مصر. مصطفى مدبولي، مخطط عمراني في خدمة النظام الحاكم

تتوالى المشاريع الحضرية والعمرانية الكبرى، علاوة على مشروع العاصمة الإدارية الجديدة (القاهرة الجديدة) تحت نظام عبد الفتاح السيسي. إلا أننا ندين بها في الواقع لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي. وقد استطاع هذا المخطط العمراني التأقلم مع السياق السياسي لبلاده حتى يرى مشروعه “القاهرة 2050” النور.

الصورة تظهر رجلًا يرتدي بدلة سوداء مع قميص أبيض ورابطة عنق زرقاء. يبدو أن الرجل في حالة تفكير أو تركيز، حيث تعبير وجهه جدي. الخلفية حمراء، مما يضيف طابعًا رسميًا ومميزًا للصورة.
Michele Spatari / AFP

شهدت مصر حالة من التخبط السياسي والإداري امتدت ما بعد ثورة يناير ومازالت آثارها موجودة حتى الآن. وقد ظهرت آثار هذا التخبط جيدا على الهيكل الإداري للحكومة المصرية التي لا يأمن وزير فيها على منصبه. غير شخص واحد ظل متمسكا بمنصبه الحكومي، بل ترقى في المناصب وجمع بين بعضها، وهو مصطفي مدبولي رئيس الوزراء الحالي منذ 7 يونيو/حزيران 2018.

L'image présente une frise chronologique illustrant les événements clés de l'histoire politique égyptienne ainsi que les principaux dirigeants du pays. Elle commence avec la mention de 2011, marquée par la Révolution égyptienne, et continue à énumérer des événements marquants jusqu'à l'année 2018. On y voit également la mention de différents présidents égyptiens, tels que Hosni Moubarak et Abdel Fattah el-Sissi, avec des dates qui font référence à leur mandat. En arrière-plan, il y a le drapeau égyptien, ajoutant un contexte national à la frise.
أوريان 21.

حصن العائلة

صحيح أن مدبولي توجه إلى دراسة الهندسة والتعمق في التخطيط العمراني، عوض التوجه نحو الكليات العسكرية، إلا أنه يحظى بالانتماء إلى عائلة عسكرية متجذرة في هيكل الدولة المصرية. فهو ابن اللواء كمال مدبولي نصار، زميل المشير حسين طنطاوي في الكلية الحربية، وأحد قادة سلاح المدفعية في الجيش المصري. وعم مدبولي هو اللواء فؤاد نصار1، مدير المخابرات الحربية (1972-1975) ورئيس جهاز المخابرات العامة (1981-1983). كما أن مدبولي متزوج من ابنة حسب الله الكفراوي، الصديق الشخصي لمبارك وأحد وزراء الإسكان السابقين، وحفيدة عثمان أحمد عثمان، وزير الإسكان في عهد السادات.

لعبت العائلة دورًا حاسمًا في دعم مصطفى مدبولي، فبينما لا يمكن إنكار كفاءته العلمية وخبرته في مجال التخطيط العمراني، فإن الانتماء لعائلة ذات نفوذ عسكري وسياسي كبير أسهم بشكل واضح في تيسير مساره الوظيفي. ففي مصر، تظل العلاقات العائلية شبكة حماية قوية، تحمي أفرادها من العقبات التي قد تواجه غيرهم من ذوي الكفاءات المماثلة، وتفتح أمامهم أبوابًا في مجالات العمل الحكومي التي تظل مغلقة أمام الكثيرين ممن لا يملكون هذا النوع من الدعم الاجتماعي والسياسي.

في ظلّ جمال مبارك

في العقد الأخير من حكم الرئيس حسني مبارك، شهدت مصر تصاعدًا ملحوظًا في نفوذ نجله جمال مبارك، الذي كان يعدّ لوراثة الحكم من والده. تزامنًا مع هذه الفترة، برز دور جمال مبارك في تمهيد الطريق لتوسيع نفوذ مجموعة من كبار رجال الأعمال وكذلك أصحاب الخبرات العلمية المقربين منه، وكان من ضمنهم مصطفى مدبولي، الذي تولى منصب رئيس لجنة السياسات في الحزب الوطني الحاكم آنذاك.

بدأ ظهور فكرة إقامة عاصمة جديدة لمصر عام 2007، عندما كان مدبولي نائباً لرئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني. وقد أثير جدل كبير وقتها بعد تقدم الهيئة لمجلس الشورى بمشروع مخطط لعاصمة جديدة، واللافت للنظر أن مدبولي كان شديد الدفاع عن المشروع وقتها، على الرغم من تدخل رئيس الجمهورية خلال 48 ساعة وإلغائه للمشروع. وصرّح مبارك وقتها قائلا: “لدينا أولويات نحرص علي مراعاتها، فليس من المتصور أن يكون لدينا احتياج لتوفير المساكن والخدمات والمرافق، ونتجه لأمور أخري حاليا، وأنه بعد أن يتحسن الوضع فإننا سنتجه إلي المزيد من المشروعات، ونضع خططاً لإقامة عاصمة جديدة بعد فترة طويلة.”

كان مدبولي يرى في تطوير مدينة جديدة ضرورة استراتيجية لمواجهة مشاكل القاهرة المتزايدة، مثل الازدحام السكاني وتردي الخدمات. كما أنه كان يروج لهذا المشروع كجزء من رؤية طويلة الأمد لتطوير البنية التحتية في مصر، وهو توجه استمر حتى بعد رحيل مبارك.

خلال فترة تدرج مصطفى مدبولي في المناصب الحكومية حتى أصبح رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني، كانت هناك حاجة ملحة لجمال مبارك لتقديم مشروع نيوليبرالي كبرنامج انتخابي مقترح ضمن استراتيجيته المستقبلية للحكم. في هذا السياق، طرحت الهيئة العامة للتخطيط العمراني، تحت قيادة مدبولي، مشروع “القاهرة 2050” في عام 2008، والذي كان يهدف إلى تقديم خطة تطوير حضري شاملة تستهدف تحويل العاصمة إلى مدينة عصرية تتماشى مع الرؤى الاقتصادية النيوليبرالية التي كان يدعو إليها جمال مبارك، وتم طرح المشروع في أحد المؤتمرات السنوية للحزب الحاكم وقتها.

استراتيجية تأمين دوره المستقبلي

ثورة يناير 2011 كانت نقطة تحول حاسمة في إعادة تشكيل المشهد السياسي المصري، حيث أدت إلى إقصاء رجال نظام مبارك، إما بالسجن أو بالابتعاد عن الحياة العامة حتي ولو لفترة قليلة. في ظل هذه التوترات السياسية، عرف مدبولي جيدا الحفاظ على نفسه، وغير وجهته إلى المكتب الإقليمي للأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) حيث تولى الإدارة التنفيذية، مما أبعده عن صراعات الإخوان المسلمين والمعارضة المدنية.

هذه الخطوة قد تكون بسبب عاملين رئيسيين، أولهما ذكاء مدبولي نفسه في الحفاظ دائما على موقعه خلف الحاكم ومقدم مشاريع للحكومة وليس منفذها، ثانيا علاقة المشير طنطاوي بوالد مدبولي، وكان من المعلوم أن للمشير دور كبير في اختيار الشخصيات التي تولت الأدوار السياسية في هذا التوقيت، وقد يكون فضل أن يبقي مدبولي بعيدا عن الأضواء هذه الفترة حتى تستقر الأمور لسيطرة الجيش على الحكم.

على الرغم من شغله منصب رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني قبيل الثورة، وهو منصب يجعل صاحبه عادة مرشحاً قوياً لتولي حقيبة وزارة الإسكان عند التغيير الوزاري، إلا أن مدبولي لم يُدرج في تشكيلات تلك الحكومات بعد الثورة، سواء في فترة المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو حكومة عصام شرف، أو حتى في حكومة كمال الجنزوري. ساهم هذا في حماية دوره الاستراتيجي في المستقبل السياسي للبلاد. وعندما عادت الأوضاع إلى الاستقرار، تم استعادة مدبولي إلى الساحة المحلية ليتولى مناصب تنفيذية هامة، بما في ذلك رئاسة الوزراء.

عودة المخطط بعد التراجع عنه

في فترة ما بعد ثورة يناير 2011 كذلك، توقف الحديث عن العاصمة الجديدة ومخطط القاهرة 2050، الذي شهد انتقادات عدد كبير من خبراء التخطيط العمراني في مصر وعارضه أيضا بعض المسؤولين الحكوميين في حكومات مبارك، ونال انتقادات واسعة من رموز صحفية ومؤسسات إعلامية كانت محسوبة على المعارضة وقتها، قبل أن تغير وجهتها في الوقت الحالي وتدعم بكل قوة مخططات الحكومة المصرية. هذا التوقف جاء بعد أشهر قليلة من الثورة المصرية، وفور إعلان مدبولي عن الاستعداد لطرح الوثيقة الأولى من المشروع في أغسطس/آب 2011.

بعد نجاح الانقلاب العسكري المدعوم شعبيا عام 2013 ووصول وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي إلى الحكم، عاد مصطفي مدبولي إلى الحكومة من جديد في منصب وزير الإسكان عام 2014، وما لبث عاماً واحداً إلا وأعلنت الحكومة عن مخطط عاصمة جديدة لمصر عام 2015 كشف عنه مدبولي في مؤتمر شرم الشيخ أمام السيسي وحكومته، ومن ثم أعيد أيضا الحديث عن المشروعات التي كان يتضمنها مخطط “القاهرة 2050”، التي لاقت استحسانا كبيرا من السيسي المنبهر بالعمران الخليجي وناطحات السحاب.

لا مكان للفقراء

تعد مشاريع التطوير العمراني التي قدمتها الحكومة المصرية تحت قيادة مصطفى مدبولي جزءاً من خطة طموحه لإعادة تشكيل القاهرة الكبرى، إلا أن هذه المخططات تكشف عن توجه واضح لإخلاء العاصمة من الطبقات الفقيرة وتحويلها إلى مركز استثماري وتجاري يخدم النخب الاقتصادية. من الواضح أن الفقراء ليس لهم مكان في هذه الرؤية المستقبلية، والتي تعتمد بشكل كبير على عمليات الإخلاء القسري، كما يحدث في جزيرة الوراق، وغيرها من المناطق التي استهدفتها الحكومة لتحويلها إلى مناطق استثمارية.

مشروع “المخطط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية مصر 2052” الذي هو نفسه مخطط “القاهرة 2050”، رغم أنه يروج لتحسين جودة الحياة وزيادة المساحات الخضراء، يظهر في جوانبه الأخرى أن التغيير الاجتماعي المطلوب يشمل التخلص من العشوائيات وسكان المناطق غير المخططة عبر إخلائهم قسراً أو تقديم تعويضات هزيلة لا تضمن لهم السكن المناسب. فما هو الا رؤية اقتصادية نخبوية، تتجاهل العدالة الاجتماعية وتفضل تحويل العاصمة إلى مركز تجاري واستثماري، بينما يتم التضحية بمصالح الفئات الأكثر احتياجاً.

جزيرة الوراق هي أحد المشروعات التي استهدفها مدبولي في مخططاته ضمن مخطط شامل للجزر المصرية، حيث يهدف الى القضاء على طبيعتها الزراعية والنيلية وتحويلها الى مركز مال وأعمال. شهدت مواجهات عنيفة بين الأهالي والشرطة على خلفية محاولات الإخلاء القسري، حيث تسعى الحكومة إلى تحويلها إلى منطقة سياحية واستثمارية تتماشى مع رؤيتها لعاصمة متقدمة. هذا النهج يتعارض مع حقوق السكان في البقاء على أراضيهم التي عاشوا عليها لعقود، ويعزز من فكرة أن المشروعات الحكومية تستهدف الفقراء بشكل مباشر.

من بين المشاريع التي تظهر هذا التوجه بوضوح، إقامة مركز للمال والأعمال في القاهرة الجديدة ومدينة 6 أكتوبر، حيث يتم استثمار مليارات الجنيهات في مبانٍ عملاقة لخدمة الشركات الدولية والحكومة، بينما يتم تجاهل احتياجات المواطنين في توفير سكن ملائم وفرص عمل حقيقية. كذلك، مشروع “زيادة المسطحات الخضراء” الذي يتطلب إخلاء مساحات كبيرة من المناطق السكنية القديمة وتحويلها إلى مناطق ترفيهية، مستفيداً من الأراضي التي كان يسكنها فقراء العاصمة لعقود.

التمسك بمدبولي

يعد مصطفى مدبولي أكثر الشخصيات المحافظة على منصبها الحكومي خلال الحقبة الأخيرة، منذ توليه وزارة الإسكان في 2014، ثم تكليفه كقائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء في 2017، ثم تكليفه بتشكيل الحكومة في 2018. وفي سابقة جديدة، احتفظ مدبولي لنفسه بوزارة الإسكان لمدة 6 أشهر مع شغله منصب رئيس الوزرارء، كما أنه حتى الآن عضوا بمجلس إدارة المصرف العربي الدولي.

على مدار السنوات الماضية، كانت الأجهزة الإعلامية تدعو بانتظام إلى حل الحكومة وتوجيه النقد نحوه. في الوقت ذاته، كانت هناك شائعات متكررة عن استعداد الفريق كامل الوزير، وزير النقل الحالي ورئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة السابق، لتولي منصب رئيس الوزراء. وقد قدم مدبولي استقالته من الحكومة في يونيو/حزيران 2024، لكن بعد أيام قليلة، تم تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة. وهذا يرجع إلى عدة عوامل. أولا: مشروع السيسي في إدارة مصر هو مشروع عمراني، يعتمد على إعادة تخطيط الأحياء الفقيرة، وتخطيط أراضي جديدة وبيعها إلى المستثمرين، لتحقيق الأرباح المالية أولا، وثانيا التحول إلى العمران الخليجي المكون من مراكز المال والأعمال وناطجات السحاب، وهذا ما يحققه مدبولي في مخططاته.

ثانيا، لا يحمل مدبولي أطماعا مالية كبيرة، فسيرته الذاتية وتاريخ أعماله يبينان أنه صاحب عقلية علمية وخبرات اقتصادية كبيرة يريد تقديمها إلى الحاكم. وقد سبق وفعل مع جمال مبارك، لكن مبارك الأب وقف عائقا أمامه، ثم لم يفكر أن يقدمها إلى حكومة الإخوان لأنه كان يعي جيدا التخبط السياسي الحادث وقتها، وأن الإخوان لن يطول بهم الزمن في الحكم. وجاء الوقت المناسب لطرح هذه المخططات مع حكومة عسكرية تتبنى نفس الأهداف.

ثالثا، في ظل الحكم العسكري، يمثل الأفراد المدنيون المطيعون، مثل مدبولي، ركائز أساسية لدعم استقرار النظام، وتحول دوره من التخطيط إلى التنفيذ، وألا يمانع في تغيير المخططات والاستغناء مثلا عن المساحات الخضراء التي كان يتضمنها مشروع “القاهرة 2050” واستبدالها بأبراج شاهقة، لتحقق المردود الاقتصادي الذي يهدف إليه السيسي. أيضا لم يكن من ضمن المشروعات المخطط لها نقل مقابر القاهرة التاريخية، إنما تحويلها الى مساحات خضراء. لكن تغيرت الخطة وتفاجأنا بإزالة مقابر أثرية ونقل رفات الموتى إلى خارج القاهرة في مخطط لم يعلن عن تفاصيله حتى الآن.

رابعا، مواقف مدبولي أيضا أوضحت أنه لا يهتم كثيرا برسم صورة عملاقة لنفسه كرئيس وزراء، إنما يتقبل بشكل طبيعي أن يتنصل الرئيس من مسئوليته ويحملها لرئيس الوزراء، كما حدث في كلمة السيسي التي ألقاها خلال زيارته قرية الأبعادية بمحافظة البحيرة، حيث قال: “الناس بتقول إيه لازمة الطرق.. دي خطة.. ولو عاوزين تحاسبوا فيها حد، حاسبوا الدكتور مصطفى مدبولي.. لإنه هو اللي كان ماسك التخطيط العمراني للدولة وكان بيقول عاوز يعمل الكلام ده كله بس مش قادر”. أيضا لا يمانع مدبولي في أن تكون كلمة رجال الأعمال في المؤتمرات الرسمية قبل كلمة رئيس الوزراء على غير الطبيعي كما حدث في مؤتمر شراكة الحكومة مع مجموعة هشام طلعت مصطفي في يوليو/تموز 2024.

ختاما، يمكننا وصف مصطفى مدبولي بالمهندس الصامت، صاحب الدور المحوري في إعادة تشكيل العمران المصري. قد يتشابه دوره كثيرا مع وزراء الدولة المملوكية في مصر القديمة: لا يمكن للحاكم أن يستغني عنه أو يخاف منه، فهو يعمل بكل قوته من أجل استمرار النظام الحاكم، ويملأ خزانة الدولة بالأموال، ويسهل لحاشية الحاكم طريقهم في السطوة على المحكومين. فقد تكيف مدبولي مع كل الأنظمة الحاكمة منذ عمله في المناصب الرسمية، وعلم جيدا كيف يتقدم خطوة ويتأخر أخرى، مع التحولات السياسية المتغيرة في البلاد. وفي ظل حكم الرئيس السيسي، تحوّل مدبولي إلى أحد الأعمدة الرئيسية في تنفيذ رؤية النظام الطموحة لتطوير البنية التحتية والمشروعات العمرانية الكبرى، حتى وإن كانت على حساب العدالة الاجتماعية وحقوق الفقراء. ستبقى السنوات القادمة شاهدة على مدى قدرة مدبولي على مواصلة هذا الدور المعقد في ظل نظام حكم يتطلب الولاء والمرونة، وقدرته على الاستمرار في تقديم نفسه كشخصية محورية لا غنى عنها لتحقيق رؤية مصر المستقبلية.

1الاسم الكامل لمصطفى مدبولي هو مصطفى كمال مدبولي نصار. وعائلة نصار مشهورة جدا في مصر، حيث أن معظم أبنائها في الجيش. قد يكون إذاً مدبولي اختار “إسقاط” جزء من الاسم العائلي حتى يبني لنفسه صورة الرجل الكادح والمعتمد على نفسه.