مستقبل دروز إسرائيل المجهول

منذ بداية العدوان على غزة، أعلنت الطائفة الدرزية في إسرائيل دعمها للحكومة والجيش، وهي الأقلية الوحيدة في إسرائيل التي تؤدي خدمة التجنيد الإجباري. ورغم أن ولاء الدروز لإسرائيل تاريخي، إلا أن مصادرة أراضيهم وصدور قانون عام 2018 الذي ينص على أن إسرائيل “دولة قومية للشعب اليهودي” أثارا استياءً شديدًا بين صفوفهم بلغ أحيانًا حد التمرد على الدولة.

الصورة تظهر مقهى أو مطعمًا يحتوي على عدد من الطاولات والكراسي، ويبدو أن المكان مفتوح وتغطيه مظلة من الأوراق أو النباتات. الأجواء تبدو مريحة ومرحب بها، حيث يجلس عدد من الزبائن في أماكنهم. هناك لافتات باللغتين العبرية والإنجليزية، كما تظهر أعلام متنوعة، مما يدل على تنوع الزوار. يمتد المكان في منطقة جمجومية، مع ضوء الشمس يتسلل من خلال الأوراق.
5 سبتمبر/أيلول 2012. العلمان الإسرائيلي والدرزي يرفرفان جنبًا إلى جنب في شرفة مقهى يقع في قرية درزية شمال إسرائيل.
فليكر

يرجع وجود الدروز في فلسطين إلى القرن السابع عشر، بعد هجرتهم من جبل لبنان إلى الجليل، وكان تعدادهم في بداية الانتداب البريطاني نحو سبعة آلاف نسمة موزعين على 18 قرية في شمال البلاد. أما اليوم فيبلغ عدد دروز إسرائيل حوالي 150 ألف نسمة، أي ما يعادل 1.6% من إجمالي السكان. ورغم اندماجها في المجتمع، تتمتع تلك الأقلية بنوع من الاستقلالية وتتميز عن الأقليات الأخرى بانخراط رجالها في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.

ومع انطلاق عملية “طوفان الأقصى” انحاز الدروز علنًا إلى الجيش الإسرائيلي، مؤكدين بذلك ولاءهم لتل أبيب. ويعجز كل من العرب ودروز لبنان وسوريا عن فهم موقف دروز إسرائيل حتى الآن، الذين باعوا في نظرهم القضية الفلسطينية منذ زمن بعيد. وبناءً عليه، ما موقع الدروز في دولة تطالب رعاياها بالاعتراف بهويتها اليهودية؟ وكيف يندمجون في نسيج المجتمع مع الحفاظ على هويتهم؟

دعم الجيش الإسرائيلي

في اليوم التالي لـ 7 أكتوبر/تشرين الأول، تحرك الدروز لدعم إخوانهم من الإسرائيليين الذين نزحوا إثر الهجوم وزودوهم بالطعام والمأوى، وسارع ممثلهم الرسمي الشيخ موفق طريف إلى إعلان دعمه للجيش في مواجهة ما وصفه بـ“الهجوم الإرهابي”. ويبلغ عدد الدروز الذي يخدمون في صفوف الجيش ما يقرب من 2500 درزي، وقد تعرّض سبعة جنود وأربعين مدنيًا للقتل أو الأسر على يد حماس أثناء المعركة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لكن ما يسعى إليه الشيخ طريف فعليًا هو تحقيق مكاسب في ملف طائفته الشائك والحيوي، والمتمثل في مصادرة الأراضي والعقوبات المرتبطة بالإنشاءات غير القانونية.

فبسبب السياسات الإسرائيلية، فقد الدروز ما يقرب من ثلثي أراضيهم خلال العقود الستة الماضية. في عام 1950، كانت الطائفة الدرزية البالغ عددها حوالي 15 ألف نسمة تمتلك أراضٍ بمساحة 325 ألف دونم (32,500 هكتار). وبحلول عام 2008، تقلصت تلك المساحة إلى 116 ألف دونم (11600 هكتار)1 رغم أن عدد أفراد الطائفة وصل إلى 100 ألف نسمة.

أوامر هدم متعاقبة

ويسعى سكان بعض القرى المتضررة من المصادرات، مثل يركا وكسرى، إلى تكثيف ضغوطاتهم على الحكومة، بعد أن أجبروا على مغادرة أراضيهم التي اعتبرتها السلطات “أراضٍ ميتة” أو تنقصها الوثائق القانونية اللازمة. وقد اتخذت المواجهات منحى أكثر عنفًا في بيت جن، وفي منطقة جبل ميرون، تحولت أراضي الدروز إلى محمية طبيعية. وفي عام 2004، انتشرت القوات المسلحة في قرية عسفيا لمصادرة الأراضي، وفي عام 2009، تم الإعلان عن سبعة مشاريع جديدة تربط بين شمال وجنوب إسرائيل وتمر عبر القرى الدرزية. وفي عام 2010، اندلعت المواجهات مرة أخرى مع الشرطة.

جرى بعد ذلك تأجير بعض الأراضي التي استحوذت عليها الدولة للدروز الذين خدموا في الجيش بتكلفة باهظة للغاية، مما جعل إمكانية بناء منازل في قراهم أمرًا مستحيلاً. وعلى مدار العقدين الماضيين، اختار البعض الاستقرار في بلدات يهودية، بينما اختار آخرون اللجوء إلى البناء غير القانوني. وفي عام 2017، أدى تعديل قانون “كامينيتس” للتخطيط الحضري إلى إضفاء الشرعية على أوامر الهدم، حتى أنها سرت على عائلات الجنود الذين قتلوا أثناء هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وتشمل العقوبات أيضًا غرامات باهظة وأحكامًا بالسجن، ويمنح هذا القانون مفتشي المباني العاديين سلطة تنفيذه في وقت وجيز جدًا، بغض النظر عن الظروف الشخصية التي أدت إلى المخالفة. ردًا على ذلك، كثّف الشيخ طريف من مناشداته للحكومة، وهدد باتخاذ “إجراءات غير مسبوقة” في حال استمرار القانون. ورغم أنه جدد ولاء الطائفة لإسرائيل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، لم يتردّد في تكرار مطالبه.

امتيازات أكثر منها حقوق

ولا يهدف إصراره إلى تجنيب طائفته عمليات الهدم والغرامات والعقوبات الأخرى فحسب، وإنما يهدف إلى ضمان تماسك الجالية وديمومتها من خلال إثناء الشباب عن الاستقرار في المناطق اليهودية والاندماج فيها. فبعد إقرار قانون “الدولة القومية للشعب اليهودي” عام 2018، أصبح الدروز يدركون أنهم يتمتعون بـ “امتيازات وليس بحقوق”، وأنهم يعانون من التمييز الذي يقصيهم عن الأمة الإسرائيلية. وقد تظاهر عشرات الآلاف في وسط تل أبيب للمطالبة بالمساواة، ومن ثم يبدو من المشروع القول إن الدروز، شأنهم شأن الأقليات الأخرى، “يمكنهم اعتبار المواطنة إطارًا يمنحهم السلطة القانونية لمعارضة سياسات الدولة، وليس شكلاً من أشكال الارتباط بالدولة”2.

بالنظر إلى هذه الحقائق، ما موقع الدروز في دولة إسرائيل؟ في نهاية عشرينيات القرن الماضي، بدأ اهتمام الصهاينة بالطائفة الدرزية في فلسطين كحليف محتمل في مشروع إقامة دولة يهودية3. وقد نأى الدروز بأنفسهم عن أعمال الشغب التي وقعت عام 1929، مما أضعف المقاومة الفلسطينية، ثم تبنوا استراتيجية تقوم على التكيّف والتماسك من أجل الحفاظ على بقائهم في بيئة أقل ما يقال عنها أنها عدوانية. وعلى عكس العرب في المناطق الحضرية، كانوا في الأصل فلاحين يعيشون بشكل رئيسي في جبل الكرمل والجليل. وكانوا يفتقرون إلى المؤسسات اللازمة لتنظيم صفوفهم وإلى أدوات التمكين الاقتصادي، ولا يقيمون أي تفاعلات سياسية مع الجماعات الأخرى. كما أنهم لم يشاركوا في الحوار الوطني وفي الحملة المناهضة للصهيونية التي قادتها الحركات العربية في ذلك الوقت. وبهذا لم ينظر الدروز إلى الهجرة اليهودية بوصفها تهديدًا، بل بوصفها فرصة لتحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي وسياسي في قُراهم.

من خلال الأسواق اليهودية، استطاع الدروز بيع منتجاتهم الزراعية لأول مرة خارج الحدود المحلية، كما سهّلت لهم المستعمرات الحصول على الرعاية الصحية بفضل الأطباء القادمين من أوروبا. وهكذا تم تشكيل التحالف بين اليهود والدروز على أساس المصالح المشتركة، والتي تفسّر وقوفهم على الحياد خلال الثورة العربية في فلسطين تحت الانتداب في الفترة من 1936 إلى 1939.

هوية محددة ومعترف بها

بعد قيام دولة إسرائيل، تشكلت هوية درزية إسرائيلية مفصلة عن الهوية العربية، بدأت بإنشاء مجلس ديني عام 1957، ثم مجلس للمحاكم الطائفية عام 1962. وقد حلّت كلمة “درزي” محل كلمة “عربي” في خانة الجنسية. وفي الخمسينيات، شارك بعض أفراد الجالية في الكنيست، قبل أن يتبوأوا مناصب سياسية ودبلوماسية مهمة أخرى. وبعد فشلهم في تأسيس حزب خاص بهم، انضم الدروز إلى المنظمات التقليدية مثل حزب العمل أو الليكود، وفي الآونة الأخيرة، إلى كاديما وإسرائيل بيتنا. وطالب النائب حمد عمار الذي تم انتخابه عدة مرات على قوائم حزب “إسرائيل بيتنا” بالمساواة مع اليهود، وهو من تقدم بالقانون الذي تم إقراره عام 2018 باعتبار الأول من مارس/آذار يومًا وطنيًا لإحياء مساهمة وعطاء الطائفة الدرزية.

وينبع هذا الولاء الذي تدين به الطائفة الدرزية لإسرائيل أيضًا من المنهج الدراسي الخاص بالدروز، والذي غرس فيهم منذ عام 1977 وعيًا هوياتيًا محددًا والولاء لدولة إسرائيل واللغة العبرية. وسرعان ما مكنتهم إجادتهم للعبرية من أن يصبحوا مترجمين فوريين للمحاكم العسكرية وطُلب منهم البقاء على الحياد.

تجنيد إجباري

أدمِج الدروز في الجيش منذ تأسيس دولة إسرائيل. ومنذ عام 1956، أصبح لزامًا عليهم أداء الخدمة العسكرية على عكس الفلسطينيين الآخرين في إسرائيل – المسيحيين والمسلمين – الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. وبصرف النظر عن الجالية الشركسية الصغير، فإن الدروز هم الطائفة غير اليهودية الوحيدة التي تخضع للتجنيد الإجباري، بالإضافة إلى حصولهم على مزايا اقتصادية كبيرة، مما يجعل الجيش مصدرًا للأمان المالي ومؤشرًا على الخصوصية المجتمعية.

غالبًا ما يوضع الجنود الدروز في الخطوط الأمامية، وتكون الخسائر التي يتكبدونها فادحة بالنسبة إلى عددهم. ولهذا السبب ينظر بعض مفكري الجالية إلى هذا القانون على أنه فعل استعماري يعوق الشباب عن مواصلة دراستهم. ويعد عدد خريجي التعليم العالي من الطائفة الدرزية الأدنى من بين جميع الأقليات. وفي عام 2014، شجعت حملة “ارفض، شعبك يحميك” الشباب على رفض أداء الخدمة العسكرية. وتهدف الحركة إلى تعريف الدروز بتاريخهم العربي، وتوعيتهم بأساليب التلاعيب الإسرائيلية. كما تنتقد المعارضة الدرزية أيضًا التفاوت بينها وبين المستعمرات اليهودية المجاورة فيما يخص تطوير الأراضي، حيث تحصل الأخيرة على بنية تحتية حديثة وخدمات عامة متقدمة.

إجمالاً، يمكن تفسير ولاء دروز إسرائيل من خلال مجموعة من الظروف التاريخية والجغرافية بل والدينية (مثل مبدأ التقيّة) الخاصة بهم، وتعد الدوافع البراجماتية ومحاولة إنقاذ مصالحهم هي محركهم الأساسي. ورغم وجود أقلية رافضة خوض “معركة تقودها حكومة فاشية” كما أكدت صفحة “ارفض، شعبك يحميك” على مواقع التواصل الاجتماعي في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلا أنهم لا يستطيعون رفض الجنسية الإسرائيلية كما فعل دروز الجولان مدفوعين بشعور قوي بالانتماء القومي لسوريا. وعلى الرغم من الاختلافات بينهما، تحافظ هاتان الطائفتان الدرزيتان على نوع من التضامن. ولا يتردد الشيخ طريف في تسليط الضوء على مطالبهم، خاصة فيما يتعلق بمشروع توربينات الرياح الذي تعتزم الحكومة الإسرائيلية إقامته على أراضيهم الزراعية. إن مستقبل الدروز يعتمد على نتيجة الحرب الحالية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين. فهل ستعيد الحكومة، التي تواجه بالفعل انقسامًا عميقًا في جبهتها الداخلية، النظر في سياساتها التمييزية تجاه أقلية تقاتل في صفوف جيشها؟ ماذا سيكون مصيرها في حال إعادة توزيع الأوراق لصالح الفلسطينيين، أو في حال زحف حزب الله على أراضيهم الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من الحدود اللبنانية؟

1“البلديات المحلية والمدن العربية في إسرائيل”، المركز العربي للتخطيط البديل، أكتوبر/تشرين الأول 2008.

2أمل جمال، “استراتيجيات نضال الأقليات من أجل المساواة في الولايات العرقية: السياسة العربية في إسرائيل”، دراسات المواطنة، المجلد 11، العدد 3، يوليو/تموز 2007.

3ليزا حجار، “تدخلات إسرائيل بين الدروز”، تقرير الشرق الأوسط رقم 200، 1996.