الذهول. هي الكلمة التي تعبّر عن حال اللبنانيين بعد دقائق طويلة من الارتباك، حاولوا خلالها إدراك ما حصل في السابع عشر من أيلول/سبتمبر الجاري. دقائق، استفاقوا منها على حصيلة رهيبة للضحايا، كان من غير الممكن تخيل حصولها في ثانية واحدة، وهي المدة التي استلزمتها آلاف أجهزة النداء “بايجر” التي فخختها إسرائيل في مكان ما بين تايوان وهنغاريا وبلغاريا، لتفجرها الأسبوع الماضي في سياق سعيها لإيقاف جبهة الإسناد اللبنانية لغزة، في أيدي ووجوه حامليها.
لم تكتف إسرائيل بذلك، فما ان استرد الناس أنفاسهم وباشروا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى انفجرت، بعد 24 ساعة تماماً، الحلقة التالية من الجريمة بأجهزة “توكي ووكي” لاسلكية مفخخة بدورها، محدثة هي الأخرى إصابات كثيرة، رست في النهاية على 25 شهيدا و686 جريحاً حسب وزارة الصحة. ثم بعد فاصل ليوم واحد، نفذت إسرائيل الحلقة الثالثة من عدوانها، والتي تلت كلمة للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وصف فيها الاعتداء “بالضربة القوية وغير المسبوقة، والتي تجاوزت كل القواعد الأخلاقية والقانونية والإنسانية”، وقد جاءت على شكل قصف صاروخي بطائرة حربية لمبنيين سكنيين من ثمانية وخمسة طوابق بالتوالي، بقصد الوصول إلى طابق تحت الأرض كان قد انعقد فيه اجتماع لقوات النخبة في الحزب، ما أسفر عن اغتيال قائد “قوات الرضوان” ابراهيم عقيل، إضافة إلى 16 آخرين، و61 مدنياً، غالبيتهم من النساء والأطفال، والعديد من المفقودين.
عدوان بحلقات متصلة/منفصلة، استمر لاثنين وسبعين ساعة، وأوقع، حسب وزارة الصحة اللبنانية في محصلة غير نهائية، نظراً لأحوال الجرحى ذوي الحالات الحرجة والمفقودين، 90 شهيدا وشهيدة، جلّهم من المدنيين، وما يفوق ثلاثة آلاف ومائتي جريح، معظمهم حالات حرجة لا تزال في غرف العناية الفائقة، إضافة إلى عدد من المفقودين تعذّر البت بمصيرهم، بانتظار فحوص الحمض النووي للأشلاء المنتشلة من أنقاض المباني المقصوفة في الضاحية الجنوبية لبيروت.
انفجارات في كل مكان، سيما بالمستشفيات
جريمة حرب موصوفة؟ على الأقل. إرهاب دولة؟ لا شك. تحطيم للخطوط الحمراء؟ مؤكد. استهزاء بالقوانين الدولية؟ واضح. من الممكن استخدام كل تلك العبارات في فقرة واحدة لوصف ما فعلته إسرائيل الأسبوع الماضي، ما سيفتح صندوق باندورا كما تخوّف الكثير من الخبراء والقانونيين الدوليين، وذلك بإرساء سابقة “حرب الفخاخ” من دون عقاب رادع، وفقاً لما أسفرت عنه الجلسة الطارئة لمجلس الأمن الدولي، الذي عُقد السبت الماضي بطلب من لبنان، أو أي خطوة فعلية تحمي المدنيين الأبرياء.
خلال دقيقتين، أرادت إسرائيل اغتيال خمسة آلاف لبناني (في إشارة الى عدد أجهزة النداء المفخخة). إنها جريمة بنيّة إبادة. لم يكن الضحايا موجودين خلف المتاريس أو على الجبهة خلال اشتباك مع العدو، بل في بيوتهم، بين عائلاتهم وجيرانهم، في مستشفياتهم، أسواقهم، شوارعهم، سياراتهم، مدارسهم.. لكن إسرائيل أرادت الإيحاء بأنهم جميعاً مدانون بالانتماء لحزب الله، كون هذا الأخير هو من وزّع ذلك العدد من أجهزة الاتصال على مؤسسات مدنية كالمستشفيات والهيئات الصحية، إضافة لأطباء وممرضين متعاقدين مع تلك المستشفيات ويعملون في غيرها أيضا، بدليل انفجار أحدها بحاملها في مستشفى أوتيل ديو مثلا.
هكذا، انتشرت فيديوهات صورتها عدسات كاميرات المراقبة الخاصة والعامة بالصدفة لتلك الحوادث القاتلة. كان بالإمكان مشاهدة الناس حول حاملي تلك الأجهزة التي تفجرت فجأة، وهم يصرخون فزعين أو يصابون وينزفون غير فاهمين ما حصل لهم: خواصر مبقورة، أيادي مبتورة، أعين مفقوءة ووجوه محترقة. في دقائق، فرغت الطرقات من السيارات وحلت محلها عشرات سيارات الإسعاف في مناطق عدة لا بيروت وحدها، بقاعاً وجنوباً وحتى شمالاً في جبيل والبترون، مسرعة بين المستشفيات التي فتحت أبواب طوارئها في ذهاب واياب عبّر عن عدد الضحايا المذهل.
“كنت على دراجتي على طريق المطار حين دوى انفجار في سيارة كانت أمامي، سرعان ما انحرفت فوق الرصيف واصطدمت بها سيارة أخرى ثم أخرى”، يقول ناصر حمدان، صاحب محل أدوات كهربائية في منطقة برج البراجنة بضاحية بيروت، ويضيف: “لم أفهم شيئاً، لكني اعتقدت أن اغتيالاً حصل، فأدرت دراجتي وعدت من المسرب الثاني. لكن ما إن وصلت إلى مستديرة على بعد أمتار حتى وجدت الناس مجتمعين حول سيارة أخرى مموهة الزجاج يعملون على إخراج جريح آخر منها.” اتصل ناصر، الذي عمل قبل تقاعده في شرطة المجلس النيابي بأحد القدامى من رفاقه، فأعلمه الأخير أن إصابات مشابهة حصلت في كل المناطق اللبنانية. ويقول: “عندها فهمنا أنه عدوان إسرائيلي.”
موجة رعب
لم يصدق أحد الرقم الذي جرى تداوله بعيد الانفجارات الأولى عن عدد الإصابات! بدا الرقم غير معقول قبل أن تكتشف التفاصيل فيما بعد.
اندلعت على وسائل التواصل نداءات التبرع بالدم وشهدت البلاد على وقع تلك الصدمة ما وصفه رئيس الصليب الأحمر اللبناني بأكبر عملية تبرع بالدم شهدها لبنان على الإطلاق.
الضربات الثلاث المتتالية أصابت الناس بالهلع ثم الغضب الشديد: “هل تعلمين ما الذي يعنيه أن تكون واقفاً مع صديق لك في الشارع تأكلان سندويشاً وإذ بانفجار تطير معه ذراعه وتنتشر دماؤه على وجهك؟”، يقول جريح مدني للممرضة التي كانت تحاول تضميد جراحه هو الآخر. لم تكن إصابته خطرة، لكنه كان مصدوماً غير مصدق لـ “هذه الدرجة من الإجرام” كما قال. ليضيف بعد دقيقة: “لن أستغرب بتاتاً أن يكونوا هم من فجّروا مرفأ بيروت”، مردّداً بذلك ما سمعناه مرات عدة في الأيام الأخيرة، خاصة في غرف وسائل التواصل الاجتماعي.
أما ديمة التي تسكن منطقة الحدث الملاصقة لمنطقة الجاموس في الضاحية، مكان القصف الإسرائيلي، فتقول: “أحسست بزلزال تحت أقدامي، تمايل المنزل بكامله، ولفحتني موجة من حرارة عالية، ثم ساد صمت رهيب”. تشرح لنا أنها فهمت ما الذي يحدث “لأن المسيرات لم تغادر الأجواء منذ الصباح، لكني لم أتوقع كل هذا الإجرام: قصف مباني سكنية كاملة من أجل اغتيال بعيد عن الجبهة! قمة الإرهاب”. ثم تصمت للحظة وتستدرك: “طبعا هذا ما يفعلونه منذ ما يقارب العام في غزة، لكن التلفزيون شيء والواقع عندما تعيشينه شيء آخر”. ما هي إلا بضع ساعات، حتى حزمت ديمة أغراضها وأولادها واتجهت إلى قريتها البعيدة في الجبال، تماما كما فعل العديد من أبناء الضاحية.
في اليوم التالي، كان من الهين مقارنة محيط مكان القصف بما فعلته إسرائيل من دمار في الضاحية في حرب العام 2006، ركام من الأنقاض الضخمة والصغيرة تكوّم في الشوارع، محيلا المشي هناك إلى مهمة مستحيلة، كما خلت الشوارع إلا من فرق الإسعاف والدفاع المدني التي كانت لا تزال تحاول البحث في الأنقاض عن ناجين أو ضحايا. في حين استمرت المسيرات والطيران الاستطلاعي الإسرائيلي تجوب في السماء التي لا يملك أهلها ما يقيهم شرها.
موجة إشاعات فتضامن
بعد وقوع التفجيرات، انطلقت دعوات في صفوف اللبنانيين للابتعاد عن كل أجهزة الاتصال والهواتف الخلوية والحواسيب النقالة، وصولاً إلى أجهزة لا علاقة لها بالاتصالات، كبطاريات الطاقة الشمسية التي انتشرت مؤخرا في لبنان للتعويض عن غياب التيار الكهربائي وارتفاع سعره، أو حتى التلفزيونات. “أول ما فعلته عندما فهمت ما يحصل، أني فصلت الانترنت والكهرباء عن كل أجهزة المنزل”، يقول خالد البابا، صاحب متجر الكترونيات في منطقة البربير.
وعلى منوال ما حصل بعد انفجار مرفأ بيروت، هب لبنان من شماله إلى جنوبه لنجدة الجرحى والتضامن معهم، وهذا ما لطّف الوقع النفسي للكارثة. فقد خف الجميع للتبرع بالدم، حتى أولئك السياسيون الذين لا يطيقون بعضهم.
ولقد برز التضامن الشعبي العاطفي للشارع السني، كما في منطقة طريق الجديدة البيروتية، جارة منطقة صبرا وشاتيلا، أو عكار وطرابلس، والذي شهد تحولاً منذ بداية جبهة إسناد حزب الله لغزة وفلسطين. “ليش حدا بدو يستغرب التضامن؟”، يروي أحد الزملاء عن صاحب مقهى في المنطقة، لدى سؤاله عن إقبال شبانها للتبرع بالدم بعد مجزرة “البايجر”. فالطريق الجديدة كما قال “وضعت خلفها الخلاف السياسي مع حزب الله والفتنة السنية - الشيعية، في لحظة اتخاذ الحزب قرار فتح الجبهة الجنوبية إسناداً لغزة”.
هذا الموقف عبّر عنه الأهالي حين قال أحدهم: “عندما تكون إسرائيل في الدقّ، يتوقف أي خلاف”. ولمرة، كان أداء مؤسسات الدولة ودوائرها ممتازاً، خاصة وزارة الصحة التي كانت قد أعدّت منذ وقت طويل خطة طوارئ جعلت من عملية إنقاذ الجرحى، ومعالجتهم تتم بسرعة وفعالية بالرغم من العدد المهول الذي كان عليها التعامل معه فجأة وفي الوقت ذاته، كما في وفود آلاف الجرحى مثلا مرة واحدة إلى الطوارئ.
كما تقول إحدى موظفات وزارة الصحة التي لم تبح باسمها، معظم الإصابات كانت في العيون: “وهنا لم نكن نتصور أن يكون التركيز على هذه الإصابة، لكن بعض الدول المتعاطفة مع لبنان كإيران والعراق وسوريا، أخذت على عاتقها العديد من الجرحى في مستشفياتها”، في حين ساد البرود أو الصمت العدائي وأحياناً كلام الشماتة بلدانا كثيرة كان لبنان يعتبرها صديقة.