مصر عبد الفتاح السيسي، حبيسة أزمات معقدة

تستضيف القاهرة قمة عربية طارئة في 27 شباط/فبراير لاقتراح خطة بخصوص مصير غزة المستقبلي، بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن ترحيل سكان القطاع. وفي هذا السياق، يجد نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه في موقف هش للغاية ؛ بين مطرقة تحالفه مع إسرائيل ووضع إقليمي غير مستقر، وسندان استبداد نظام السيسي المتفشي وجيشه الذي استولى على ثروات البلاد. فيما يلي حوار موقع “أوريان 21” مع روبرت سبرينغبورغ المختص في الشؤون المصرية.

The image features a mix of abstract and symbolic elements. It includes a series of elongated, dark shapes that resemble silhouettes, likely representing figures or objects, arranged in a row. These shapes are mirrored below, creating a reflective effect. Above them, there is a circular design made up of various colors, such as soft reds and blues, which may symbolize the sun or an abstract celestial body. The background appears textured and includes faint, linear markings, adding depth to the composition. Overall, the artwork conveys a sense of balance between the dark silhouettes and the vibrant circular element above.
عمر النجدي، بدون عنوان، 1991، حبر على ورق

سيلفان سيبيل — طلب دونالد ترامب مِن عبد الفتاح السيسي استقبال عدد كبير من فلسطينيّي قطاع غزة، وقد أثارت الصحافة الأمريكية أخيراً مسألة الضغوط التي سلّطها ترامب على السيسي بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير على نهر النيل، والذي يُهدد بتقليص حصّة مصر من المياه. هل تعتقد أن الرئيس المصري قد يرضخ في النهاية للضغوط الأمريكية بشأن مستقبل الفلسطينيين؟

روبرت سبرينغبورغ — بعد أشهر معدودة من انطلاق الحرب على غزة، أظهرت صور الأقمار الاصطناعية لمنطقة سيناء أن مصر تستعد لإقامة “مخيّم” كبير لاستقبال الفلسطينيين المُهجَّرين من القطاع -ربما استجابة للضغوط التي مارستها إدارة بايدن على السيسي- وبعد خروج الصور إلى العلن، توقف تطوير هذا المخيم، ما يُشير إلى أن ضغوطا سُلّطت على السيسي للعُدول عن هذه الخطة، ضغوطٌ مصدرها على الأرجح هو الجيش، لأنه القوة الوحيدة التي تمتلك حالياً مثل هذا النفوذ في مصر.

بمجيء ترامب، صعّدت الإدارة الأمريكية موقفها، فعَرضت على مصر دعمها في صراعها مع إثيوبيا بشأن سد النهضة وفي ملفات غيرها. لكن مع ذلك، أصبح من الصعب على السيسي تقديم تنازلات بعد الاستياء العارم في مصر وفي دول كثيرة حول العالم من التدمير الذي ألحقته إسرائيل بقطاع غزة، وهذا ما يُمكن تلمّسه من تساهل النظام بدرجة أكبر مع الاحتجاجات ضد العمليات الإسرائيلية.

Cette image représente une carte de la région du bassin du Nil et des pays environnants en Afrique de l'Est. On peut y voir plusieurs pays, notamment l'Égypte, le Soudan, le Soudan du Sud, l'Érythrée, et la Somalie. La carte indique également la présence de barrages importants, certains étant en service et d'autres en projet. Les grandes villes comme Khartoum et Addis-Abeba sont également mentionnées. Les éléments géographiques sont clairement marqués, incluant des lacs et des mers, notamment la mer Méditerranée et la mer Rouge.
حوض النيل والسدود المتواجدة فيه- 2021
خريطة أنياس ستيان

معضلة الحرب على غزة

لكن هذا لا يُلغي السيناريو المتخيَّل الذي يكون فيه تهجير بعض الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر جزءاً من حزمة أكبر من الصفقات التي تخرج بموجبها إسرائيل من غزة. في هذه الحالة، سيتلقّى السيسي الدعمَ الأمريكي ضد إثيوبيا، زيادةً على المساعدات الخارجية من واشنطن، وهذا من شأنه تغيير تجاوب المؤسسة العسكرية المصرية مع الصفقة نحو القبول. وإذا اقترن ذلك بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة وإعادة إعمار القطاع بدعم عربي ودولي وتوفير الأمن، فإن هذا كفيل بالحدّ من تردد مصر لاستقبال أهل غزة، وهذا بدوره سيُتيح لنتنياهو إعلان “النصر” على أساس تهجيره للفلسطينيين.

بالرغم من أن الوضع متقلّب، يُمكن تخيل الشروط التي قد تدفع مصر إلى الرضوخ للضغوط الأمريكية الإسرائيلية.

انقسام إلى أثرياء ومنسيين

ما هو حال المجتمع المصري بعد عشر سنوات من تولّي عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم؟

أدّت سياسات نظام السيسي إلى تقسيم المجتمع المصري إلى قسمين، الأغنياء والمنسيين، ويتخذ هذا الانقسام أشكالاً عديدة. أولاً، لم تُواكب الأجورُ معدّلات التضخم، لذلك تَضاءل الأجر الحقيقي للأُسر التي تعتمد على العمل المأجور. ثانياً، طال التضخم المواد الأساسية أكثر من السلع والخدمات الأخرى، خاصة المواد الغذائية. ثالثاً، تقلّصت جودة الخدمات العامة، لا سيما في مجال الرعاية الصحية والتعليم، وهذا ما دفع بالناس إلى القطاع الخاص. رابعاً، قلّت نسبة التوظيف في الوظيفة العمومية قياسًا إلى العمالة الإجمالية، وهذا ما أثّر على النساء والطبقة المتوسطة الدنيا التي طالما اعتمدت على وظائف القطاع العام. وأخيراً، على الطرف النقيض من المجتمع، ازداد الدخل النسبي لشريحة واسعة من القادرين على حيازة رؤوس الأموال، مثل العاملين في القطاع الخاص وأصحاب الأعمال التجارية والمستفيدين من التحويلات المالية ومن مختلف أشكال الفساد، ولذلك انغمسوا في الاستهلاك المفرط، خصوصاً في قطاعات العقار والخدمات الراقية. وهكذا انحدر القاع أكثر فيما علَت القمة، ما أدّى إلى توسيع الفجوة في الدخل والرفاه، الفجوةُ التي كانت في الأصل شاسعة. حسب مؤشر جيني1 لعدم المساواة الذي أعدّه توماس بيكيتي، فإن مصر تنتمي إلى البلدان ذات الدخل المتوسط والدخل المتوسط الأدنى التي تُعاني تفاوتاً عميقاً في توزيع الدخل. وقد أدّى هذا التفاوت الواسع إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية، من أحد تجلّياتها هو الإضرابات الكثيرة التي أثّرت على الشركات الكبرى.

اقتصاد يتحكم فيه العسكر

يُواصل صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي دعم مصر، حتى إن رئيسة الاتحاد الأوروبي أورسولا فان دير ليدن قد أشادت في الآونة الأخيرة بالإصلاحات التي تكاد تكون معدومة2. ما تفسيرك لهذا؟

لقد تخلى صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي وأغلب الدول الأعضاء فيه عن الإصلاحات الليبرالية في مصر سواء السياسية أو الاقتصادية، وهذا ما يتبين من المساعدات المالية الضخمة التي تلقّتها في ربيع عام 2024. ويُعزى هذا الدعم إلى الخوف، لا الأمل، وعلى وجه التحديد الخوفُ من تبعات انهيار نظام السيسي الديكتاتوري، بما يجرّه من تحديات محتملة تتعلّق بالهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط، والإرهاب، والعداء تجاه إسرائيل، والعلاقات مع القوى المُزعزِعة للاستقرار في ليبيا والسودان، وغيرها من التحديات. إن انهيار مصر أمرٌ غير مُستساغ في أذهان صناع القرار هؤلاء، ولذلك يتجاهلون بصورة ممنهجة انتهاكات السيسي لحقوق الإنسان واستبداده المتزايد واستهتاره بالإصلاحات المتّفق عليها مع صندوق النقد الدولي وغيرها من الجهات المانحة وكذلك تقرّبه من بوتين والصين. إن في عدم اعتراض المجتمعات الغربية بحزم وباستمرار على هذا الدعم المستعجِل والسلبي لأحد أكثر الدكتاتوريين شراسة في تاريخ مصر الحديث إدانةٌ للديمقراطية الغربية نفسها.

أفق بلا إصلاحات

إلى أين يتجه الاقتصاد المصري؟ فمن ناحية يتبنّى النظام توجهاً نيوليبرالياً، ومن ناحية أخرى، يُحكم الجيش قبضته على الاقتصاد الوطني. أليس في هذا تناقض؟

صحيح، إن هذا عينُ التناقض ويُؤدي إلى خلق اقتصاد يشبه إلى حد كبير اقتصاد روسيا تحت رئاسة بوتين. تستفيد من هذا الاقتصاد فئتان فحسب: العَسكر وضباط الأمن وغيرهم من المرتبطين إدارياً بالدولة العميقة، والقِلّة الحاكمة التي تسيطر على قطاعات واسعة من الاقتصاد بالتحالف مع الفئة الأولى. كل الفئات الأخرى الفاعلة اقتصاديًا هي في عداد الفئات الخاسرة. وكما يُلمّح السؤال، فإن هذا الانقسام يتعمّق أكثر مع اشتداد سيطرة الجيش المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد وفي ظل تفاهماته الودّية مع القلة الحاكمة القريبة منه. لذلك، طالما أن السلطة بيد السيسي والجيش، فإنه من المُحال إصلاح هذا الاقتصاد الذي تُهيمن عليه الدولة العميقة. إن تبنّي النظام لنمط الاقتصاد الليبرالي ليس إلا واجهة عرض أمام الجماهير الغربية، ولا علاقة له بتنظيم الاقتصاد وتدبيره.

أليس في هيمنة الجيش المصري المتزايدة على اقتصاد البلاد خطرٌ عليه؟ لقد أشرت مؤخرا إلى أن الجيش أصبح تدريجياً تكتلا من “الميليشيات”، فما قصدك؟

منذ عهد السادات انصبّ تركيز الجيش على تحقيق الربح، لا على الاستعداد للحرب، ثم تفاقم الأمر مع مبارك، ليتعمّق أكثر في عهد السيسي، وتبعاً لذلك ركدت قدراته العسكرية، مع أنه من دول الجنوب المنفِقة بشدة على شراء الأسلحة وصاحب أكبر جيش في أفريقيا وأحد أكبر الجيوش في العالم. ولا يُخصص الجيش المصري ما يكفي من الموارد للتدريب والإصلاح والصيانة والخدمات اللوجستية وإدماج القوات والتنظيم العسكري ومسائل الإدارة. في الحقيقة، فإن إدماج الكمّ الهائل من العتاد الذي اشتراه الجيش المصري من مورّدين مختلفين في خططه القتالية أمرٌ عسير حتى على أكثر الجيوش تقدماً في العالم. وبما أن الجيش المصري لم يُدمج هذا العتاد في خططه ولا هو قادر على تنفيذ ذلك، فإن فعالية قواته الجوية ووحداته المدرّعة، وحتى قواته المشاة الأساسية، لم تنمُ بالموازاة مع ما أنفقه على شراء الأسلحة. إن اهتمام ضباط الجيش مقتصر على كسب المال، لا على الاستعداد لخوض الحرب.

ميليشيات لتعزيز السلطة

أما بشأن الميليشيات فإني قد أشرت هنا إلى منظّمة “أبناء سيناء” بقيادة إبراهيم العرجاني، التي أنشأها الجيش في الأصل لتكون وحدات مُساعِدة في الحملات الموجّهة لمكافحة الإرهاب شمال منطقة سيناء. غير أن السيسي وسّع أدوار هذه المنظمة جغرافياً إلى باقي إقليم مصر ووظيفياً إلى شتّى الميادين الاقتصادية والسياسية. فعلى سبيل المثال، أَجاز لها السيسي أن تكون “الوسيط” بين وزارة الداخلية وحركة حماس في إصدار التأشيرات لسكان غزة مقابل مبالغ تجاوزت 5000 دولار (أي ما يعادل 4820 يورو).

بين أواخر عام 2024 وأوائل عام 2025، شجّع السيسي تأسيس حزب سياسي جديد باسم الجبهة الوطنية، وقد مُنحت قيادته في البداية للعرجاني قبل أن يَلقى هذا التعيين معارضة من الجيش الذي بدأ يرى فيه تهديداً لمصالحه، وعُزل العرجاني بعدها من هذا المنصب مؤقتاً، ثم أُعيد تعيينه دون تحديد دوره تحديداً واضحاً. وتُشير التخمينات الواردة عن مصادر مطّلعة إلى أن السيسي يريد استخدام العرجاني والميليشيا التابعة له وحزبه السياسي بصفتها أدوات قمعية في خدمة الرئاسة وبصفتها قوة معادِلة لقوة الجيش. لم يسبق في تاريخ مصر الحديث أن سمحت الدولة بإحداث ميليشيا من هذا النوع، الأمر الذي يُنبئ بتدهور الدولة القومية بصفة أعمّ.

هل يؤثر الدعم الرسمي المصري للجيش السوداني في حربه المستمرة منذ عامين في السودان على اقتصاد البلاد؟

في هذا الدعم عبءٌ على الاقتصاد ومنفعة أيضًا، فقد سهّل النظام المصري مباشرة تهريب الذهب من شمال السودان وغربه، الأمر الذي يعود بأرباح مهمة على المتورطين في هذه العملية، وأبرزهم الجيش والأجهزة الأمنية. أما عن التأثير غير المباشر، فإن وجود اللاجئين السودانيين في مصر يُعدّ مصدراً للدخل الحكومي على هيئة مساعدات مالية تُقدمها الجهات المانحة، من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية. لكن النظام، بالإضافة إلى شريحة كبيرة من الشعب المصري، يعامل هؤلاء اللاجئين بقسوة متزايدة. وعموماً، يُمكن القول إن الحرب الأهلية في السودان قد نفعت مصر.

الاعتماد على إسرائيل

كيف يُدير الجيش المصري علاقاته الوثيقة مع إسرائيل، خصوصاً بشأن الأمن في سيناء، ويُؤدي في الوقت نفسه مهمّته باعتزاز بصفته ضامناً لاستقلال مصر؟ أليس ثمة خطر على مصر بعد كل ما حدث في غزة؟

تتعاون الأجهزة العسكرية والأمنية في البلدين تعاوناً وثيقاً، وهذا ما يتبين من قدرتها على إدارة مجموعة من الأزمات الأمنية، سواءٌ في ذلك عمليات القتل التي طالت الجنود من الجانبين أو انتهاكات أحكام المعاهدة أو التوترات الأوسع الناجمة عن حرب إسرائيل على غزة. إن أحد الأسباب التي حالت دون انفصام هذه العلاقة هو أن الجيش الإسرائيلي كان له دورٌ رئيس في قمع التمرد الذي اندلع في سيناء عقب انتفاضة عام 2011. لكن السبب الأهمّ هو أن النفوذ الإسرائيلي في واشنطن جوهري لاحتفاظ مصر بحُظوتها هناك، على الرغم من إدانة السيناتور بوب مينينديز أخيرًا بتهمة قبول رشاوى من أقرب مستشاري السيسي لكي تسهل الولايات المتحدة وصول المساعدات الأجنبية لمصر.3

إن التعاون مع إسرائيل أمرٌ مكروه في مصر، لذلك يُخفي السيسي هذا الشأن كما يُخفي كل “الأخبار السيئة”، سواء كانت أمنية أو سياسية أو اقتصادية. لقد طال التكتم كل مصادر المعلومات العامة المستقلة في البلاد، لذلك لا سبيل أمام المصريين لمعرفة حجم اعتماد البلاد والجيش والرئيس على إسرائيل. إن اعتماد مصر على الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية معروف ومُعلن، ولكن السيسي لا يرى في إعلان ذلك خطراً عليه لأنهما دولتان عربيتان. مع ذلك، لم ينل هذا الاعتماد قبول الجميع، إذ قوبل بمعارضة شديدة، فما بالك لو خرجت إلى العلن معلوماتٌ عن العلاقات الأمنية الوثيقة بين مصر وإسرائيل.

1ملاحظة من هيئة التحرير: مؤشر أو درجة جيني هو مؤشر اصطناعي يمكن من قياس الانحراف في توزيع الدخل بين الأفراد أو الأسر المعيشية داخل بلد ما انطلاقاً من توزيع متساوٍ. ويمثّل الصفر المساواة المطلقة فيما يمثّل الواحد انعدام المساواة المطلق. وتقاس التفاوتات المعنية بحسب المدخول أو الراتب أو مستوى العيش الخ.

2في 17 آذار/مارس 2024 خلال القمة المصرية الأوروبية حول الاستثمار، وقعت أورسولا فون دير ليدن والقاهرة على “شراكة استراتيجية” بمبلغ 7،4 مليار يورو في مجال الطاقة وخصيصا في تعزيز الحدود.

3في تموز/يوليو 2024 تمت إدانة عضو مجلس الشيوخ عن ولاية نيوجيرسي بتهمة الفساد واستغلال النفوذ وعمله كعميل أجنبي لصالح مصر وقطر. استقال من مهامه كسيناتور في 20 آب/أغسطس 2024، وتمت إدانته في كانون الثاني/يناير 2025 ب11 عاما من السجن بتهمة الفساد.