في الشرق الأوسط، “حروب تكشف عن نزعتنا الفاشية” الأوروبية

بالإضافة إلى تداعياته على غزة، كان السابع من أكتوبر/تشرين الأول بمثابة زلزال هز كيان الشرق الأوسط بأكمله، ورأينا توابعه في لبنان وسوريا. في الوقت الذي تكثر فيه الخطابات الجيوسياسية، يقدم لنا بيتر هارلينغ، مؤسس مركز أبحاث “سينابس”، تحليلاً للأحداث الراهنة من منظور إنساني بحت.

The painting depicts a vibrant and abstract scene featuring figures engaged in a military or combative setting. The use of bold colors and dynamic shapes conveys a sense of movement and emotion. In the foreground, individuals are seen in action, some carrying weapons, while others appear to be in more passive positions. The background suggests a landscape, with undulating hills in softer hues, which contrasts with the intense activity in the forefront. The overall composition creates an impression of tension and drama, inviting viewers to interpret the narrative behind the imagery.
أنس البريحي، بدون عنوان، 2024، لوحة زيتية

أوريان 21 — بعد وقف إطلاق النار الهش بين إسرائيل وحزب الله، كيف ترى تلك الحرب “المختلفة عن الحروب الأخرى” على حد تعبيرك؟ كيف في رأيك تقلب هذه الحرب قواعد اللعبة في لبنان؟

بيتر هارلينغ — عايشت مع الأسف العديد من الحروب في المنطقة، لكن هذه الحرب بدت لي مختلفة عن غيرها من الحروب، ويرجع السبب في المقام الأول إلى الاختلال الرهيب في موازين القوى. فمن جهة، شنّ حزب الله هجمات صاروخية وضربات بالطائرات المسيّرة ضد إسرائيل، لم تُسفر في معظم الأحيان سوى عن نتائج ضئيلة. في المقابل، شنّت إسرائيل هجومًا عسكريًا غير متكافئ على الإطلاق، فكل ضربة كانت تحيل مبنى بأكمله إلى ركام، مع دفن سكانه تحت الأنقاض في أغلب الأحيان. حيث استخدمت إسرائيل كميات مهولة من القنابل المخترقة للتحصينات، وهي أسلحة مروّعة مخصصة نظريًا لاستهداف المرافق العسكرية المحصّنة تحت الأرض. على سبيل المثال، أسقطت إسرائيل قرب داري ثلاث قنابل تزن الواحدة منها طنًّا لدكّ مبنى سكني عادي في منتصف الليل وبدون سابق إنذار، بهدف قتل مسؤول واحد في حزب الله.

كما تجلّت سيطرة إسرائيل الكاملة على المجال الجوي اللبناني في تحليق شبه دائم ومكثّف لطائرات الاستطلاع الضخمة، التي تجمع المعلومات تحضيرًا للضربات القادمة. كانت تحلّق فوق رؤوسنا بشكل دائري، مصدرةً ضجيجًا لا ينقطع يتسلل إلى منازلنا ونفوسنا، مما أثقل كاهلنا وخلّف لدينا شعورًا دائما بالتهديد.

“يتظاهرون بشنّ هذه الحرب بإسم الغرب”

ما من شك أن العيش بين غارتين “تحت القصف” تجربة مألوفة منذ الحرب العالمية الثانية، لكن هذا الصراع فائق التكنولوجيا الذي شهدناه يذكّرنا بالديستوبيا (عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق)، حيث يمكن لشخص ما في مكان ما أن يدمر مباني سكنية بأكملها بمجرد النقر على شاشة. في ظل هذا الوضع، انتاب الكثيرون في لبنان شعور بالعجز والضعف، بل وشعور غريب بالعورة أمام قوة طاغية كتلك، وهذا جانب من الجوانب التي يصعب نقلها للآخرين عن هذه الحرب.

هناك أيضًا بُعد جوهري آخر أجد صعوبة في شرحه للناس من حولي في الخارج، وهو أن هذه الحرب ليست مجرد “صراع آخر” في منطقة عانت الكثير من الصراعات. فمن السهل من منظور خارجي، من فرنسا على سبيل المثال، تخيل أن الحرب بين إسرائيل وحزب الله تدور حول قضايا لا تعنينا بشكل مباشر، وكأنها حرب غامضة وبعيدة عنا. لكن الحقيقة أن إسرائيل تقاتل بأسلحتنا، وتحظى غالبًا بدعمنا الإعلامي والسياسي والدبلوماسي، في صراع نسمع فيه مصطلحات مثل “مكافحة الإرهاب” و“الدفاع عن الغرب ضد الهمجية”، أو “المهمة الحضارية” التي يتحمل الغرب عبئها… باختصار، فهم يتظاهرون بشنّ هذه الحرب بإسمنا.

لكن بالنسبة لأولئك الذين يتابعون تفاصيلها أو يتجرّعون ويلاتها، فهي أيضًا حرب وحشية، يُستهدف فيها الصحفيون والعاملون في المجال الصحي، وتُدنَّس فيها المساجد والكنائس، وتسوّى المقابر بالأرض، ضمن آلاف أعمال العنف المجانية وغير المبررة. فقد أخذنا في لبنان شعورًا بالخذلان والعزلة، بسبب هذا التباين بين التجربة الواقعية المريرة من جهة، والرواية المائعة السائدة بالخارج من جهة أخرى.

علاوةً على ذلك، يمكننا أن نرى بوضوح من موقعنا هذا، كيف أن حكوماتنا تزداد تطرفًا من خلال دعمها لإسرائيل، إلى درجة تقويض القانون الإنساني الدولي الذي كان في وقت من الأوقات من أعظم مساهمات أوروبا في استقرار العالم. نشهد اليوم نوعًا من الإهمال وعودة ما كبتناه من غرائز إلى السطح، إذ نشجع إسرائيل على اقتراف ما لا نجرؤ بعد على اقترافه بأيدينا. لقد كشفت الحرب على غزة عن وجهنا الآخر وعن نزعتنا الفاشية، تلك الفاشية التي أصبحت متجذّرة في جميع أنحاء القارة الأوروبية تقريبًا، وهكذا لا تقتصر إعادة خلط الأوراق على منطقة الشرق الأوسط كما نتصوّر.

“نشجّع إسرائيل على اقتراف ما لا نجرؤ بعد على اقترافه بأنفسنا”

رغم استنزاف قُوى حزب الله، إلا أنه يحتفظ بقاعدة اجتماعية شبه راسخة في لبنان، فيكفيه أن يعلن انتصاره حتى يهلّل له أنصاره بدورهم. سيستمر الحزب في الدفاع عن موقعه في ظل نظام سياسي يشكّل جزءًا لا يتجزأ منه، بما يتضمّنه من طائفية وفساد. لكن الحرب كشفت عن تدهورٍ داخلي كان يعاني منه الحزب قبل الصراع، إذ تمكنت إسرائيل من اختراق الحزب بشكل كبير بعد أن فقد الكثير من تماسكه الداخلي، حيث أضعفت الغطرسة والطائفية قدراته التحليلية، كما غلبت عليه المصالح الذاتية. على سبيل المثال، لم يساهم حزب الله في كبح الانهيار الاقتصادي للبلاد، بل استفاد منه، كما لم يتخذ أي خطوات للحدّ من انتشار تجارة المخدرات المتوغلة في مناطق نفوذه. إن مستقبل الحزب يتوقف على قدرته على مراجعة أخطائه بوضوح، بدلاً من التذرّع التلقائي بالمؤامرات حينما ينهزم، كما هي عادته على مدى السنوات الخمسة عشرة الماضية.

أوريان 21 – بعد 54 عامًا من الديكتاتورية الوحشية، انهار النظام السوري، الذي أشرتَ من قبل إلى هشاشته الكبيرة. وفي المقابل، وثّقت من خلال شبكة “سينابس” قدرة الشعب السوري على مواجهة تحديات ما بعد عهد الأسد، فكيف يمكن مساندتهم بطريقة مستدامة؟

بيتر هارلينغ – إن أي انتقال من هذا النوع معقّد للغاية ومحفوف بالمخاطر. في الغرب، يشكّل سقوط نظام عربي في نظر الإعلام وقطاع كبير من الجمهور مقدمة لما هو أسوأ. لكن هذا المنظور يغفل ما تضمنته ثوراتنا نحن من معاناة وعدم يقين وانتكاسات مؤقتة، ويتجاهل مدى البؤس الذي وصل إليه الوضع في سوريا، والذي كان يتزايد كلما زعم النظام أنه “ينتصر”. و هذا المنظور يخطئ فهم أهمية أن يستطيع الناس أخيرًا من العودة إلى بلادهم ومنازلهم ومدنهم وأحيائهم ومجتمعاتهم بعد سنوات من المنفى. كما يعكس أيضًا نوعًا من التعالي الغربي السائد في بلادنا، الذي يرى أن أي تغيير نحو الأفضل ليس إلا وهمًا في بعض المناطق والثقافات.

لكن يمكننا أن نبدي تعاطفنا ودعمنا بدلاً من الانجراف وراء تلك الأفكار النمطية. تتعرض سوريا حاليًا للاعتداء من إسرائيل، التي تستغل الوضع للاستيلاء على أجزاء من أراضيها وتدمير ما تبقى من قدراتها العسكرية، وتتبع تركيا من جانبها نهجًا مشابهًا، بينما تقوم الولايات المتحدة بشن ضربات جوية كما يحلو لها. أما أوروبا فسرعان ما سيطر عليها حلم عودة جميع اللاجئين إلى هذا البلد المُنهَك، وهي لا تعرب عن قلقها إلا بشأن الطوائف المسيحية دون سواها، وكأنه ليست هناك أقليات أخرى مهددة أو سكان معرَضين للخطر. في الوقت الحالي، باختصار، لم نشهد أي مساهمات خارجية بنّاءة تُذكر.

نأمل أن يتغير هذا الوضع سريعًا، نظرًا لحجم الاحتياجات الهائل. فالبنية التحتية بأكملها منهارة تمامًا، كما تمثّل الصحة النفسية تحديًا كبيرًا مع خروج المجتمع من جحيم نكتشف منه كل يوم أبعادًا جديدة، أكثر عمقًا وقتامةً مما كنا نتخيل. إن العمل على الذاكرة الجمعية والعدالة الانتقالية وإعادة بناء المؤسسات يدعو إلى بدء مشاريع تعاون. كما تشكل مكافحة المخدرات، التي أصبح استهلاكها متفشيًا بسبب الحرب والانهيار الاقتصادي، أولوية أخرى، ولا تزال القائمة طويلة فلا يبقى إلا الاختيار! يتمتع المجتمع المدني المحلي بكفاءة عالية، ويمتلك الشتات السوري في الخارج إمكانيات ضخمة. لكن سوريا بحاجة إلى كل مساعدة ممكنة إذا ما أردنا لهذا الانتقال أن ينجح... حتى ولو فعلنا ذلك لتهدئة هواجسنا المتعلقة بالهجرة فحسب.

“إفساح المجال للوجوه المحلية”

أوريان 21 – طوّرت “سينابس” مقاربة تحليلية مبتكرة تغطّي قضايا مجتمعية قليلاً ما تتناولها الأبحاث بشكل عام، مع تركيزها على المجتمع المدني. إن الحرب الوحشية ضد غزة، الدائر رحاها منذ 14 شهرًا باستخدام تكنولوجيا متقدمة، نتج عنها عدد مفزع من الضحايا المدنيين وأمواجا من النزوح الجماعي. هل حُكِم على المدنيين في هذه المنطقة من العالم بالسقوط في غياهب النسيان؟

بيتر هارلينغ – أسست “سينابس” بغرض الابتعاد عن المواضيع الأكثر تداولاً، مثل العلاقات الدولية وموازين القوى بين الدول والحروب، وكل ما يُعرف بـ “الجيوسياسة”. كانت الانتفاضات الشعبية في 2010 و2011 بمثابة نقطة تحول بالنسبة لي، كانت اللحظة التي أدركت فيها أنه لا يمكننا تجاهل مجتمعات المنطقة بعد الآن. بدا لي هذا الاستنتاج واضحًا، خاصةً أن هذه المجتمعات لم تكن غريبة عني، إذ حظيت بفرصة عيش حياة اجتماعية عادية تمامًا في العراق حيث أتممت جزءًا من دراستي، وكذلك في لبنان وسوريا ومصر والسعودية. وبعد الانتفاضات، رأيت أنه من الضروري أن يفسح الأجانب أمثالي، الذين يظهرون كثيرًا على شاشات التلفزيون لتحليل الأحداث الجارية في المنطقة، المجال أمام الشخصيات المحلية للتعبير عن نفسها. بفضل “سينابس”، استطعت المساهمة في تلك العملية من خلال تدريب باحثين وباحثات شباب يعملون على قضايا تمسّهم في المقام الأول.

يحدث هذا الانتقال إلى ناس أعمق خبرة وأكثر ارتباطًا بالواقع على نطاق واسع، هناك اليوم أصوات محلية مثقفة تتصدر المشهد الإعلامي ومنصات التواصل الاجتماعي، وأصبح من النادر أن نشهد مؤتمرًا أو ندوة لا يشارك فيها متحدثون من المنطقة. لكن مع الأسف، لم تتغير المواضيع المطروحة كثيرًا بقدر التغير في وجوه المتحدثين. لا يزال يُنظر للمنطقة من خلال عدسة العنف، المتمثلة في الحروب والمجازر واللاجئين والتطرف الديني والقمع والأزمات والكوارث وما إلى ذلك. هذه النظرة تميل إلى تجريد السكان المحليين من إنسانيتهم، وتختزلهم في كتل بشرية متحركة أو ضحايا جانبيين، أو أخطار محتملة، سواء أكان ذلك بفعل تهديد الإرهاب أو الهجرة.

هناك جانب أكثر إيجابية في الحديث عن الشرق الأوسط المعاصر، لكنه غالبًا ما يكون مدفوعًا برؤية اقتصادية اختزالية بدورها، تنحصر إما في جاذبية المغرب أو تنافسيته، أو في ابتكار إسرائيلي أو إماراتي، أم في استثمارات قطرية، أو في “فرعنة” سعودية، وما إلى ذلك. وهكذا يتم تقسيم الشرق الأوسط إلى قسمين: الأول حيث تُجرى الأعمال التجارية والمنتمي إلى خريطة التبادلات الاقتصادية العالمية، والثاني حيث تُلقى القنابل وتُرسَل المساعدات الإنسانية والمراسلون الصحفيون، وبالتالي هناك مناطق شاسعة تتلاشى شيئًا فشيئًا من خرائطنا الذهنية.

بيد أن هناك شرقًا أوسط ثالثًا نكاد لا نراه، يتمثّل في الحياة اليومية التي يعيشها جيراننا على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، والبالغ تعدادهم نصف مليار إنسان. من بين هؤلاء، هناك الكثيرون الذين لا يشبهون الصور النمطية التي صنعناها في أذهاننا، والذين يمكننا أن نتعلم منهم الكثير، مثل مزارعين يتأقلمون مع التغير المناخي، ونساء محافظات رائدات أعمال، وشبكات تضامن كثيفة رغم كونها غير رسمية، وأعمال خيرية تقليدية نشطة للغاية، وإنتاج ثقافي غني لا سيّما في مجال الفنون التشكيلية، بالإضافة إلى جاليات كبيرة في الشتات منخرطة في مشاريع بُنى تحتية محلية، وغير ذلك.

تلك المجتمعات التى لا تقل بطبيعتها ثراءً وتعقيدًا عن مجتمعاتنا، تواجه أيضًا العديد من المشاكل المألوفة لنا، بدءًا من رداءة النخب السياسية، واستغلال الأغنياء، والهدم التدريجي للخدمات العامة. إن جهلنا المتبادل يحرمنا من قاعدة من التجارب المشتركة التي يمكن أن نبني عليها علاقات أقل ريبة وأكثر إنسانية، خالية من كل الضغائن والأوهام التي تطغى عليها اليوم. وتُعد منصة “أوريان 21” أحد الفضاءات النادرة التي يمكن أن تعمّق هذا النوع من الاكتشاف المتبادل.

“دبلوماسية المناسبات”

أوريان 21 –تحمل نظرة ناقدة بشدة ومتشائمة على الدبلوماسية الفرنسية، بل وتجاه الدبلوماسية بشكل عام. ما الثورة التي يمكن تحقيقها لاستعادة دبلوماسية قائمة على المبادئ؟

بيتر هارلينغ – أرى أنها بالأحرى نظرة صريحة ومخلصة. فالدبلوماسية إرث جميل يجب الحفاظ عليه، ولهذا السبب أيضًا تحتاج إلى تجديد، فالسفارات لا زالت تتشبث بممارسات يتجاوزها الزمن يومًا بعد يوم، فيقضي الدبلوماسيون وقتًا طويلاً في مكاتبهم مع دبلوماسيين آخرين أو مع شخصيات يعتبرونها “مصادر”، لكنها في الحقيقة لم تعد تقدم شيئًا ذا قيمة، ويظل عملهم محصورًا في العواصم وفي قضايا تقليدية، كالجغرافيا السياسية في الدول التي تشهد أزمات، والتعاون الاقتصادي في الدول المستقرة.

على مر السنين، لم يطوّر الجهاز الدبلوماسي سوى عدد محدود جدًا من المهارات في الكثير من المجالات. على سبيل المثال، تُدار المعلومات داخل السفارات بشكل سيء، ويضطر الموظفون إلى إعادة اختراع سبل للعمل باستمرار، وفي الأوضاع غير المستقرة، تنغلق السفارات على نفسها، مما يحدّ من قدرتها على التحليل والعمل. كما تنم تصريحاتها الجوفاء ومنشوراتها الأكثر خواءً على وسائل التواصل الاجتماعي عن السطحية، وهي تمول مشاريع تنموية عديدة ومتنوعة، يتلاشى الكثير منها بمجرد انتهاء لحظة الافتتاح، وكأن الغرض منها فقط الإعلان عن الإنجازات دون استخلاص العبر من الإخفاقات، وما أكثرها. بالإضافة إلى ذلك، نجد السفارات غائبة تقريبًا عن أكثر قضايا العالم المعاصر إلحاحًا، فهي تُردّد عبارات عامة عن التغير المناخي والرقمنة والتنقل وانعدام المساواة الاقتصادية بل والقانون الدولي الإنساني، ولكنها لا تسعى إلى تعميق خبرتها في تلك المجالات المحورية.

في النهاية، تبقى دبلوماسيتنا دبلوماسية المناسبات والمشاريع الوقتية والعقود بين الشركات والشعارات الرنّانة والاستعراض السياسي. هناك غياب كبير للمتابعة والرؤية الاستراتيجية والعمل على تحديد المصالح الفرنسية على المدى البعيد. إن الدبلوماسيين يتمتعون بالذكاء والثقافة ويتقاضون رواتب جيدة، وتقع على عاتقهم مسؤولية إعادة النظر في سبل تطوير مهنتهم. يجب عليهم الاعتراف بأن مواردهم مازالت كبيرة، حتى مع تناقص الميزانيات المخصصة في السنوات الأخيرة، والنضال لتوظيف تلك الموارد بشكل فعال. أنا مثلاً لم أعد أتعامل تقريبًا مع الدبلوماسيين، ببساطة لأن العلاقة بيننا ضعفت لدرجة أنها فقدت قيمتها. في أفضل الأحوال، قد تُغذي أحاديثنا سياسة أعجز عن فهم معناها، وبلا أي مقابل. وهذا الوضع يُحزنني، كما ينبغي أن يُقلق الدبلوماسيين أنفسهم.

بالطبع، أغلب القطاعات التي أتعامل معها في أزمة، والدبلوماسية ليست استثناء من القاعدة، إلا أنها تقاوم بشدة رياح التغيير، ربما لأسباب تتعلق بمكانتها. أما وسائل الإعلام فتبذل جهودًا مستمرة لإعادة ابتكار نفسها، سواء كان ذلك للأفضل أو الأسوأ، كما بدأ الوسط العلمي في الانفتاح على الجمهور وإعادة التفكير في دوره الاجتماعي، والابتعاد عن علاقته الوثيقة بالدولة. ولا يسير اقتصاد المساعدات التنموية في اتجاه إيجابي، لكن القائمين عليه لا يترددون على الأقل في الاعتراف بذلك.

من جانبنا، نجري أيضًا في “سينابس” تقييمًا ذاتيًا مستمرًا، فأنا أخضع شخصيًا لتقييم زملائي الذين يسلطون الضوء على أخطائي ونقاط ضعفي، وتكون مهمتي إيجاد الحلول لتجاوزها. في المهن ذات الطابع الفكري كمهنتنا، من الجيد أن نذكّر أنفسنا أننا اخترناها ليس من أجل المكانة التي توفرها، بل من أجل المسؤولية التي تقع على عاتقنا، والتي تتمثّل في إعادة التفكير في العالم ودورنا فيه. إذا كنا نستحق الاحترام، فالسبب يرجع إلى عزمنا على تحديد المشكلات وتصميم الحلول، ومراجعة أنفسنا خلال تلك العملية.