تختلف الحرب الحالية على غزة عما سبقها من صراعات بين إسرائيل وفلسطين. فالقضية الفلسطينية تتعلق في الأصل بحلمٍ بعيد المنال لشعب بلا دولة، حلم بتقرير مصيره. إنها قضية تتمحور حول الأرض والسيادة والتعايش المشترك وحقوق الإنسان. أما الصراع الذي اندلع عام 2023، فقد اتخذ منحىً مختلفًا، إذ فتح المجال أمام دول أخرى لإصدار أحكام أخلاقية قائمة على مخاوفها الخاصة وتناقضاتها الداخلية. كما يعكس الصراع تفسّخ نظام الحكم الفلسطيني والسياسة الإسرائيلية والقيم الغربية، ويجسّد كذلك عملية إعادة تشكيل مذهلة يشهدها النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، والذي لم يعد خاضعًا للانقسامات القديمة. باختصار، باغت الصراع الحالي فلسطين وورّطها على عدة أصعدة تتجاوز أفقها الأولي.
في إسرائيل، كانت حرب غزة جزءًا من مخططاتٍ تتجاوز مستقبل حماس، إذ أتاحت للحكومة في تل أبيب تسريع استيطانها للضفة الغربية، بتقييد حركة العمال ورؤوس الأموال وتقليص صلاحيات السلطة الفلسطينية التي كانت محدودة بالفعل. وفي طولكرم وجنين، يقوم المستوطنون بتدميرٍ ممنهج للممتلكات الفلسطينية تحت حماية الجيش.
في إسرائيل، اليسار واليمين يتّحدان
ومع ذلك، فإن الحرب لم تعِد تشكيل السياسة الإسرائيلية، بل كشفت إلى أي مدى فقدت الانقسامات الأيديولوجية المعتادة معناها. حيث يرى اليمين الصراع من منظور ديني تبشيري، فحتى لو كان خيار وقف إطلاق النار مطروحًا، فإن أيديولوجيا اليمين الصهيونية المتطرفة وقناعته بتأدية “مهمة إلهية” تدفعه إلى التخلص من الفلسطينيين كشعب. كما أنه يزدري القانون الدولي ويرفض حماية الفلسطينيين التي تنادي بها الهيئات الدولية.
أما اليسار فيتبنّى نسخة مخفّفة من هذه الرؤية التي تجعل من فلسطين “الآخر” الأبدي، كما أشرف على إفقار السلطة الفلسطينية في مرحلة ما بعد “أوسلو”، من خلال فرض تدابير أمنية بلا هوادة، مما ساهم في جعل حل الدولتين مستحيلاً. إذا كان اليمين الإسرائيلي يطمح إلى إنشاء “غيتو” فلسطيني، أو الأدهى من ذلك، التهجير الجماعي للفلسطينيين إلى مصر والأردن، فإن اليسار يفضّل قيام دولة فلسطينية تقوم على ما تبقّى منها. لقد صفّق اليسار كاليمين بحرارة عندما قتل الجيش الإسرائيلي مئات الفلسطينيين في يونيو/حزيران 2024 لإنقاذ أربع رهائن. فالانقسام السائد بين المعسكرين لا يتعلّق بفلسطين، بل بالقضايا الداخلية المتعلقة بالعلمانية والحكم.
ولا تستطيع حكومة بنيامين نتنياهو أن تنسحب من حرب غزة بشكلٍ منفرد، نظرًا للضغوط التي يمارسها ائتلافها. فهي لا تستطيع القضاء على حركة حماس كما أظهرت ذلك الحقائق العسكرية على الأرض، لكنها تريد في أحسن الأحوال أن تضعفها. ويزيد استمرار الحرب من احتمالات امتدادها شمالاً مع حزب الله، الأمر الذي يهدّد بدفع الغرب إلى حربٍ عقيمة مع إيران. ويأمل نتنياهو في جرّ أميركا إلى هذا الصراع، وهو ما يهدف إليه.
أما بالنسبة لمستقبل حماس، فلا يزال غير محسوم. من المؤكد أنه لن يُسمح لها أبدًا بحكم غزة، وهو ما يشمل مهام الإدارة وتقديم الخدمات وبناء الدولة، عندئذٍ سيكون عليها أن تكتفي بالسيطرة بدلاً من الحكم. لكن رغبة حماس في تمثيل القضية الفلسطينية لم تتغير، ويؤكد انتخاب يحيى السنوار زعيمًا لها في أغسطس/آب 2024 صمود الفلسطينيين وتحدّيهم لتطرف نتنياهو. على المستوى الجيوسياسي، تجاوزت حماس الخلافات التي قسمت العالم العربي وإيران إبان الحرب الأهلية السورية، حيث ابتعدت عن تحالفها السابق مع الحركات الإسلامية السنّية وأعادت علاقتها مع حزب الله وإيران اللتان قدمتا لها الدعم.
هذا الوضع يضع الفلسطينيين في موقفٍ محفوف بالمخاطر. فما تبقّى من فلسطين يواجه مستقبلين: قد تصبح مكانًا للمواجهة تنحصر فيه السياسة في منافسة غير فعّالة بين حماس وفتح والفصائل الأخرى الأكثر انشغالاً بالقضاء على الآخر بدلاً من الحكم، أو يتم تهميشها في نظامٍ دولي متشرذم، تعيد فيه الولايات المتحدة فرض خطط سلام لا علاقة لها بالسلام مثل اتفاقيات إبراهيم، مصحوبة بأمل واهٍ في أن يرى كيان مصغّر لدولة فلسطين النور على أنقاض الاحتلال والحرب.
نظامٌ إقليمي مضطرب
في دول أخرى في المنطقة، كشفت حرب غزة عن هشاشة الأنظمة الاستبدادية داخليًا، فضلاً عن الرياح المتغيرة التي تعيد تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. قد تبدو إيران منتصرة نظرًا لدعمها حماس وحزب الله، لكن مكسبها الحقيقي يأتي من إعادة توزيع الأوراق الجيوسياسية. فلم يعد الانقسام بين السُنّة والشيعة هو الذي يحدد آفاقها كما كان الحال في أعقاب الثورة الإسلامية عام 1979 وأثناء انتفاضات عام 2011، بل أعادت طهران تموضعها كمركز، ليس للهلال الشيعي، بل لـ“محور المقاومة” المناهضة للغرب، معتمدة على شبكات دعمها الواسعة لمختلف الدول والميليشيات. وفي الوقت نفسه، سعت إلى التقارب مع المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج بعدما استشعرت الانسحاب الأمريكي من المنطقة، كما تخلّت عن خطابها الشرس المناهض للسنة الذي ميز سياستها الخارجية في السابق.
فبعد أن تخلّى القادة الإيرانيون عن الدعوة إلى الإطاحة بالأنظمة العربية السُنّية، استغلّوا أزمة غزة لترسيخ نفوذهم على البنية الإقليمية الناشئة. وقد تجلّى أبرز دليل على تلاشي البعد الطائفي لعقيدتها القديمة في اليوم التالي لاغتيال إسماعيل هنية على يد إسرائيل في طهران في 31 تموز/يوليو 2024. حيث أمّ المرشد الأعلى آية الله خامنئي صلاة الجنازة على هنية، مما خلق تقاربًا مذهلاً: أحد أبرز الرموز الدينية الشيعية يقود مراسم دينية تخص أحد الرموز الدينية السنية. وعلى هذا فإن حرب غزة، في ظل تضامنٍ واسع يتجاوز الانقسام بين السُنّة والشيعة، كانت سببًا في إضعاف الطائفية، ليس فقط على المستوى الجيوسياسي، بل وأيضًا على المستوى العقائدي.
ومن جانبها، مارست أغلب الأنظمة العربية أيضًا لعبة انتهازية. على مدى أجيال، اكتفت تلك الأنظمة بالحديث عن فلسطين ورفضت دفع ثمن الدفاع الحقيقي عن القضية الفلسطينية. وقد أظهرت “اتفاقيات أبراهام” في عام 2020 إقبال بعض الدول على تطبيع العلاقات مع إسرائيل لفوائده الاقتصادية والاستراتيجية. وليس من قبيل المصادفة أن أقوى المدافعين عن فلسطين خلال الصراع الحالي كانت جهات فاعلة عربية غير تابعة لدولٍ بعينها، مثل حزب الله والحوثيين.
أما الآراء العربية العامة، فهي متفاوتة. يتعاطف أغلب العرب مع القضية الفلسطينية، لكن ليس ضمن الإطار التقليدي للإجماع العربي الذي اتسمت به العقود السابقة. لقد أظهرت ثورات الربيع العربي أن الخطاب التقليدي للأيديولوجيات القومية العربية لم يعد صالحًا، وتدرك الشعوب العربية أن حكوماتها طالما استغلت الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيون لتبرير وترسيخ حكمهم الاستبدادي. تدافع الشعوب العربية عن فلسطين على أساس مُثُلٍ أكثر عالمية تتجاوز حدود المنطقة، مثل حقوق الإنسان، وتجد جذورها في خطاب العدالة العالمي الذي ترمز إليه القرارات المختلفة لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. وهي تكافح من أجل تشكيل التحالفات اللازمة للحشد والتعبئة في مواجهة القمع، ولا تزال منظمات المجتمع المدني مفتّتة بسبب الاعتداءات السياسية والقانونية المتواصلة من جانب الأنظمة العربية، التي تخشى أي شكل من أشكال التعبئة الشعبية التي قد تؤدّي إلى إحياء الربيع العربي.
مصر والأردن في خط المواجهة
تواجه كل دولة عربية مجموعة خاصة من الفرص والأثمان المرتبطة بالحرب على غزة. استخدمت المملكة العربية السعودية حرب غزة كفرصة مواتية لإعادة تموضعها، موازِنةً بين الأولويات المختلفة. حيث قبلت التقارب مع إيران واعتبرت توثيق العلاقات معها وسيلة فعالة لضمان أمنها، كما طرحت إمكانية تطبيع العلاقات مع إسرائيل من أجل الوصول إلى اتفاقية دفاع أمريكية جديدة، بشرط أن يتضمن هذا الاتفاق الثلاثي شكلاً من أشكال الالتزام بإقامة دولة فلسطينية. وتشكّل هذه النقطة أهمية خاصة بالنسبة لآل سعود، نظرًا لدورهم كخدّام للحرمين الشريفين، مكة والمدينة.
لكن الوضع مختلف بالنسبة للدولتين العربيتين الموجودتين على خط المواجهة مع إسرائيل، وهما مصر والأردن. استغلت القاهرة الصراع لاستعادة مكانتها على الصعيد الإقليمي، إذ تلعب دورًا حاسمًا في إيصال المساعدات إلى غزة وتأمين إسرائيل من خلال تحويل سيناء إلى منطقة أمنية عازلة، والموافقة على التهجير الجماعي للفلسطينيين في المستقبل مقابل ثمن مناسب. والواقع أن القاهرة حوّلت هشاشتها إلى ميزة، كما فعلت في الأزمات الإقليمية السابقة مثل حرب الخليج بين عامي 1990-1991.
أما استراتيجية الأردن فتتمثل في تعزيز مكانتها كحامية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي تعتبر النسخة الشامية من البحرين. وتخشى المملكة الهاشمية عواقب حرب غزة نظرًا لأن الفلسطينيين يشكلون ثلثي سكانها، كما تخشى دعوات الصهاينة المتطرفة لجعل الأردن الوطن الجديد للفلسطينيين. ومع ذلك فهي بحاجة إلى الدعم الخارجي والحماية الأمريكية الناتجتين عن معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1994، والتي لا تحظى بأي شعبية.
الصراع بين المغرب والجزائر
امتدت حرب غزة إلى منطقة المغرب العربي، حيث تُعطى الاعتبارات المحلية أيضًا الأولوية. إن الموقف المناهض لإسرائيل الذي تتخذه حكومة قيس سعيد التونسية قديم، وهي تعيد إنتاج المواقف والاستعارات التي عفا عليها الزمن في الستينيات، وبالتالي فهي لا تسمح لتونس بالتصويت على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإسرائيل، لأن.. هذا البلد غير موجود بالنسبة لها. ويدعم هذا الخطاب الاستراتيجية الداخلية لرئيسٍ شعبوي يرى في الصراع فرصةً لإضفاء المزيد من الشرعية على حكمه غير الليبرالي. من جانبه، ظل النظام الجزائري بعيدًا عن دائرة الضوء، لكنه مثل تونس، قام أيضًا بدمج ما يحدث في فلسطين في حساباته الداخلية. حيث تنظم السلطات مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين بأعدادٍ محدودة، تهدف بشكل أساسي إلى تخفيف الاحتقان الشعبي وتجنّب قيام حراكٍ جديد. كما ينبع عداؤها لإسرائيل جزئيًا من التوترات القائمة مع المغرب والمخاوف التي يثيرها تطبيعه مع إسرائيل.
ويعدّ المغرب على وجه الخصوص عرضةً للتأثّر بتداعيات الحرب على غزة، بعد توقيعه اتفاق تطبيع مع إسرائيل في عام 2020. ومع تصاعد وتيرة الحرب، ظهرت معضلة عميقة بفضل اعتماد المغرب الأمني المتزايد على إسرائيل، والذي صار هيكليًا. لذا أصبح موقفه أكثر تعقيدًا بسبب ثلاثة عوامل تغذي بعضها بعضًا.
في البداية، سعى المغرب إلى تطبيع علاقاته مع إسرائيل لتعزيز قدراته الأمنية ضد الجزائر وتحسين موقفه في الصحراء الغربية. وبمرور الوقت، خلق هذا التطبيع بطبيعة الحال فرصًا لاتفاقيات أمنية جديدة واتفاقيات ثنائية عسكرية في مجال المسيّرات والأقمار الصناعية وغيرها، وهي إمدادات من شأنها سد الفجوة بين القدرات المغربية والجزائرية، لكن كل منهما يتطلب أيضًا التزامات طويلة الأجل حتى تتمكن إسرائيل والمغرب من العمل معًا. من جانبها، سارعت إسرائيل إلى الإعلان عن هذا التوثيق للعلاقات، وهو ما يشكل الخطوة الثانية، من أجل إبراز مزايا التطبيع للعالم العربي. وقد أعلنت إسرائيل عن كل عقد دفاعي جديد يتم توقيعه واحتفت به، مما وضع الرباط في موقفٍ محرج.
أثارت تلك الإعلانات اعتراضات وتظاهرات شعبية، وهذا هو العامل الثالث في العلاقات بين البلدين. حيث تحاول الحكومة تفريق تلك الاحتجاجات والحد منها قدر الإمكان، إذ تعتبر أي تعبير عن المشاعر المعادية لإسرائيل بمثابة تجريم لأفعالها. ولا يمكنها في تلك المرحلة التراجع عن تعزيز علاقاتها مع إسرائيل لأنها استثمرت بالفعل بشكلٍ كبير في هذه الخيارات الدفاعية، بينما تعمل الجزائر في الوقت نفسه على توطيد علاقاتها الأمنية مع روسيا وجهاتٍ راعية أخرى للحفاظ على تفوقها. علاوةً على ذلك، إذا جمّد المغرب تطبيعه مع إسرائيل إرضاءً لشعبه، فذلك يهدّد بتكبّده تكاليف اقتصادية وعسكرية كبيرة وبإبعاد واشنطن، راعية اتفاقيات إبراهيم. وضعت هذه الأحداث النظام الملكي المغربي في موقفٍ غير مألوف، نظرًا لتاريخه الطويل في التسامح مع اليهود والتضامن مع القضية الفلسطينية.
غربٌ فقد مصداقيته
وأخيرًا فإن الحرب التي تدور رحاها في غزة تثير تساؤلاً جدّيًا حول موقف الغرب من المنطقة. إن دعم الحكومات الغربية الدؤوب لإسرائيل لا ينبع فقط من حسابات جيوسياسية، بل يتماهى يومًا بعد يوم مع الحروب الثقافية المتغلغلة في النسيج الاجتماعي والسياسي لأمريكا وأوروبا. ويساوي المعسكر المؤيد لإسرائيل أي تعاطف مع القضية الفلسطينية بمعاداة السامية، متناسيًا معاداة السامية التي تتسم بها قوى اليمين المتطرف التقليدية التي تدعم إسرائيل. في أمريكا، على سبيل المثال، يعتمد السياسيون اليمينيون مثل دونالد ترامب على الدعم الشعبي لأولئك الذين يكرهون اليهود - ولكن بالنسبة لهم، لا يعد هذا معاداة للسامية، لأنه يأتي من أمريكيين يدافعون عن وطنهم عنصري الطابع. كما ترى تلك الأصوات في الصراع بين حماس وإسرائيل صورةً مصغّرة لمخاوفها من غزو الأجانب لمجتمعاتها التي تدّعي نقاءها. وعلى هذا فإن النخب والحكومة الفرنسية تربط هجمات حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بالمهاجرين واللاجئين المسلمين الذين يلوّثون الثقافة الفرنسية، وتنظر إلى الردّ العسكري الإسرائيلي باعتباره جهدًا شجاعًا لاستعادة الديمقراطية والدفاع عن الحضارة الغربية ضد البرابرة.
بالنسبة لهذه الجهات الفاعلة، لا يهدف اتهام النشطاء المؤيدين للفلسطينيين بمعاداة السامية إلى الدفاع عن إسرائيل فحسب، بل هو جزء من حماية أسوار القوة الغربية ضد الجحافل التي تحاصر الاستثنائية الفرنسية. وهي تعتبر هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بمثابة نسخة طبق الأصل من هجمات “باتاكلان” التي وقعت في نوفمبر/تشرين 2015 في باريس. وقد انتشرت هذه الرؤية المعادية للأجانب في السنوات الأخيرة في جميع أنحاء القارة، كما صرّح مفوض الاتحاد الأوروبي المسؤول عن تعزيز “أسلوب الحياة الأوروبي”.
وإذا كانت بعض الدول الأوروبية تدعم فلسطين بدرجاتٍ متفاوتة، فإن التصريحات المزدوجة بشأن القانون الدولي قوّضت الديمقراطية، إذ تعمد فيها الحكومات الغربية إلى القيام بإغفالات واستثناءات تعسّفية من النظام القائم على القواعد التي تدّعي أنها تدعمها. كما تؤدّي إلى تعزيز الديكتاتوريات في العالم العربي، والتي تنتهز الفرصة لتشويه سمعة الخطاب حول الديمقراطية في وقتٍ تواجه فيه هجمات ليس من قِبَل قوى استبدادية مثل روسيا والصين فحسب، بل ومن السياسات الشعبوية التي تتطور على المستوى الوطني. الخلاصة أن حرب غزة أبعدت فلسطين عن النضال غير القابل للاختزال الذي تقوم عليه قضيتها، والمتمثّل في المطالبة الراسخة بحق شعبها في تقرير المصير والتمتع بالحقوق العالمية. ويحلو للمراقبين التنبؤ بسيناريوهات ما بعد غزة في الشرق الأوسط، وكأن هناك «يومًا تاليًا». لكن الصراع لا يشكّل قطيعة تاريخية واحدة، لكنه يشكّل بالأحرى حلقةً مأساوية في سلسلة حلقاتٍ ممتدة من إعادة ضبط السياسات الداخلية والنظام الإقليمي. ولن تغيّر الانتخابات الأميركية المقبلة من الأمر شيئًا. ربما اختلف جو بايدن ودونالد ترامب في بعض الرؤى بشأن السياسات الواجب اتباعها في الشرق الأوسط، لا سيما فيما يتعلق بإيران، إلا أن كليهما يدعم الحكومة الإسرائيلية التي شرعت في تقطيع أوصال فلسطين من جديد من خلال سلسلة جرائم الحرب والتطهير العرقي والسياسات المتعمّدة لتجويع السكان. وإذا فاز ترامب بالانتخابات الرئاسية مرة أخرى، قد تشهد المنطقة نسخةً جديدة من “صفقة القرن”، ربما بمشاركة أكبر من المملكة العربية السعودية، لكنها لن تكون أكثر نجاحًا من إدارة بايدن في جلب الاستقرار إلى المنطقة.