
أثّر الفشل العسكري في الساحتين اللبنانية والسورية أساسا على الحرس الثوري والفصائل الأيديولوجية الأكثر تشددا، التي تهيمن على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إيران. وفيما يتحدث البعض عن احتمال “سقوط النظام” في المستقبل القريب، يخشى آخرون من صعود سلطة عسكرية أشد تطرفاً. من جهته، يسعى المرشد الأعلى علي خامنئي إلى التوصّل إلى تسويات، محاولا إنقاذ نظام إسلامي يتهاوى تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الأمريكية والمعارضة الدولية لبرنامجه النووي، وبالأخص تحت ضغط المجتمع الإيراني.
فهمت القوى المحافظة خطورة المرحلة منذ وصولها إلى السلطة مع انتخاب إبراهيم رئيسي على رأس البلد في 2021، وشرعت في تغيير استراتيجيتها الإقليمية لفتح قنوات التفاوض مع الولايات المتحدة والتوصّل إلى رفع العقوبات الاقتصادية. غير أن الاختلافات داخل المعسكر المحافظ أعاقت مسار هذه الاستراتيجية الرامية إلى توطيد العلاقات مع دول الجوار، بدأً بالسعودية، والابتعاد عن شبكة “الوكلاء” التي تشكلت خلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، حتى وإن لم تعطّل هذا المنعطف تماماً.
وتعزز هذا التوجه في حزيران/يونيو 2024 مع انتخاب الإصلاحي مسعود بيزيشكيان رئيساً بمباركة المرشد خامنئي، في ظل انعدام بديل.
بيد أن إسرائيل زعزعت - في ظرف أشهر قليلة - مشروع الانكفاء على الأراضي والمصالح الوطنية. فسقوط نظام الأسد في سوريا - حليف إيران العربي الوحيد الراسخ منذ 1979 - والهزيمة العسكرية لحزب الله أَمْلَيَا على الجمهورية الإسلامية صياغة سياسة داخلية ودولية جديدة تتجاوز البراغماتية البسيطة.
نجاحات عسكرية وإخفاقات سياسية
حقّق الحرس الثوري (الذي يُعرف باللغة الفارسية باسم “باسدران”) نجاحات عسكرية عديدة في الماضي. فخلال الحرب العراقية-الإيرانية، تحوّلت هذه المليشيا السياسية (“سباه” بالفارسية) والتي تأسّست للتصدّي لمعارضي الجمهورية الإسلامية، إلى قوة نخبويّة في الجيش الوطني. وفيما اقتصر دور الجيش النظامي (“ارتش” بالفارسية) على الدفاع عن الأراضي الوطنية، لعب الحرس الثوري دور أداة استراتيجية “للدفاع المتقدم” خارج الحدود، معتمدًا في ذلك على حزب الله والنظام السوري. وسرعان ما تجاوزت مهمّة الحرس الثوري الجبهة العراقية لتتّخذ طابعاً أيديولوجياً عالمياً ضدّ “الشيطان الأكبر” الأمريكي وحلفائه الأوروبيين والإسرائيليين.
وبعد دعم الحركات الفلسطينية، لعب الحرس دوراً بارزاً في تأسيس حزب الله عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وسرعان ما تولى المحاربون القدامى مناصب قيادية في السياسة وإدارة الدولة وبطبيعة الحال في قطاع الأعمال، بعد انتهاء الحرب مع العراق. وتولى الحرس الثوري آنذاك مهام الرقابة السياسية والاستخبارات والقمع داخل البلاد، في حين تم تشكيل قوات خاصة تحمل اسم “فيلق القدس”، المتخصصة في العمليات الخارجية.
واتّخذ التدخّل العسكري الإيراني في سوريا بُعداً جديداً حين دعمت إيران بقوة نظام بشار الأسد ضدّ الثورات العربية في 2011، خاصة مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق ثم في سوريا. وكان يُنظر في طهران إلى هذا الجيش من الجهاديين السُنّة الذين يمقتون الشيعة، على أنه أداة بيد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها السعوديين والإسرائيليين لإسقاط الجمهورية الإسلامية. ولعب “فيلق القدس” بقيادة اللواء قاسم سليماني دوراً محوريًّا بمساعدة مرتزقة شيعة أفغان وميليشيات شيعية عراقية، وبصورة خاصة ميليشيات حزب الله. ثم ظل الحرس الثوري على الأراضي السورية شأنه شأن القوات الخاصة الأمريكية والروس بطبيعة الحال.
هاجر واستقرّ عدد كبير من عناصر الحرس الثوري في لبنان وسوريا على مدى عشرين عاماً، حيث أسّس بعضهم مستوطنة إيرانية-شيعية صغيرة، بحجة حماية مقام السيدة زينب حفيدة النبي محمد، ومن ثم أطلق هذا التواجد الديموغرافي والاقتصادي والديني - مقروناً بالمشاريع السياسية لحزب الله في لبنان - العنان لأفكار توسّعية. فقد أوحى الانفتاح على البحر المتوسط للبعض بفكرة الثأر لمعركة “ماراثون”1 وبناء استراتيجية متوسطيّة إمبريالية لإيران. وقد ندّدت الدول العربية السنّية بتشكيل هذا “الهلال الشيعي” واعتبره العديد من المحلّلين عنصراً محورياً في السياسة الخارجية الإيرانية. وصوّرت عقيدة “التهديد الإيراني” - التي يتبناها معظم المحللين الغربيين - إيران كدولة إسلامية وإمبريالية، هدفها الأول زعزعة استقرار الشرق الأوسط ثم أوروبا، عبر البحر المتوسط.
هجوم مباشر على إسرائيل
في كانون الأول/ديسمبر 2024، أُطبق الفخ على الحرس الثوري، حيث لم يدرك مدى تغلغل الموساد، المتمركز جيداً في سوريا، في صفوف حزب الله وفيلق القدس، كما لم يدرك تداعيات عجز نظام الأسد عن الخروج من الحرب. فقد أنسته أحلام الانفتاح على المتوسط أن الدولة الإيرانية الحديثة التي أسّسها الصفويّون في القرن السادس عشر لم تكن إمبريالية بل قوميّة بالدرجة الأولى، حريصة على حماية حدودها من الإمبراطوريات العثمانية والروسية والبريطانية المعادية. وإن كان النّضال ضدّ عدوّ مُعَولم كالولايات المتحدة يبرّر استراتيجية “الدفاع المتقدّم”، فإن فيلق القدس حوّل هذه المعاقل البعيدة إلى رهانات استراتيجية.
لذا كان التحّول مبهراً ليلة 13 إلى 14 نيسان/أبريل 2024، حين أُطلقت أكثر من 350 طائرة مسيّرة وصاروخ على إسرائيل من الأراضي الإيرانية دون الحاجة إلى ترسانة حزب الله. وأكّدت طهران بذلك قرارها بالدّفاع وحدها عن أراضيها ونظامها السياسي وبرنامجها النووي، دون الاستعانة بشبكة “الوكلاء”.
وإثر هجوم حماس في السابع من أكتوبر، حاولت إيران قدر المستطاع تفادي الدخول في حرب لا طائل منها، وسحبت أغلب ميليشياتها من سوريا ولبنان، تحسّبا لانسحاب منظم. كما أن التدمير الممنهج لمخازن الأسلحة الإيرانية الموجودة بسوريا والمخصصة لحزب الله، دفع ببشار الأسد إلى مطالبة الإيرانيين بالتستّر عن نشاطهم. وهكذا لم يقاتل أعضاء الحرس الثوري الإيراني، بل فرّوا من البلد حين حرّر الثوّار القادمون من إدلب مدينة حلب ثم دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2024، ما جعل الهزيمة مخجلة أكثر.
من جهته أعلن اللواء حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، بكل فخر، أن آخر رجل إيراني غادر سوريا هو من قوات “باسدران”. وهو إقرار بالفشل مثير للشفقة.
نهاية “محور المقاومة”؟
وفي 11 كانون الأول/ديسمبر، أعلن المرشد الأعلى علي خامنئي، وكأنه يحاول إنكار الواقع، أنه “كلما ازداد الضغط على محور المقاومة، كلما اشتدّت وِحدته”، وأن “ما حدث في سوريا هو نتيجة مؤامرة مشتركة أمريكية-صهيونية”، قبل أن يعترف في 22 كانون الأول/ديسمبر بأنّ إيران “لم تكن تحتاج إلى وسيط في المنطقة” (منقول عن وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية).
غير أن غياب التعليقات المعمّقة على أحداث لبنان وسوريا يظهر أن الصفحة قد طُويت، وأن المصلحة العليا للجمهورية الإسلامية لم تعد في المقاومة أو التدخل المباشر. حيث أدرك الجميع أن “محور المقاومة” قد تفكّك، ويأسف لذلك أكثر المناصرين تحمّساً للنظام، داعين إلى ثورة إسلامية جديدة. وينتقد هؤلاء بشدّة الرئيس الإصلاحي بيزيشكيان، الذي يؤكّد تشبثه بمقاومة إسرائيل، لكنه يؤجل أيّ تحرك إلى “اللحظة المناسبة” ويتقرّب في الأثناء من البلدان العربية.
من جهتهم، يشعر معظم الإيرانيين بالارتياح لوقف هذه العمليات العسكرية والنفقات الخارجية، لكنهم يأسفون لاحتمالية عدم سداد القروض والنفقات في سوريا، التي تبلغ بين 30 و50 مليار دولار، على مدى خمسة عشر عاماً.
ويكشف الصمت القلق للإعلام والشعب وخطاب القادة الإيرانيين عن صدمة حادّة، فهزيمة الحرس الثوري، من دون خوض معركة، هي بمثابة مرحلة جوهرية في إضعاف الجمهورية الإسلامية. وهكذا، سقط القفل ليُفتح المجال لجميع الاحتمالات، من أحسنها إلى أسوئها.
ينضاف النقص الحالي في الكهرباء الذي يعطل البلاد بأكملها إلى قائمة الأزمات. وقد أصبحت الحاجة إلى التغيير الشامل تبدو ملحّة، لكن الإيرانيين متمسكون بالأمن وباستقرار الدولة. إنهم يعرفون تمام المعرفة ثمن الثورات ويقرون بغياب بديل، في حين أن القوى السياسية في المهجر بعيدة جدا عن الواقع. فقد رأى الإيرانيون كيف دمّرت الصراعات الداخلية إضافة إلى التدخلات الخارجية أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان إلى جانب فلسطين، كما يخشون في نفس الوقت من النجاحات العسكرية ومن الغزوات التي تحققها إسرائيل، ما يمكن أن يولّد صراعات إقليمية لا نهاية لها.
الحفاظ على توازن هشّ
من أين يأتي التغيير الذي لا يقود البلاد إلى التهلكة؟ هل لا يزال المرشد الأعلى يمتلك الأدوات والسلطة الأخلاقية الكافية لفرض اختياراته والتوصل إلى تسويات نهائية، وهو الذي له خبرة طويلة في إدارة الصراعات بين فصائل المتشددين والمحافظين والإصلاحيين؟ كيف ستكون ردّة فعل ملايين أعضاء الحرس الثوري السابقين والحاليين، وكل من يعتمد عليه سياسيا وماليا؟ في كانون الثاني/يناير 2020، أثار اغتيال قاسم سليماني موجة حزن وطنية واسعة، لكنه كان لواءً منتصراً. أما اليوم، فالويل للمهزومين؟
من المبكر الحديث عن سقوط وشيك للجمهورية الإسلامية، فهزيمة الفصائل المحافظة الممثلة في “باسدران” لا تُغيّب حيوية القومية الإيرانية ولا الإجماع العام في إيران على ضرورة استقرار الدولة العريقة منذ آلاف السنين. في 1988، اضطر آية الله روح الله خميني إلى قبول هدنة مع العراق للحفاظ على أمن الجمهورية الإسلامية، و في 2015، وقّع علي الخامنئي على اتفاق حول البرنامج النووي وهي “خطة العمل المشتركة الشاملة”. كما أنه قرّر في 2024 تعليق القانون الجائر المتعلق “بالحجاب والعفة”، وهو قرار مهم، ويكشف اتخاذه من قبل مجلس الأمن الوطني -أعلى هيئة مسؤولة عن الأمن القومي والدولي- بمباركة المرشد الأعلى، عن هشاشة النظام وعدم رغبته في استفزاز مجتمع قادر على التمرّد كما حدث في عام 2022.
يمكن أن ترافق هذا الانفتاح مفاوضات حول المسألة النووية، بموافقة المرشد الأعلى، تقوم بها حكومة إصلاحية يرأسها مسعود بيزيشكيان، معتمداً على جواد ظریف، مهندس مشروع الاتفاق النووي لعام 2015. فهل يحلّ هذا الاتفاق المسألة النووية والتي باتت ثانوية، وهل يقدر على رفع العقوبات الاقتصادية؟ في تقدير دونالد ترامب والشركات الأميركية، يمكن أن تصير إيران، بثروتها البترولية وسكانها التسعين مليون ذوي المستوى التعليمي العالي، أرضاً اقتصادية خصبة وجداراً في وجه الطموحات الصينية. فإيران تحتاج هذه النهضة الاقتصادية لكي تصبح قوة إقليمية قادرة على المساهمة في تأمين المنطقة، إلى جانب المملكة السعودية، وحتى في حل القضية الفلسطينية، في حين أعلن ترامب أنه زاهد في أي مشروع تغيير نظام أو صراع مسلّح في المنطقة.
يمكن للجمهورية الإسلامية أن تتطلّع إلى تجاوز الأزمة الحالية، بعدما تجرّدت من التزاماتها تجاه “وكلائها” وانغلقت على أراضيها، بالرغم من تردّد الفصائل المحافظة الإيرانية وعداء الكثير من مستشاري الرئيس الأمريكي الموالي لطموحات إسرائيل.
يبدو كل شيء جامداً حاليًّا في طهران، فالمرشد علي خامنئي يحاول الإبقاء على توازن هش بين معارضة راديكالية تؤججها إخفاقاته الخاصة، ومحافظين منتهزين، أو إصلاحيين براغماتيين، بالإضافة إلى 90 مليون مواطن إيراني يتطلعون إلى تغييرات عميقة، بانتظار دونالد ترامب.
1معركة وقعت عام 490 ق.م بين الجيش الأثيني وحلفائه من جهة، والجيش الفارسي من جهة أخرى، وأسفرت عن هزيمة الأخير.