتجين، أو تأثيرهم فالثابت أن ما غاب عن مقال الرئيس الأمريكي، ربما كان أهم مما ورد فيه. فلا دعوة إلى وقف إطلاق النار، ولا دعوة لرفع القيود الإسرائيلية المفروضة على تدفق المساعدات الانسانية، ناهيك عن رفع الحصار الإسرائيلي المستمر لسبعة عشر عاماً، ولا مطالبة للإسرائيليين باحترام القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الخاصة بحمايه المدنيين زمن الحرب، وبالطبع لا حديث ولا مجرد إشارة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والعودة إلى حدود 1967، رغم القرار الأممي بهذا الخصوص. على العكس تمامًا، يؤكد الرئيس الأمريكي في خطابه رفضه الكامل لوقف إطلاق النار في القطاع المحاصر مع الإيهام برفع سقف طموحه قائلاً: “لا ينبغي أن يكون هدفنا مجرد وقف الحرب اليوم”.
عربيًا، مطالبات لا قرارات
شكليًّا، قد تبدو المسافة شاسعة بين عبارات المقال “الدبلوماسي” لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان قد قال صراحة أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي “أنا صهيوني”، وبين ألفاظ البيان الحماسي لقمة الزعماء العرب في الرياض. بيد أن النتيجة على الأرض واحدة. فمقال بلا قرارات، حتى لوكان لرئيس الدولة الأقوى في العالم والنصير الأول لدولة الاحتلال، لن يختلف تأثيره عن تأثير العبارات القوية (والفضفاضة) لبيان القمة العربية الإسلامية، والتي لم تخرج، رغم فصاحة العبارة ووضوح المواقف والبنود الواحد والثلاثين والولادة المتعسرة، عن الإدانة (10 مرات)، والرفض (مرتان)، والاستنكار (مرة) والتأكيد (خمس مرات)، والمطالبة (خمس مرات).
بحكم المعاجم وقواعد اللغة، فـ“القرار” تعريفا لا يطلق إلا على ما ستقوم أو تنوي أنت “تنفيذه”، وليس “مطالبة” غيرك بذلك. فما بالك لو كان المُطالَب في بعض تلك “القرارات” هو العدو ذاته، القائم بالعدوان.
جميلٌ بلا شك أن ذكّرنا المجتمعون بالمبادرة العربية 2002، والتي تعتمد بوضوح مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وأن “لا تطبيع، قبل إعادة الحقوق لأصحابها”. ولكن كيف لنا بالله عليكم أن نقرأ تلك الإشارة، ونحن نعلم أن عددا معتبرًا من الموقعين على بيان القمة تجاوز - أو بالأحرى تجاهل - فعليًّا مبادئ وشروط تلك المبادرة، باتفاقات أُبرمت تحت عناوين دينية جذابة، أو بالإعلان عن اتفاقات اقترب موعد توقيعها، لولا أن ما جرى في غزة، أو على حدودها.
أعرف أن لم يكن واردًا بحال أن يذهب أحدٌ من “الزعماء” المجتمعين إلى حد طرح مسألة منع استخدام القواعد الأمريكية في الدول العربية - وما أكثرها - في المشاركة في الأعمال العسكرية الدائرة حاليًّا ضد شعب عربي أعزل. ولكننا، وبعيدًا عن تفاؤل ليس في مكانه، لم نر في البيان مثلا تلويحًا بإيقاف مسيرة التطبيع “المجاني”، بقرار مثل منع مرور الطيران الإسرائيلي في الأجواء العربية، أو قطع العلاقات، أو حتى سحب السفراء للتشاور – وهي خطوة أقدمت عليها بلدان غير عربية، مثل جنوب إفريقيا، ودول في أمريكا اللاتينية، وإيرلندا. ناهيك عن تسمية ما يفعله جيش الاحتلال وليس فقط جماعات المستوطنين بالأعمال الإرهابية. ولست بحاجة إلى أن أُذكّر هنا بمواقف عربية سابقة، مثل استخدام سلاح النفط، أو مجرّد التلويح باستخدامه (في حال) لم يتوقف القصف والحصار.
أعرف، وسمعت كما غيري إسرائيليين يقولون على شاشات التلفزيون أن موقف بعض الحكومات العربية من حماس لا يختلف عن الموقف الإسرائيلي، ولكن هذه قصة أخرى.
وبعد،
فالخلاصة أن الفعل و“القرارات” هو ما غاب عن البيان كما عن المقال. اكتفاء بما في الكلام من “دبلوماسية” حاول مدبجو البيانات، كما المقالات، أن يخفوا بها عورة تحيز لهذا، أو عجز لذاك. هو “غطاءٌ دبلوماسيٌ” لا أكثر.