الأردن - مصر. تراشق بالاتهامات سببه قناة “الجزيرة”

تسبّب تأويل للتغطية الإعلامية لقناة “الجزيرة” للقاء ملك الأردن عبد الله الثاني بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 11 شباط/فبراير، سببه تقديم عناوين وتفسيرات دون وضع السياق، إلى إشاعة حالة من الفوضى والغضب في الشارع الأردني، علاوة على ردود فعل مستاءة على الصعيد الإقليمي، وخاصة من الجانب المصري. ما زاد المشهد السياسي الداخلي تعقيداً.

الصورة تُظهر شخصين يجلسان في غرفة تحمل طابعاً رسمياً. على اليمين، يتحدث رجل يرتدي بدلة زرقاء ورابطة عنق، بينما يجلس الشخص الآخر على اليسار، يرتدي بدلة داكنة، ويبدو منصتاً. خلفهم توجد لوحات فنية وأعلام، تعكس طابع المكان الرئاسي.
واشنطن، 11 فبراير/شباط 2025. لقاء بين الملك عبدالله الثاني ملك الأردن والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مكتب الأخير.
البيت الأبيض/فليكر

بعد أقل من عشرة أيام من تنصيبه رئيساً لولاية ثانية، كشف دونالد ترامب فكرته القائمة على تهجير سكان من القطاع “المدمّر حرفياً الآن” نحو مصر والأردن، ضمن خطوةٍ قد تكون “مؤقتة أو طويلة الأجل”.

في بيان لهم في الأول من شباط/فبراير، ردّ وزراء خارجية مصر، والأردن، والإمارات، والسعودية، وقطر، وممثل عن منظمة التحرير الفلسطينية، والأمين العام لجامعة الدول العربية، على فكرة الرئيس الأميركي، مشدّدين بوضوحٍ على “رفض فكرة تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم تحت أي ظرف من الظروف”. وبرز وسط هذا المشهد تنسيق مصري أردني رفيع، تكلَّل في استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي ولي العهد الأردني الأمير حسين في القاهرة في 16 شباط/فبراير. وقد شدَّد الجانبان، وفق بيان الديوان الملكي الأردني، على موقفهما بضرورة إعادة إعمار قطاع غزة، “من دون تهجير الشعب الفلسطيني الشقيق”. وقبل أيام من ذلك، أكّد السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني في اتصال هاتفي الموقف نفسه، وسط الإعراب عن حرصهما، وفق المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، على التعاون الوثيق مع الرئيس الأميركي بهدف “تحقيق السلام الدائم في الشرق الأوسط” على أساس إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967.

وكان البيت الأبيض قد دعا كلاً من ملك الأردن والرئيس المصري إلى زيارة واشنطن، بعد بيان وزراء الخارجية العرب. وفي حين أعلن الديوان الملكي الأردني قبول الدعوة، ماطلت مصر في الرد، حتى أعلنوا رفض الدعوة بعد عدة ساعات من لقاء الرئيس الأميركي والملك عبد الله الثاني في 11 شباط/فبراير.

تأويل لتغطية قناة “الجزيرة”

أعرب العاهل الأردني في بداية اللقاء عن إيمانه بأن ترامب سيتمكن من إنهاء الأزمة وإحلال السلام في الشرق الأوسط. لكنّ الرئيس الأميركي لم يُجِب حين تلقى سؤالاً يستنكِر توقّع الولايات المتحدة استقبال الأردن للفلسطينيين المهجرين. وحين حوَّل ترامب السؤال بنفسه إلى الملك الأردني، بادر الأخير بتذكير الجميع بأنّ أيّ قرار سيتم اتخاذهّ يعتمد على خطة عربية مشتركة مع مصر والسعودية.

بيد أن تغطية الجزيرة المباشرة للحدث وعناوينها أعطت انطباعاً فوريًّا بأن الملك عبدالله قد وافق على خطة “تطهير” غزة وتهجير أهاليها، وأن الأردن مستعدة لاستقبال الفلسطينيين المهجّرين. . وهنا سلسلة من الأخبار العاجلة بالترتيب الذي قدمت به:

“ترامب: ما سيقدم سيكون شيئا عظيما للفلسطينيين وأنا أفهم المجال العقاري والفلسطينيون سيحبون ما سنقدمه لهم.”
“العاهل الأردني: سنناقش في السعودية كيفية العمل مع الولايات المتحدة بشأن غزة وسيكون هناك رد من عدة دول.”
“العاهل الأردني: ما يمكن أن نقوم به فورا هو استقبال 2000 طفل مريض من غزة وسننتظر أن تقدم مصر من جانبها خطة.”
“العاهل الأردني ردا على استقبال فلسطينيين: يجب أن نضع بالاعتبار كيفية تنفيذ ذلك بما يخدم مصلحة الجميع.” “العاهل الأردني بشأن وجود أرض يمكن أن يعيش عليها الفلسطينيون: علي أن أعمل ما فيه مصلحة بلدي.”

لم تنقل الجزيرة اللقاء بشكل مباشر، وصرّح الباحث الأردني حسن البراري في مقابلة على قناة المملكة بأن الجزيرة كانت تنقل الأخبار عن Reuters. صيغة هذه العناوين وعدم وضعها في سياق الحديث الذي جاءت فيه، أعطت صورة غير دقيقة لمجريات اللقاء وتصريحات الملك عبد الله حيال خطط الرئيس الأمريكي.

في الحقيقة، لم يذكر الملك أي قبول أو نوايا لاستقبال فلسطينيين مهجرين من قطاع غزة إلى الأردن، بل صرَّح بأنّ ما يمكن لبلاده تقديمه بشكلٍ فوري وبأسرع وقت هو استقبال ألفَي طفل غزّي مرضى بالسرطان أو يعانون حالات صحية سيئة. وقد أبدى الرئيس الأميركي إعجابه بالمقترح الأردني بكونه “بادرة جميلة”، ولم يكن على علم به كما قال. وقد انتهى تصريح الملك الأردني في الدقيقة الثالثة من المؤتمر الصحافي، ولم يتحدّث بعدها حتى الدقيقة الثامنة عندما سُئِل عن رأيه حيال رغبة الولايات المتحدة بالسيطرة على غزّة. حينئذ، لم يجِب الملك على السؤال بطريقة مباشرة، بل أعاد التأكيد على انتظار مصر لتقديم خطتها وعدم التسرع.

وعندما أعاد الصحافي سؤال عبد الله الثاني حول إن كان هناك تخصيص لأراض أردنية من أجل استقبال الغزيين، أجاب الملك بأنّه يجب أن يفكِّر بمصلحة بلده الأردن، وبأنّ الرئيس الأميركي سعيد بخطوة الأردن لاستقبال ألفَي طفل في هذه اللحظة. وقد جاء هذا السؤال بعد تصريح الرئيس ترامب العدائي بأن الولايات المتحدة لن تشتري شيئاً في غزّة، بل “سنأخذها، وسنبقيها معنا”. وتبيَّن بأنّ الإعراب عن استعداد الأردن لاستقبال ألفَي طفل غزّي كان داعماً للملك الأردني كثيراً في مناورة أسئلة الصحافيين وتصريحات ترامب. وقد أتاح له ذلك عدم الإدلاء بأي خطة مستقبلية، وعدم الإقرار بأي انصياع سياسي لرغبات الولايات المتحدة بالشكل المطلق الذي يتحدث به الرئيس الأميركي، والذي يستعين بخبرته الواسعة في مجال العقارات من أجل حلّ السلام في الشرق الأوسط.

موجة غضب وتوتر بين أردنيين ومصريين

قناة الجزيرة القطرية من أكثر القنوات الإخبارية متابعة في الأردن. تغطيتها الدائمة لحرب الإبادة على غزة منذ السابع من أكتوبر جعلتها أحد أهم المصادر لمتابعة أخبار غزة وسياسات إسرائيل والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، خصوصًا مع العدد الكبير لمراسليها داخل غزة والضفة الغربية.

لكن طريقة نقلها لأخبار لقاء الملك عبدالله بالرئيس ترامب دون وضع الأمور في سياقها، أشعل فتيلة الغضب في الأردن، وتسبّب في موجة الغضب العارمة، انقسمت ما بين الغضب حيال “بيع” غزة و“خيانة” القضية، والغضب تجاه الجزيرة لمحاولة “تشويه” صورة الأردن وملكها ونشر الأخبار الخاطئة، وغضب مؤيدي الحكومة الأردنية من منتقديها، مذكرين العالم بأن مصلحة الأردن تأتي أولاً.

في أعقاب التغطية، توجه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى عدة قنوات تلفزيونية في تلك الليلة لتوضيح المقصود وتصحيح الفهم الخاطئ، مؤكدًا أن تصريحات الملك لم تتضمن أي اتفاق مع خطة ترامب لإجلاء سكان غزة. في الوقت نفسه، اندلعت موجة من الغضب في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن؛ حيث تناهى البعض أن الملك قد باع غزة، فيما دافع آخرون عن موقفه معتبرين أنه يتصرف بما يخدم مصالح الأردن.

ولم يقتصر الانتقاد على الأردن فقط، بل شهدت وسائل التواصل الاجتماعي المصرية كذلك تدفقات من الرسائل التي تتهم الملك بأنه “باع” القضية، والمملكة بأنها تدفع مصر إلى المقدمة مع تراجعها في الظهور، إذ اعتُبر بيان الملك وحضوره “ضعيفًا.” ومع بدء عدد من المعلقين في التنقيب عن تاريخ العائلة المالكة وظروف تتويجها على رأس المملكة، مع التركيز على نقد جمال عبد الناصر للملك الراحل حسين، جاء رد فعل الجمهور الأردني بشكل هجومي دفاعًا عن موقف الملك، مؤكدين أن الأخير تجنب الوقوع في فخاخ ترامب، ووجهوا اتهامات لجهات مرتبطة بالإخوان المسلمين في الأردن بتقويض موقف الملك بعدم تأييد موقفه علنًا.

تدخّل مباشر من البيت الأبيض

وفي محاولة لتهدئة الأوضاع المتأزمة، عقدت المتحدثة باسم البيت الأبيض مؤتمرًا صحفيًا أكدت فيه أن الملك عبد الله رفض بشكل قاطع خطة ترامب وأبطل أي نقاش حول تهجير الفلسطينيين. وبعد ساعات قليلة من هذا التصريح، شارك البيت الأبيض رسالة مدتها 40 ثانية أشادت بالملك الأردني وشعبه عقب اللقاء. من المعتقد أن تصريحات المتحدثة باسم البيت الأبيض، إضافة إلى رسالة ترامب إلى الشعب الأردني وتهنئته “بملكه الرائع”، جاءوا لتخفيض حدة الرأي العام في الأردن الذي تسبب به ترامب خلال لقائه مع الملك عبدالله. ويرى محللون وكتاب سياسيون أمثال الدكتور منذر الحوارات ولميس أندوني أن هذه الخطوة جاءت ضمن جهود الولايات المتحدة لتثبيت الأوضاع في الأردن بعد استفزازات ترامب.

وسط التبادلات الحادة على مواقع التواصل الاجتماعي منذ يوم اللقاء، خاض عدد محدود من المعلقين بنقاشات بعيدة عن الاتهامات بالخيانة أو الاحتفاء المبالغ به في الزيارة، كان مضمونها أن الأردن في موقع مثالي ليكون رسول القرار العربي الموحّد تجاه غزة، نظرًا لدوره التاريخي المحوري في الصراع الفلسطيني، وخبرة الملك الدبلوماسية، وقدرة الأردن على تحمل الظروف الصعبة، في إشارة الى حالة انعدام الاستقرار السياسي والأمني التي تعيشها المنطقة، وبالأخص دول الجوار. خلال الأعوام الماضية تأثر الوضع الاقتصادي الأردني بشكل كبير بالعوامل السياسية الاقليمية وتضررت السياحة والتي هي أحد أهم مصادر الدخل الأردني. كما تأثرت خطوط التجارة البرية مع الدول المجاورة، بالإضافة الى تدفق مئات الالاف من اللاجئين. مع هذا، لم تنجرف الأردن الى حالة من الفوضى او العنف السياسي، ولعب نظام الحكم في الأردن دور وسيط مفصلي في كثير من التحديات التي تواجه دول المنطقة. ما أهّل الملك ليكون الشخص المناسب لزيارة البيت الأبيض. تجسدت هذه النظرة في مناسبات عدة، بدءًا من تصريح المتحدثة باسم البيت الأبيض التي أشارت إلى موقف الملك القائل بأن حل الصراع لا ينبغي أن يشمل ترحيل الفلسطينيين خارج القطاع، وأن الخطط التنموية التي اقترحها ترامب قد تحمل فوائد كبيرة.

كما ذكر وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو في 14 شباط/فبراير أن الإدارة تتطلع إلى مقترح الأردن ومصر المقرر بعد انعقاد القمة العربية الطارئة قائلا: “حالياً، الخطة الوحيدة – رغم عدم رضاهم عنها – هي خطة ترامب. فإذا كان لديهم مقترح أفضل، فقد حان الوقت لعرضه.”

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن روبيو صرّح قائلاً: “جميع هذه الدول تدعي اهتمامها الشديد بالفلسطينيين، لكن لا أحد منها يرغب في استيعابهم، وليس لأي منها تاريخ في القيام بأي شيء من أجل غزة.” هذا التضليل يُعد أمرًا مقلقًا، إذ يبدو أحد المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى غير مدرك بأن جزءًا كبيراً من الشعب الأردني له أصول فلسطينية، بالإضافة إلى عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا.

بسبب هذه التغطية، دعت أصوات على مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن إلى مقاطعة الجزيرة، معتبرةً إياها المسؤولة عن نشر تغطية مضللة أدت إلى تأجيج الغضب الشعبي. عموماً، أظهرت هذه الأزمة ديمومة الضغائن التاريخية المرتبطة بمصير الفلسطينيين على مدى أكثر من سبعة عقود، مع تمسك عميق للرأي العام العربي بالقضية الفلسطينية.