كان أحمد المناعي نسيجاً لوحده في الطبقة السياسية لتونس المعاصرة. متصلاً بها ومنفصلاً عنها، متفرداً، وبرياً أحياناً بالابتعاد قصداً عن سجون الحزبية والإيديولوجيا. لذلك كان دائماً عصياً عن التصنيف، وهو ما يجعل الكتابة عنه، وعن مسيرته، التي ناهزت الستة عقود من العمل العام، عسيرةً. هو نفسه كان مدركاً لذلك، وبين الجد والهزل، كنا دائماً، نختلف عن طريقة تقديمه. لم يكن يرتاح للقب ناشط أو حقوقي، وأحياناً يجزع من وصفه بالسياسي وربما عن تواضع كبير، لم يكن يريد أن يسمى بالكاتب. لكن هذه المعضلة، التي تعلقت بهويته، كفاعل في الشأن العام منذ ستينيات القرن الماضي، هي نفسها التي شكلت جوهر فرادته.
حياة من الكفاح
تقاطعت سبلنا صدفةً. أنا الشاب العشريني، الذي كنته قبل عقد ونصف، خارجاً للتو من تجربة سياسية ووجودية قاسية. وهو المعارض السياسي، الذي طاف العالم مهاجراً ومنفياً، وعاد أخيراً إلى البلاد، يائساً من معارضة الخارج. حدث ذلك قبل الثورة بسنتين في مقهى صغير في شارع إنكلترا. أحمد المناعي، من بين قلة من الناس، تجدهم وقت الضيق. لا يحب أبداً أن يكون صديقاً لمن هم في القمة أو المأخوذين بزهو المجد. ربما كنت مثله في ذلك، ولاسيما في النفور من المنتصرين والسادة والأقوياء وأصحاب السلطةً.
أدركت صداقته عند الهزيع الأخير، ومع ذلك كان ينصت لما أقول بانتباه شديد، وأحياناً أجدني مشدوهاً عندما يطلب أن يعرف من عندي معلومةً أو نصحاً في أمر ما. وحين كنت بالكاد قادراً على انتزاع مربع صغير في مجلة لنشر مقالة، جازف بأن ينشر كتابي الأول، والذي وضعني رغم هشاشة طرحه وسطحيته شأن محاولتنا الأولى في كل أمر، على خارطة الكتابة في بلاد لم تعد فيها للكتابة خارطة ولا اتجاه. بين تونس وسوسة وباريس، كانت لقاءاتنا قليلة، ورغم مرضه الطويل والممتد منذ ثلاثة عقود، إلا أنه كان يكابد بلا هوادةٍ تعبيراً وكتابةً ونشاطاً. قادراً في الوقت نفسه، على إدامة الشعور بالأمل وسط الظلام، فقد كانت لديه تلك الروحانية التي تسميها ريبيكا سولنيت “رحابة عدم اليقين”. ربما ساهم طوافه على مدى عقود بين الثورة الجزائرية والعمل الأممي والنضال الديمقراطي والوطني في تكوين هذا الأفق المتسعّ لفكرة الأمل. وقد بدا لي في آخر سنواته، بعمله الدؤوب في التدوين، كذلك الذي قامت الساعة وفي يده فسيلة فأبى ألا تقوم حتى يغرسها. يقينياً إلى أبعد الحدود، مع نزعة صوفية لا يخطئها القلب. إذا اقتنع بعدالة فكرة ما، نافح عنها ماضياً بها إلى ألقها.
“اُخرجوا، لقد قُتل فرحات حشاد”
كان اليوم غائماً في قرية الوردانين. وفي الصفوف الضيقة تلتصق أجساد التلاميذ الصغيرة على مقاعد رثةٍ في المدرسة اليتيمة. منتظرين ناقوس الفراغ من الدرس، كي ينطلقوا جرياً في الساحة. فجأة يقطع عمران موسى، زعيم الشباب في الساحل التونسي، قوس الانتظار، صائحاً في المعلمين والتلاميذ: “اُخرجوا، لقد قُتل فرحات حشاد”. في تلك اللحظة التي صعدت فيها روح الزعيم النقابي التونسي يوم 5 ديسمبر/كانون الثاني 1952، ولد أحمد المناعي السياسي. كان بالكاد لم يبلغ العاشرة من عمره. لكن صيحة عمران موسى قد دفعته نحو النضجٍ بقبضة واحدة. ولد المناعي في عائلة مهتمةٍ بالسياسة، وفي الساحل، حيث كانت للحركة الوطنية جذور وأيدي. كان خاله عبد الله فرحات (1914-1985)، قيادياً نقابياً في الاتحاد العام التونسي للشغل، وناشطاً في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، وفي بيت جده في الوردانين، كان أحمد المناعي يرى منذ صباه أغلب قيادات الحركة الوطنية، الذين سيتحولون إلى وزراء ومسؤولين في عهد الاستقلال. وخاله الثاني محمد كان قاضياً وشغل مناصب عليا في دولة الاستقلال. ومن فرط حماسة الصبي أحمد المناعي للمسألة الوطنية في ذلك الحين – وهو حماس لم يخب حتى رحيله – تدبر المال على قلته واقتنى بطاقة اشتراك في الحزب الدستوري عام 1954، وكان بالكاد يبلغ الثانية عشرة. ثم مطوعاً للقتال في معركة بنزرت عام 1961، ضد آخر معاقل الاحتلال الفرنسي.
لم يكن المناعي مهتماً باستغلال هذا الرأسمال الرمزي، السياسي والاجتماعي. شق بعد الاستقلال طريقه بعيداً عن دائرة إعادة الإنتاج الاجتماعي، الذي التهمت قطاعاً واسعاً من أبناء جيله، الذين استفادوا من آبائهم وأقاربهم، الذين كانوا في مسار الكفاح ضد الاستعمار، لتحقيق مكاسب في الدولة المستقلة. كانت همومه الشبابية معرفيةً. مأخوذاً بالمغامرة رحل إلى فرنسا ليشهد فيها ثورة مايو/أيار 1968، وقبلها الجزائر، عشية انتصار الثورة، ليعمل هناك مدرساً. وفي الجزائر سيعيش تحولاً فكرياً جذرياً بلقائه مع المفكر مالك بن نبي، الذي أضفى على تفكيره مسحةً روحية لن تغيب عنه أبداً. فيما كانت تونس البورقيبية، تنزع شئياً فشئياً نحو حداثة وضعية، شديدة القسوة، محروسة بالحزب ورجال الشرطة. كان أحمد المناعي يبتعد شئياً فشئياً نحو عقلانية مفعمةٍ بالروح. ولأنه كان دائماً نسيجاً لوحده، فقد كان من بين قلة من زملائه، من ذوي الثقافة الغربية، الذي لم يرَ في الدين أي عائق اجتماعي، كما كانت الدولة البورقيبية تصوره. وفي الوقت نفسه لم تكن روحانيته مؤدلجةً.
“مشيناها خُطى كُتِبت علينا”
بين فرنسا والجزائر والمغرب، ارتحل خلال عقدين، دارساً ومدرساً وخبيراً، ثم عاد إلى تونس ليشهد ثورة الخبز. كنت داماً ما أمازحه بالقول: “إنك كلما حططت الرحل ببلد حدثت فيه ثورة”، فيضحك مردداً بصوت خفيض قولاً للزاهد الديريني: “مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها”. أدرك البلاد وقد دخلت أزمة النظام والمجتمع نفقاً، من اللايقين والفوضى، لم يكن أحد يدري كيف سينتهي. كان النصف الثاني من الثمانينيات ثقيلاً. جاء انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، بقيادة زين العابدين بن عليّن ليحقق القطيعة مع بورقيبة، وفي الوقت نفسه الاستمرارية للنظام، على طريقة أحد أبطال جوزيبي دي لامبيدوزا في روايته الفهد قائلاً: “إذا ما أردنا إبقاء الأمور على حالها، فيتعيّن أن تتغيّر هذه الأمور”.
كان العام 1989، عام التحول وطنياً، بعد انتخابات أبريل/نيسان المخيبة للآمال، وكذلك شخصيًّا عندما اصطدم أحمد المناعي أول مرةٍ بالنظام الجديد، بعد أن كان مرشحاً للانتخابات التشريعية في دائرة المنستير، في قائمة دعمتها حركة النهضة. ومنذ ذلك الوقت أصبح المناعي على قوائم النظام كجزء من الإسلاميين. بعد عامين، ستندلع حرب فاصلة بين بن علي والحركة الإسلامية، كانت نتيجتها مصيرية بالنسبة للبلاد وللمناعي. بعد اعتقال لم يدم طويلاً لكنه شهد خلاله تعذيباً وحشيًّا، غادر الرجل إلى المنفى الباريسي، ليبدأ النضال مرةً أخرى في مقتبل عقده الخامس. وحتى ذلك الوقت كان متعاطفاً مع الإسلاميين، معتقداً بأن حركة النهضة كانت بريئةً من تهم المحاولات الانقلابية، التي رماها بها النظام.
“العذاب التونسي” و“حديقة الجنرال”
كان المنفى على قسوته كاشفاً. خلال عقدين من الغربة القسرية كان أحمد المناعي يقاتل على جبهتين: الاستبداد من جهة والذاكرة والحقيقة من جهة أخرى. في عام 1995 نشر كتابه، الوثيقة غير المسبوقة في رواية قصة التعذيب في تونس: “العذاب التونسي: الحديقة السرية للجنرال بن علي” (Supplice tunisien. Le jardin secret du général Ben Ali éditions La Découverte) يلقي الكتاب بحجر في بركة الصمت، حول التعذيب المنهجي الذي تمارسه الدولة ضد أبنائها، مستعيداً تاريخ آلة التعذيب هذه منذ الحقبة البورقيبية وصولاً إلى قصته الشخصية، التي جاءت صورها بشعةً ومؤثرةً إلى أبعد الحدود. كما نقل عشرات القصص ولاسيما حالات اعتقال النساء وتصويرهن عاريات من أجل ترهيب أزواجهن.
شكّل صدور الكتاب ضربةً موجعةً للنظام. حرّك بن عليّ مكاتب وكالة الاتصال الخارجي في باريس وبروكسل وجنيف، للقيام بحملة واسعة في العالم الفرنكفوني للردّ على الكتاب، وكانت التهمة جاهزةً، حول انتماء أحمد المناعي إلى حركة أصولية إرهابيةً. ومع ذلك فقد نجح الكتاب في اختراق التغطية الإعلامية في الدول الثلاث، وحظي باهتمام واسع من الصحفيين ومنظمات حقوق الإنسان. وحين فشل النظام في هزيمة المناعي بوسائل الدعاية، عمد إلى العنف، عندما دبرت عناصر أمنية تونسية محاولتي اغتيال له، الأولى في 29 فبراير/شباط 1996 والثانية في 14 مارس/آذار 1997.
بموازاة هذا الصراع مع النظام، كان أحمد المناعي في منفاه مخالطاً لكافة أطياف المعارضة، أفراداً وجماعاتٍ. وفي محنة التغريب القسري، شرع في اكتشاف هشاشة المعارضة وأمراضها، الانتهازية والزعاماتية، وضعف التفريق عندها بين المسألتين الوطنية والديمقراطية. وفي المنفى، اكتشف أن حركة النهضة ليست مجرد حزب إسلامي معارض، يسعى للديمقراطية والحرية، بل جزء من كيان أكبر. لكن الصدمة كانت حين اكتشف أن المحاولات الانقلابية التي اتهم النظام النهضة بتدبيرها في عام 1987، لم تكن مجرد تهمةٍ كيدية، بل حقيقة، وأن الجهاز العسكري والأمني للحركة لم يكن مجرد مبالغة أمنية للنظام، بل كيان له وجود وآثار وعناصر. وأن النفق الذي دخلته تونس منذ عام 1991، لم يكن الجنرال بن علي وحده المسؤول عنه.
في هذا السياق، المضطرب، من معارضة النظام ونقد المعارضة الحزبية، واصل أحمد المناعي النشاط في المنفى مدافعاً عن حقوق الإنسان والحريات. مطوراً نقداً جذرياً تجاه الحركات الإسلامية. وفي الوقت نفسه منخرطاً في النضالات العربية في المنفى ضد الحرب في العراق وقبل ذلك في دعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وما تلىَ ذلك من الهجمة الأمريكية الرافعة لشعارات مناهضة الإرهاب، مهتماً على نحو أكبر بالبحث والكتابة والنشر إلى آخر حياته، ضمن مؤسسة “المعهد التونسي للعلاقات الدولية”. وعندما فتح النظام سبيل العودة الفردية للمعارضين، قرر العودة إلى البلاد عام 2008، كونه لم يكن ملتزماً بأي حزب أو جماعة. ليتحول منذ ذلك الحين إلى عدو في نظر الإسلاميين. مع أن رجلاً لم يقدم للإسلاميين مزايا وجمائل كما فعل أحمد المناعي على مدى عقود، ودفع بسببهم الثمن غالياً، صحياً وعائلياً وسياسياً. كان المناعي دائماً ما يردد في نقد للإسلاميين قول الزعيم الإسلامي اللبناني فتحي يكنّ: “إن الحركات الإسلامية جالسة على قنبلتين موقوتتين، الأولى هي التنظيم السري والثانية هي الأموال، من أين تأتي وكيف تُصرف”، وكان يعتقد جازماً بأن حركة النهضة تجلس على هاتين القنبلتين. ربما كان محقاً أو مبالغاً، ولكن نقد المناعي لم يكن منطلقاً من رؤية استئصالية إيديولوجية ضيقة، بقدر ما كان نقد المعايش، متسع الأفق.
ربما يقف المرء حائراً أمام سيرةٍ تجاوزت الستة عقود من العمل في الشأن العام ومن أجله. وعاجزاً على تلخيصها، لكن كلمة منشق ربما تلخص هذه المسيرة. كان المناعي يسير طرقاً لم يسرها غيره، ويسلك مسالك مخالفةٍ للسائد طلباً للاستقلالية، وربما كانت تلك متعته الوجودية في تجاوز ذاته. جذوره الاجتماعية ورأسماله السياسي، كان كفيلاً بأن يؤمن له موقعاً رفيعاً في الدولة، ومع ذلك انشق بعيداً سالكاً طريقه الخاصة. ثقافته الواسعة وتعليمه الجيد كانا كفيلين بأن يحققا له مناصب دولية وثروةً، لكنه انشق سالكاً دربه المتفردة. قال في حديث له على أثير إحدى الإذاعات:
أنا قريب من السلطة بحكم وسط عائلي لم أختره… لكن لستُ جزءاً منها، ولم أدخلها يومًا، ولم أفكر في يوم من الأيام أن أكون جزءاً منها في أي مستوى من المستويات (...) لقد تعودت الدفاع عن قضايا اخترتها وانخرطت فيها.
ويقف المرء أيضاً مقصراً في الوفاء بعهد لصديق، شيمته الوفاء لأصدقائه والوقوف مع عامة الناس في محنهم، مثل أحمد المناعي. لكن العزاء في ذلك هو ما تركه المناعي من كتابات ونصوص، ربما يكون جمعها ونشرها أفضل استمرار رمزي لوجوده بيننا، نحن، أصدقاؤه ومحبوه، والأجيال التي لم تعرفه.