
ما إن دخل النعشان على العربة إلى باحة المدينة الرياضية، جنوب العاصمة بيروت، حيث تُقام الجنازة، حتى صدح في اللحظة ذاتها صوت حسن نصر الله في مقطع صوتي اشتهر بعد عدوان يوليو/تموز 2006، يخاطب فيه جمهور المقاومة الذي عاد إلى القرى ما إن وضعت الحرب أوزارها بنداء “يا أشرف الناس”.. فماجت الجموع التي ملأت المدرجات لسماع الصوت الأليف، وتعالى صراخ وبكاء أكثر من تسعين ألف شخص ممن اتسعت لهم المدرجات جلوساً ووقوفاً هاتفين “لبيك يا نصر الله”، مردفين هتافهم بترداد نداء نصر الله الشهير “هيهات منّا الذلّة”.
هكذا، سرت كهرباء خفية في الأجساد التي احتشدت فوق المدرجات التي تتسع لخمسين ألف متفرج أضاف لها المنظمون أكثر من ثلاثين ألف كرسي، محيلة المكان إلى كتلة متراصة من البشر، تهزهم عاطفة واحدة. فسالت دموع الرجال، ودقت نساء على صدورهن تفجعاً كما يفعلن في العاشر من محرم (أي عاشوراء). لم يعد هناك مجال للإنكار. لقد استشهد “السيد”.
لم يكن النعش وحيداً، فقد كان خلفه، تماماً كما في الواقع، نعش من كان قد جرى تحضيره لخلافته، أي هاشم صفي الدين، والذي اغتالته إسرائيل هو الآخر في أكتوبر/تشرين الأول.
كان التشييع لأمينين عامين، لم يتح للثاني أن يمارس مهامه أكثر من بضعة أيام، لكن الحشود، وإن كانت تحب الشخصيتين، إلا أنها كانت تنتظر من تشير إليه باللقب الودود “السيد”.
الصراع على المشهد
تأخر تشييع نصر الله بعد اغتياله في 27 سبتمبر/أيلول 2024 بخمسة وثمانين طناً من القنابل الأميركية الخارقة للتحصينات، في ضاحية بيروت الجنوبية. وبين تاريخ اغتياله واليوم الذي تحدد فيه تشييعه نهائياً، أي الأحد 23 فبراير/شباط، شهور خمسة، انقلبت الأمور فيها رأساً على عقب في أحوال المنطقة والعالم، وجرت أحداِث جسام كان من شأنها أن غيّرت المشهد السياسي والتوازنات في لبنان وفي الخارج، ليس أقلّها فوز دونالد ترامب في انتخابات الولايات المتحدة الأميركية، واستيلاء أبو محمد الجولاني، المعاد تدويره كأحمد الشرع وتنصيبه لنفسه رئيساً انتقالياً على سوريا بعد انهيار نظام بشار الأسد، وبالتالي إقفال معابر “الشقيقة سوريا” أمام أي دعم لحزب الله، إلى تقدم إسرائيل لاحتلال أجزاء كبيرة من الأراضي السورية، بعضها يتحكم استراتيجياً بحدود لبنان الشرقية، مروراً بتوقيع إسرائيل وقفا لإطلاق النار مع لبنان على قاعدة تنفيذ القرار 1701، وهو اتفاق لم تتوقف عن خرقه لترسي نوعاً من الاحتلال باختلال توازن القوى.
هذا الانقلاب في المشهد، إضافة لانشغال المقاومة أولاً باسترداد توازن أطاح به الاغتيال، وإعادة الإمساك بزمام الأمور عسكريًّا وحزبيًّا، وفي الوقت نفسه، صدّ عدوان إسرائيلي غاية في الشراسة والتدمير ومخالف لكل قوانين الحرب وأخلاقياتها، كان من شأن كل ذلك تأخير التشييع إلى ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار.
هكذا، ما إن أُعلن عن اليوم المرتقب، حتى فاضت المشاعر وتداعت الأسئلة. من شارع واظب بعضه على إنكار استشهاده غير مصدّق، لكنه بات يتطلع لليوم الموعود، إلى شارع معادٍ أو شامت، باتت وسائل التواصل الاجتماعي ميدان تعبيره.
أما الأهم، فقد كان الاستنفار الأميركي والإسرائيلي لممارسة ضغوط على الدولة اللبنانية لتحجيم مشهد التشييع المرتقب أن يكون ضخماً. هكذا، تجاوبت السلطة مع الضغوط الأميركية والتهديدات الإسرائيلية الصريحة، فحدثت عدة مضايقات محورها مطار بيروت، أشهرها منع الطيران الإيراني من الهبوط فيه، تحت تهديد من العدو بقصفه، إلى أجل غير مسمى.
بنتيجة ذلك المنع المفاجئ، احتُجز مئات اللبنانيين في مطار طهران بعد أن أُلغيت فجأة رحلاتهم من دون حتى تأمين بديل. وما فاقم الأمر، أن إيران التي استاءت من هذا السلوك الذي اعتبرته عن حق معادياً، بادرت لتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، فمنعت هبوط الطيران اللبناني الذي اقترح تسيير رحلات إلى طهران لإعادة مواطنيه العالقين هناك. لكن، وبعد مفاوضات، توصّل الجميع إلى تسوية تقضي بنقلهم بالطيران الإيراني إلى بغداد، حيث استقلوا الطيران العراقي للعودة إلى وطنهم بدلاً من الطيران اللبناني، كون الأخير منعهم من نقل امتعتهم معهم، في إجراء غير مسبوق، بدا في حقيقته تضييقاً فظاً. كما عومل المسافرون بفظاظة عند وصولهم إلى مطار بيروت، وطُلب منهم ألا يُشهروا صور “السيّد” التي كانوا يحملونها معهم، فاندلعت احتجاجات تداول فيديوهاتها ناشطون بغضب شديد. وقد أظهرت كل هذه الخطوات حجم الاستجابة المذهلة للطلبات الإسرائيلية التي أرادت ان توحي بأنها تمنع إيران من نقل أموال إلى المقاومة قد تعينها في إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل، وبالتالي تذهب أدراج الرياح جهودها في تحطيم الحاضنة الشعبية للحزب.
كثيرون بُهتوا أمام العراقيل المتنوعة وبعضها دولي لما اعتبره جمهور وإعلام حزب الله إعاقة لـ “مشهد التشييع” وتحجيمه، كما في تأجيل رحلات كثيرة من تركيا من يوم السبت السابق للتشييع إلى ما بعده كما أفاد بعض المسافرين، وإلغاء أخرى من أوروبا في ذلك التاريخ كما أفاد مطار بيروت، من دون الجزم ان كان ذلك بسبب تعطيل مقصود لسفر متعاطفين، ام بسبب اقفال مطار بيروت يوم التشييع لأربع ساعات، أو ربما أيضاً لأسباب أخرى تتعلق بالتخوف من قصف إسرائيل للمطار، وهو ما ألحّت على احتمال حدوثه قناة محلية لا تخفي عداءها للمقاومة (MTV)، والتي عمدت أيضاً لتضخيم خطورة عاصفة قطبية كان يتوقع أنها ستضرب لبنان، وهو ما كان موضع سخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة لتكرار القناة مرات عدة لاحتمال قصف إسرائيل لحشد التشييع نفسه.
عدا ذلك، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي شهادات لعراقيين يتأففون من تضييق لبنان على منحهم تأشيرات خصوصاً أنهم كانوا يعانون أصلاً من ارتفاع ثمن التذاكر التي اضطروا لشرائها للحضور عبر مطار بيروت، نظراً لخطورة الطريق البري الأرخص والذي يمر عبر سوريا.
يوم الرسائل السياسية
أما الأسئلة التي تداعت فور إعلان يوم التشييع، فقد كانت أولاً إن كانت الدولة اللبنانية سوف تتمثل في الحضور، وعلى أي مستوى؟ وإن كانت ستمنع أي حادث أمني كما حصل في تظاهرات سابقة للحزب1، والأهم، إن كانت إسرائيل سوف تقوم بأي عدوان على المشيعين، خصوصاً في سماء لبنانية تستبيحها طائراتها ومسيراتها. إضافة بالطبع إلى ما سيقوله الأمين العام للحزب نعيم قاسم كعنوان لمرحلة ما بعد نصر الله.
ولقد بدت الدولة اللبنانية برموزها محرجة من موضوع المشاركة في التشييع، لكنها أعلنت في النهاية أنها ستتمثل برئيس البرلمان نبيه بري بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن رئيس الجمهورية جوزيف عون، كما أوفد نواف سلام رئيس الحكومة المكلف وزيرا ليمثله. أما بالنسبة للتنسيق الأمني، فقد كان حاضراً بقوة، بين الجيش اللبناني وقوى الأمن والحزب.
لكن المفاجأة كانت إعلان إيران عشية التشييع أن طائرتين إيرانيتين ستصلان مطار بيروت منتصف الليل، وعلى متنهما رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد قاليباف، ووزير الخارجية عباس عراقجي، صحبة وفد كبير ورفيع لحضور التشييع وتمثيل إيران رسمياً. كما أعلنت طهران أنهما سيلتقيان الرؤساء الثلاثة في لبنان وهذا ما حصل، لكن تبين أن ست طائرات وصلت بدلاً من اثنتين، في خرق للحظر الإسرائيلي لم تُعرف خلفياته.
وفود أممية
ولقد بدأ الزحف قبل يومين من التشييع خصوصا من الجنوب والبقاع، فامتلأت بيوت الأقارب في الضاحية الجنوبية لبيروت بمن تحسبوا لموانع قد تحول دون حضورهم. هكذا، غصّت الشوارع المؤدية للمدينة الرياضية بمن لم يستطيعوا دخول مدرجاتها التي ملأها قبل الفجر مواطنون بات أكثرهم في سياراتهم بالقرب من المكان لحجز أماكنهم.
ومنذ الصباح الباكر، لم تفرغ الطرقات المؤدية إلى العاصمة لا من جهة البقاع، ولا من جهة الجنوب ولا من جهة الشمال، ولم يهدأ مطار بيروت الدولي الذي حطت فيه عشية التشييع وحدها، خمسون طائرة آتية من مختلف القارات، من تونس ومصر وتركيا وجنوب إفريقيا وباكستان ونيجيريا وإيرلندا وفرنسا وألمانيا وسويسرا، من اليمن والعراق والجزائر والسودان وأستراليا وأميركا والتشيلي والبرازيل.. طوفان حقيقي من البشر، من عقائد ثورية مختلفة، التقت على النضال ضد الإمبريالية الاستعمارية الأميركية، وفاشية إسرائيل. جاؤوا جميعاً لتشييع من وصفه الكثيرون بينهم بـ“المناضل الأممي”.
حشد قدّرت وكالة “رويترز” عدده بمئات الآلاف، حسب ما ذكر “تلفزيون الجديد”، الذي أضاف في خبره أن مصدراً أمنياً (لم تحدده رويترز في خبرها) ذكر أن العدد هو مليون، فيما أكد المنظمون أنه قد وصل إلى مليون و400 ألف شخص، أي ما يوازي ربع سكان لبنان.
ولقد بدا التشييع، الذي طال من أربع ساعات مقررة إلى عشرة لبطء اختراقه للحشود، مناسبة لرسائل سياسية هامّة، كان أولها حجم الحضور استفتاء بليغاً على قوة التأييد الشعبي للمقاومة، برغم الحرب المدمرة التي شنت على حاضنتها، واغتيالات القادة والعدد المهول للشهداء.
كما بدا أن هذه الحاضنة تؤمن بشكل راسخ بشعار “انتصار الدم على السيف” الثابت في خطابات نصر االله وأدبيّات حزب الله. هذا الشعار، وإن بدا لغير العارفين بالثقافة الشيعية شعاراً مكابراً، أو وجدانيًّا متحايلاً على الواقع، إلا أنه بكل بساطة ترجمة شيعية لأي من الشعارات الثورية في العالم. فانتصار الدم على السيف يعني انتصار من يثبت على مبادئه وسعيه للحرية وعدم قبوله للذل، حتى لو كلّفه الأمر حياته. تماماً كما في محنة الإمام الحسين بن علي، حفيد الرسول، والذي قتل في كربلاء (العراق اليوم) وأهل بيته وصحبه القلائل بشكل فظيع بسيوف أعدائه، على الاستسلام وتقبل الذل بالتراجع عن قناعاته التي أصبحت بفضل ذلك خالدة. أي انه انتصر بدمه وتضحيته على قوة العدو. أليس ذلك ما يفعله كل الثوريون؟
وبالطبع، لم تغب إسرائيل عن المشهد، فإضافة لغاراتها الأربعة عشر يومها على كامل الخارطة اللبنانية، حلّق الطيران الحربي الإسرائيلي مرّتين على علو منخفض فوق المكان خلال التشييع وكلمة الأمين العام نعيم قاسم، ما استدعى هتاف الناس بتحدٍ وغضب وبقبضات مرفوعة إلى السماء: “الموت لإسرائيل والموت لأمريكا”. وقد ظهر قاسم مخاطباً الحضور من خلف شاشة، فاعتبر أن ما تفعله اسرائيل منذ وقف إطلاق النار الذي التزمت به المقاومة ولبنان، لم يعد مجرد خروقات، بل عدواناً صريحاً واحتلالاً. وأصرّ قاسم على أن “المقاومة خيارنا الإيماني والسياسي ما دام الاحتلال موجوداً (..) نُمارس حقنا في المقاومة بحسب تقديرنا للمصلحة وبحسب الظروف، وسنتابع تحرك الدولة لِطرد الاحتلال ديبلوماسياً، ونَبني بعد ذلك على النتائج”، كما ذكّر بأن “فلسطين بوصلتنا”. وعلى الصعيد الداخلي، أكّد على مشاركة حزبه “في بناء الدولة القوية والعادلة (..)وتحت سقف اتفاق الطائف ضمن ثلاثة ركائز: إخراج المحتل وإعادة الأسرى، إعادة الإعمار كالتزام أساسي لهذه الدولة ونحن معها.” كما أكّد على التزام الحزب بالوحدة الوطنية والسلم الأهلي: “بالنسبة إلينا، لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه ونحن من أبنائه”.
بعد انتهاء الخطاب، تحركت العربة الجنائزية لتطوف في باحة الملعب، وأخذ الناس الأقرب والذين احتشدوا حولها بطوفان عاطفي مؤثر يقذفون بكوفياتهم وأوشحتهم إلى حراس النعشين ليمسحوا بها النعشين ويعيدوها إليهم. في حين أشارت لي صديقة إلى سيدتين تجلسان بعيداً قليلاً عن الصفوف الأمامية قائلة: “إنهما زوجته وابنته زينب”.
في الأثناء، كانت أعلام لبنان وفلسطين وحزب الله وعلم الحزب الشيوعي الأحمر تلتقي مرفرفة فوق المدرجات.
1ابراهيم الأمين، “لماذا يطلق الرصاص على المتظاهرين في الضاحية الجنوبية فقط؟”، جريدة “الأخبار” 9 تشرين الأول/أكتوبر 2006.