
منذ بدء إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزة في أعقاب هجوم حركة “حماس” على غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023، كان أحد أبرز الأسئلة الرئيسية هو عن مدى استعداد إيران لدعم “حماس” في هذه الحرب حتى لو أدى ذلك إلى انخراطها مباشرة فيها. وسرعان ما توسّع هذا السؤال ليشمل “حزب الله” الذي بدأ في الثامن من أكتوبر بتنفيذ عمليات عسكرية ضدّ إسرائيل لـ“إسناد غزة”.
الأكيد أنه كانت لـ“حزب الله” مبرراته السياسية والعسكرية لدخول الحرب، فهو صاحب مفهوم “وحدة الساحات” الذي يدعو إلى إلى مناصرة حركات المقاومة بعضها لبعض في أي مواجهة لإسرائيل، وبالتالي فإن وقوفه على الحياد في الحرب الإسرائيلية ضدّ “حماس” كان سيحرجه ويشكك في صدقية خطابه. ومن ناحية ثانية، فإنّ “حزب الله” كان يعتقد أنّ وقوفه على الحياد في هذه الحرب سيجعل إسرائيل أكثر استعدادا لشن حرب عليه في لبنان، ولذلك حاول من خلال انخراطه في الحرب، ولو من ضمن قواعد اشتباك منضبطة، أن يردع إسرائيل عن شنّ حرب ضدّه.
لكن في الوقت نفسه لا يمكن الاعتقاد أن “حزب الله” أخذ قراراه في فتح “جبهة الإسناد” من دون موافقة إيران داعمته الرئيسية. وبذلك فإن مشاركة “حزب الله” في الحرب كانت تؤدي وظيفة إيرانية أيضاً، على اعتبار أنّ إيران، وإن لم تدخل على نحو مباشر في الحرب، فهي تؤيد وتدعم مشاركة أهم حلفائها الإقليميين فيها، أي “حزب الله”، أولا لاعتقادها أن لمشاركته مفاعيل ردعية في إطار مفهوم “الدفاع المتقدم”، ومفاده أن الدفاع عن إيران يبدأ بعيداً عن حدودها من خلال حلفائها الإقليميين. وثانيا فإن هذه المشاركة تمكّنها من تقليص الفجوة بين سقفها العالي ضد إسرائيل قبل هجوم السابع من أكتوبر، إلى حد الدعوة إلى “إزالتها في سبع دقائق ونصف”، وبين استنكافها عن الدخول في الحرب، لا بل التنصل من هجوم “حماس” على غلاف غزة، إذ كرّر أكثر من مسؤول إيراني، بما في ذلك المرشد علي خامنئي، أنّها لم تكن على علم بهذا الهجوم وأن “حماس” لم تبلغها بتوقيته.
مردّ ذلك إلى أن إيران كانت تخشى من إقحامها في الصراع من خلال استهداف أراضيها من قبل إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أرسلت أكبر حاملات طائرتها إلى المنطقة، في مهمة قالت واشنطن وقتئذ إنها دفاعية وردعية وليست هجومية. بيد أنّ موقف إيران هذا كشف حلفاءها تدريجا، بدءا بـ“حماس” ومن ثمّ “حزب الله”، أمام إسرائيل.
الحاجة إلى “حزب الله” كقوة ردع
كذلك فقد طرأ توجه جديد في إيران- عبّر عنه بشكل أساسي فوز الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان في الانتخابات الرئاسية في يوليو/تموز 2024 نحو الاهتمام بأولويات داخلية متصلة بتعافي الاقتصاد وتدعيم شرعية النظام السياسي بعد الاحتجاجات ضده والمشاركة المنخفضة في الانتخابات. وهو ما خفف من اندفاعة طهران نحو سياسات إقليمية متطرفة، خشية انعكاس ذلك على فرص التفاوض بينها وبين الغرب لإعادة إحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وبالتالي رفع العقوبات المفروضة عليها كسبيل لتحسين أوضاعها الاقتصادية.
لكن في الوقت نفسه فإن استراتيجية الردع الإيرانية إزاء إسرائيل قامت على بناء ميليشيات قوية في المنطقة قادرة على مهاجمتها بأسلحة “نوعية” وإيذائها، ما يؤدي إلى ردع تل أبيب عن مهاجمة إيران مباشرة. ولطالما جرى الحديث منذ بداية الحرب أن إيران لا تريد إقحام “حزب الله” في الحرب “أكثر من اللازم”، لأنها تحتاج إليه كقوة ردع في حال قررت إسرائيل مهاجمة برنامجها النووي. وهو ما يفسر المشاركة المحدودة لــ“حزب الله” في الحرب عبر عمليات “مدروسة” تحت سقف الحرب الشاملة. وقد سقطت كل هذه المعادلات بعد الهجوم الشامل الذي شنته إسرائيل على “حزب الله” بدءا من منتصف سبتمبر/أيلول 2024. مع العلم أن محاولة طهران لـ“الحفاظ” على “حزب الله” من خلال إبقاء سقف هجماته ضد إسرائيل منخفضا، لعدم إعطائها ذريعة لشنّ حرب واسعة ضده، كانت تنمّ عن إدراك مسبق لدى إيران لمدى قدرة إسرائيل على إلحاق الأذى بـ“حزب الله”.
في هذا السياق، يمكن استعادة الخطاب الأول للأمين العام السابق لـ“حزب الله” حسن نصرالله بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، للدلالة على استراتيجية الحزب للتعامل مع “جبهة الإسناد” في جنوب لبنان. إذ قال نصرالله في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2023: “كل الاحتمالات في جبهتنا مفتوحة وكل الخيارات مطروحة، ويمكن أن نذهب إليها في أي وقت من الأوقات. وإذا ارتكب العدو عملية استباقية ضد لبنان، سيكون قد ارتكب أكبر حماقة في تاريخه”. فبخلاف الدعاية السياسية التي استبق بها “حزب الله” خطاب نصرالله للدلالة على أهميته وسقفه العالي المتوقع، فقد تبين أن نصرالله أراد أن يبقي سقف الجبهة منضبطا، ولن يقدم على تصعيد العمليات العسكرية بما يعطي ذريعة لإسرائيل لشن حرب مفتوحة ضدّ لبنان على غرار قطاع غزة. ولعلّ الدافع الرئيسي لـ“حزب الله” لإبقاء عملياته ضدّ إسرائيل، منذ الثامن من أكتوبر 2023، منضبطة وتحت سقف الحرب الشاملة، لم يكن خشيته من كلفة الحرب على لبنان الذي يعاني أزمة اقتصادية خانقة منذ العام 2019، بل لأنّ تصعيدا كهذا سيزيد من الضغوط الأميركية والإسرائيلية ضد إيران من خلال اتهامها بالوقوف وراء تصعيد “حزب الله”.
في المقابل، فإنّ إسرائيل التي أبقت عملياتها من ضمن “قواعد اشتباك” متحركة ومتراوحة التصعيد قياسا على وتيرة القصف من جانب “حزب الله”، كانت تبادر، بين الحين والآخر، إلى رفع سقف التصعيد وامتحان “حزب الله”، تماماً كما حصل عندما اغتالت صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت معقل “حزب الله” في الثالث من يناير/كانون الثاني 2024. وقد كان ردّ “حزب الله” على اغيتال العاروري “مدروساً”، إذ استهدف قاعدة مراقبة جوية قريبة من الحدود، ولم يستهدف تل أبيب ردا على استهداف بيروت، وفق معادلة “تل أبيب مقابل بيروت” التي كان نصرالله قد وضعها في وقت سابق. وهو ما أكد مرة جديدة أن “حزب الله” لا يريد إعطاء أي ذريعة لشن حرب ضده في لبنان. والحال أنّ محاولة “حزب الله” لـ“إسناد” غزة لم تنجح في كبح جماح إسرائيل في القطاع الفلسطيني ولم تردعها لاحقا عن شنّ حرب ضدّ الحزب في لبنان، بل على العكس تماماً. إذ تبين أن إبقاء “حزب الله” هجماته ضدّ إسرائيل وفق وتيرة منخفضة نسبيا، حفّزها على المبادرة، منذ منتصف سبتمبر سبتمبر/أيلول 2024، إلى شن الحرب ضده.
الصبر الاستراتيجي والوعود الأمريكية
في الواقع، يصعب فصل تصرّف “حزب الله” منذ السابع من أكتوبر 2023 عن تصرف إيران حيال الأحداث في المنطقة مذّاك، وفق استراتيجية “الصبر الاستراتيجي”. ولعلّ الامتحان الجدي الأول الذي تعرضت له طهران منذ ذلك التاريخ هو الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من أبريل/نيسان 2023، والذي شكّل تحديا واضحا للخطوط الحمراء التي وضعتها إيران كسقف لمشاركتها في الحرب من عدمها، وهو استهداف أراضيها. والحال أن طهران اعتبرت قصف قنصليتها في دمشق واغتيال القائد في “فيلق القدس” محمد رضا زاهدي، اعتداءً على الأراضي الإيرانية، باعتبار أن القنصلية خاضعة للسيادة الإيرانية، ولذلك توعدت تل أبيب بالرد.
وبالفعل تم ذلك بقصف إسرائيل، ليل 13-14 أبريل/نيسان 2023، بنحو 200 طائرة مسيرة و100 صاروخ. لكن ردها هذا وبالرغم من كونه شكل انعطافة في الصراع بين إسرائيل وإيران- إذ لم يعد محصوراً بـ“حرب الظل” بين إسرائيل وحلفاء طهران الإقليميين بل أصبح هناك تبادل للقصف بين الدولتين -، إلا أنه جاء “مدروساً”، بحيث لا يتجاوز الخطوط الحمراء التي يبدو أن طهران اتفقت مع واشنطن بشأنها عبر القنوات الديبلوماسية، استباقاً للردّ، ولكي لا يؤدي إلى توسّع الصراع إلى حرب إقليمية، وهو أحد المحاذير الذي شكّل نقطة تقاطع إيرانية- أميركية غير معلنة.
ويُجمع العديد من الآراء، بحسب ما أظهره تطور الأحداث لاحقا، على أن تأكيد إيران، من خلال ردها “المنضبط” على إسرائيل، عدم رغبتها في تصعيد المواجهة المباشرة بينها وبين إسرائيل، دفع الأخيرة إلى تصعيد هجماتها ضدّ “حزب الله” تدريجيًّا، بعد تيقنها من محدودية تدخّل طهران للدفاع عنه.
لكن التصعيد الإسرائيلي لم يشمل “حزب الله” وحسب، بل شمل أيضا إيران. ففي 30 يوليو/تموز 2024، اغتالت إسرائيل فؤاد شكر القيادي العسكري الكبير في “حزب الله” في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم وبفارق سبع ساعات اغتالت رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، في قلب طهران.
وإذا كان “حزب الله” قد ردّ على اغتيال شكر في 25 أغسطس/آب 2024، من خلال هجوم جوي بأكثر من 200 صاروخ على قاعدة غليلوت بالقرب من تل أبيب، كما أعلن نصرالله لاحقاً، فإنّ إيران تأخرت في الرّد الذي توعدت به إسرائيل عقب اغتيال هنية. وقد كان لواشنطن دور “غير مباشر” في تأخير هذا الرد الإيراني من خلال الإعلان أنه سيؤدي في حال حصوله إلى فشل مفاوضات التهدئة في غزة، التي كانت طهران تريد نجاحها، بما يخفف عن “حماس” و“حزب الله”، ويخفف أيضا من مخاطر الحرب عليها، والتي كانت الإدارة الأمريكية قد استأنفتها مباشرة بعد اغتيال هنية.
فبين 17 و18 سبتمبر/أيلول 2024، فجّرت إسرائيل، في عملية أمنية واستخباراتية معقدة، أجهزة “البيجر” واللاسلكي التي كان يستخدمها مقاتلو “حزب الله”، ما أدى إلى وفاة وإصابة آلاف الأشخاص. فإلى جانب أنّ هذه التفجيرات أظهرت التفوق الاستخباري الإسرائيلي، فقد عزّزت المخاوف من أن إسرائيل تتحضر لشن حرب واسعة ضدّ “حزب الله”.
ثمّ وبعد يومين، في 20 سبتمبر/أيلول 2024، اغتالت إسرائيل قيادة قوة النخبة في “حزب الله”، أي “قوة الرضوان”، التي كانت تل أبيب تتهمها بالتخطيط لمهاجمة شمال إسرائيل مثلما هاجمت “حماس” غلاف غزة. مع العلم أنه كان من الواضح منذ السابع من أكتوبر 2023 أن “حزب الله” لم يكن في وارد التصعيد، بل كان يؤكد أن وقف إطلاق النار في قطاع غزة كفيل بعودة الهدوء إلى الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. وسواء أرادت إسرائيل من خلال تفجيرات “البيجر” واغتيال قيادة “الرضوان” استفزاز “حزب الله” ودفعه إلى الرد بما يوفّر ذريعة لها لشن الحرب ضده، أو أنها كانت مصممة أصلا على توسيع هجومها ضد لبنان بمعزل عن ردّ “حزب الله”، فإنّ العمليات الإسرائيلية تلك بدأت تشكك بقوة في مفهوم “توازن الرعب” الذي كان “حزب الله” يؤكد أنه كفيل بردع إسرائيل عن مهاجمة لبنان. كذلك فهي أظهرت أن إسرائيل “مطمئنة” إلى عدم نية إيران الانخراط مباشرة في الحرب دفاعا عن “حزب الله” الذي يتعرض لضربات مؤلمة.
التصعيد الكبير
وبالفعل، ففي ليل 23- 24 سبتمبر/أيلول 2024، بدأت إسرائيل بشن غارات جوية مكثفة وعنيفة بدءا من جنوب لبنان، ثم توسعت لتقصف الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع ومناطق متفرقة من البلاد، مدعية أنها تستهدف مخازن أسلحة “حزب الله”. ثمّ وفي السابع والعشرين من نفس الشهر، اغتالت إسرائيل الأمين العام لـ“حزب الله” حسن نصرالله، ما شكّل تحولا مفصليًّا في مسار الحرب، إذ بدا أن إسرائيل مصممة، وبدعم أمريكي، على الذهاب بعيدا في حربها ضدّ “حزب الله”. ومن جانب آخر، فإن اغتيال نصرالله طرح سؤالا رئيسيًّا حول ما إذا كانت إيران ستتخلى عن “الصبر الاستراتيجي” بعد اغتياله، بالنظر إلى الدور المحوري الذي كان يلعبه نصر الله ليس على مستوى “حزب الله” وحسب، بل على مستوى “محور المقاومة” ككلّ.
وسرعان ما بدا أن إيران بدأت تتصرف على نحو مغاير، ولكن من دون الخروج كليًّا عن استراتيجيتها المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023، والقائمة على عدم الانخراط “أكثر مما ينبغي” في الحرب، أيًّا تكن خسائر حلفائها، وذلك تجنبا لاستدعاء ضربات إسرائيلية وأمريكية قد تزعزع أركان النظام الحاكم فيها. في المقابل، فإنّ تخطي إسرائيل لـ“الخطوط الحمراء” بإقدامها على اغتيال نصرالله، ولدّ مخاوف في طهران من إقدام إسرائيل على تنفيذ هجمات في قلب إيران. ولذلك لا يمكن فهم قصفها لإسرائيل في الأول من أكتوبر 2023 بنحو 180 صاروخا باليستيا، على أنه رد على اغتيال نصرالله وهنية وحسب، إذ أنه أيضا محاولة من جانب إيران لترميم منظومة ردعها إزاء إسرائيل، والتي تضررت ضرراً كبيراً بعد الحملة الإسرائيلية العنيفة ضدّ “حزب الله”. مع العلم أنّ إيران امتنعت حتى الآن عن الرد على إسرائيل التي أرسلت نحو 100 مقاتلة لقصف أهداف عسكرية داخل إيران في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2024، ردًّا على قصف إيران لأراضيها في الأول من الشهر نفسه. وهو ما يشكّل دليلاً إضافيًّا على عدم خروج إيران على سياسة “ضبط النفس” التي انتهجتها منذ بداية الحرب.
لكن في الموازاة، كثّفت طهران، بعد اغتيال نصرالله، من إظهار دعمها السياسي لـ“حزب الله”، من خلال الزيارات المتتالية التي قام بها مسؤولون إيرانيون إلى لبنان على وقع تصاعد حدة القصف الإسرائيلي وعمليات الاغتيال والمواجهات العنيفة بين مقاتلي “حزب الله” وقوات الجيش الإسرائيلي المتوغلة في جنوب لبنان. كذلك، صعدّ “حزب الله” من وتيرة قصفه للداخل الإسرائيلي وصولاً إلى تل أبيب للمرة الأولى منذ السابع من أكتوبر 2023. وبدا أنه قد التقط أنفاسه فعلا بعد الضربات القاسية التي تعرض لها، وأنه عدّل موازين القوى ولو على نحو نسبي أمام همجية القصف الإسرائيلي المتواصل للمناطق اللبنانية، ما دفع بالتالي واشنطن إلى استئناف المفاوضات للوصول إلى وقف لإطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل، من خلال مبعوث الرئاسة الأمريكي آموس هوكشتين.
لاقت إيران هذه المفاوضات بإيجابية، إذ أعلن كبير مستشاري المرشد الإيراني علي لاريجاني، من بيروت، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أن بلاده تدعم أي قرار تتخذه السلطات اللبنانية و“حزب الله”، وقال: “لا نسعى إلى تخريب أي شيء، نسعى إلى حل المشاكل”. ولا ريب في أن موقف لاريجاني دلّ على رغبة إيران في التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل، في محاولة لاحتواء التصعيد الإسرائيلي في المنطقة بدءًا من لبنان، وهو ما يخفف بالتالي من احتمالات أن يطال هذا التصعيد إيران نفسها.
اتفاق وقف النار
أما الآن وبعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 ومن ثمّ تمديده إلى 18 شباط/فبراير المقبل بعد مماطلة إسرائيل في الانسحاب من كامل الأراضي اللبنانية التي احتلها خلال الحرب، فإن أسئلة كثيرة تُطرح حول مستقبل “حزب الله” الذي أضعفته الحرب الأخيرة، بخلاف حرب يوليو/تموز 2006 التي خرج منها أقوى، واستطاع أن يبني مساراً تصاعديًّا لقدراته العسكرية، خصوصاً مع استحواذه على ترسانة صاروخية تتجاوز المئة ألف صاروخ وفق ما كان “حزب الله” قد أعلنه، وهي ترسانة ادعت إسرائيل أنها قضت على 80% منها. لكن بغض النظر عن صحة الادعاءات الإسرائيلية من عدمها، فإنّ التحدي الأساسي الذي يفرضه الاتفاق على “حزب الله” هو قدرته على تعويض خسائره من “الأسلحة الثقيلة”، في ظلّ استحالة وصول إمدادات الاسلحة الإيرانية إليه اليوم عبر سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد والعداء الذي تكنه الفصائل المسلحة الموجودة اليوم بالقصر الجمهوري بدمشق لطهران، كما تبين من خلال تصريحات قادتها المختلفة.
لكن السؤال الآخر الذي يُطرح هو عن كيفية تصرف إيران في المرحلة المقبلة، مع انتخاب عدوها اللدود دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. ترامب الذي لا يعرف بعد أي طريق سيسلك مع إيران، هل طريق “الضغط الأقصى” كما في ولايته الأولى، أم أنه سيبدي مرونة في التعامل مع إيران وصولا إلى إبرام صفقة معها وهو ما كان ألمح إليه خلال حملته الانتخابية وما تتمناه طهران نفسها. وبالتالي فإنّه في حال التوصل إلى صفقة بين واشنطن وطهران فإن ذلك يطرح سؤالا أساسيا حول ما إذا كانت إيران ستقلص اندفاعها لتسليح حلفائها الإقليميين وعلى رأسهم “حزب الله”، في إطار انتهاجها سياسة إقليمية “معتدلة”.
أيا يكن من أمر فإن اتفاق وقف إطلاق النار الذي صدر عن بيان مشترك بين باريس وواشنطن، وأعلنت حكومتا لبنان وإسرائيل الالتزام به، يعتبر محطة مفصلية في مسار “حزب الله”. فالاتفاق وإن كان قائما على أساس القرار الأممي 1701 الذي أوقف الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل صيف العام 2006، فهو عزّز آليات تنفيذه، من خلال خلق لجنة مراقبة برئاسة الولايات المتحدة تضم إليها كل من فرنسا ولبنان و“اليونيفيل” وإسرائيل، وسيتركز عملها في منطقة جنوب الليطاني التي يفترض بـ“حزب الله” أن يسحب مقاتليه وأسلحته منها. هذا في وقت ترك اتفاق جانبي بين الولايات المتحدة وإسرائيل هامش حركة لإسرائيل لتنفيذ ضربات ضدّ “حزب الله” في حال خرق الاتفاق من وجهة النظر الإسرائيلية. مع العلم أن إسرائيل، كما ذكر أعلاه، لم تنسحب كليًّا من قرى جنوب لبنان الحدودية في مهلة الستين يوما التي حددها الاتفاق بذريعة أن الجيش اللبناني لم ينتشر بشكل كاف في هذه القرى وأن “حزب الله” يحاول أن يعيد بناء مواقعه فيها.
بالتالي فإن الاتفاق - الذي تعرّض ولا يزال لخروقات متكررة من جانب إسرائيل - يخلق واقعاً صعباً أمام “حزب الله” في حال أراد إعادة بناء قوته جنوبي الليطاني وفي حال أراد إعادة بناء ترسانته العسكرية بعد الحرب. ويدّل ضبط النفس الذي يمارسه “حزب الله” في الرد على مماطلة الجيش الإسرائيلي في الانسحاب من جنوب لبنان على أنه يتجنب، أقله حتى الآن، العودة إلى الحرب، ولو كان يدعم تحركات أهالي الجنوب للدخول إلى قراهم وتحدي جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يطلق النار عليهم بشكل مباشر، ما أدى إلى مقتل ما يزيد عن عشرين شخصا وإصابة ما يزيد عن المئة.
ولا شك أن “حزب الله” يأخذ في الحسبان الخسائر التي تكبدها والدمار الهائل الذي حلّ بمناطق نفوذه، ولاسيما في الجنوب والضاحية، الأمر الذي حوّل إعادة الإعمار أولوية لديه لكنه لا يملك بالتأكيد قدرات مالية كافية لتمويلها. وقد أظهرت تجربته في التعويض على المتضررين خللا لهذه الناحية، عبّر عنه بعض المتضررين علنا. مع العلم أن “حزب الله” أكد أنه غير معني بتمديد اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلنته الإدارة الأمريكية ليلة الأحد الماضي، وأنه لم يكن مشاركا في المفاوضات بشأنه، وهو ما يطرح سؤالا حول كيف سيتصرف “حزب الله” في حال استمر الجيش الإسرائيل بالمماطلة في الانسحاب من جنوب لبنان. لكن في الوقت نفسه فإن موافقة حليف “حزب الله” الأبرز، رئيس البرلمان نبيه بري، على تمديد الاتفاق، تقلص من احتمالات أن يعمد “حزب الله” إلى التصعيد إلى حدود عودة الحرب.
كذلك ينبغي التوقف عند المسار السياسي الجديد الذي انطلق في لبنان بعد انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيساً للجمهورية بعد أكثر من سنتين من الفراغ في رأس الدولة، وتكليف القاضي نواف سلام تشكيل حكومة جديدة، خصوصا أن الرئيسين وعدا بأن يكون ملف إعادة الإعمار أولويتهما القصوى من خلال المساعدات الخارجية، وهي مساعدات لا شك أنها ستكون مشروطة بسلوك “حزب الله” مسارا مختلفا في لبنان والمنطقة. فإلى أي حد سيكون مستعدا لذلك؟
هذا سؤال مفتوح ولا إجابة واضحة عليه بعد، وهو يتصل بسؤال آخر عن مستقبل العلاقة بين إيران و“حزب الله”، بعد أن أظهرت الحرب منذ السابع من أكتوبر محدودية استعداد طهران للدفاع عنه، وهو الذي كان رأس حربة في منظومتها الإقليمية، وضحّى بالكثير لدعم استراتيجياتها الإقليمية، لاسيما خلال الحرب السورية. لا شك أن أسئلة كهذه تُطرح في صفوف جمهور “حزب الله” الذي دفع أثمانا عالية خلال الحرب الأخيرة.