
منذ كتابة هذا التقرير، وقعت مواجهات بين قوات السلطة المؤقتة ومناصري النظام السابق، الذين تمكنوا من السيطرة على عدة مواقع عسكرية. إزاء هذا التصعيد، نشرت السلطات بعجالة آلاف المقاتلين المتأتيين من الفصائل الثائرة والجهادية السابقة في الشمال السوري. ومنذ السابع من آذار/مارس تحول الساحل إلى ساحة حرب، تبعه يومان من أكثر الأيام دموية منذ بلوغ أحمد الشرع السلطة. وتتعدى حصيلة القتلى إلى حد الآن الألف قتيل منهم 700 مدنيين على الأقل أغلبهم من الطائفة العلوية.
في شوارع طرطوس الخالية، تلك المدينة الساحلية من الغرب السوري المطلة على البحر الأبيض المتوسط والتي تقع على بعد 200 كم من شمال دمشق، تدق الساعة الثانية عشر، وتدوي معها بنادق الكلاشينكوف. يرتعد رامي (اسم مستعار) وقد أخرجه الدوي من الصمت الذي يحيط به، ثم ينغمس في مطالعة عشرات الإشعارات على هاتفه النقال. ويقول معلقا: “إنها هيئة تحرير الشام... يريدون ترويعنا”، وهو مقتنع بأن هذه الطلقات مصدرها الفصيل المتمرد الإسلامي الذي قام بالهجوم الذي أطاح بنظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024. ويصفهم رامي بالـ“إرهابيين”.
لا يقلع هذا الشاب ذو الـ28 عاما والمتخرج في الأمن الرقمي بعد دراسته في روسيا، عينيه عن الشاشة، سواء كان في مكتبه أو في منزله. بعد يومين من سقوط نظام الأسد، أطلق رامي قناة على تطبيق “تلغرام” لتغطية أخبار حيّه الذي يشمل خمس شوارع. ويفسر قائلا: “كنا في البداية عشرين عضوا تقريبا، والآن تجاوز عددنا الست مائة.” وهي وفقه وسيلة “لحماية المدينة” عن طريق مراقبة أي تحرك في الشوارع المجاورة.
طائفة في حالة تأهب
متوشحا بالسواد، وفي ساعده ساعته الرقمية الذكية، يتلقى رامي يوميا طلب الانضمام من جيرانه الراغبين في الالتحاق بالقناة على تلغرام، بغية متابعة الأحداث أولا بأول في حال “خطر داهم”. ويؤكد رامي قائلا: “إن الوضع لم يعد مستقرا لنا كعلويين”. هذه الأقلية التي ينتسب لها آل الأسد تمثّل 10% من السكان. وقد كانت العمود الفقري للنظام طوال 54 عاما، حيث تقلّد أبناؤها أغلب المناصب العليا في المخابرات، والأمن، والجيش بالإضافة إلى وحدات النخبة. لكن منذ 2011، نشر النظام عددا كبيرا من الشبان المجندين العلويين، الذين يفتقرون عادةً للتجهيزات التي تتمتع بها الوحدات المتخصصة، ووضعهم في الصفوف الأمامية ليكونوا حطب مدافع النظام. وعرضت هذه الاستراتيجية المجندين إلى مخاطر جمة. ففي القرى الجبلية التي يقطنها العلويون، قُتل كل الشباب ما بين عمر 20 و30 عاما. وفي شوارع طرطوس، كثيرا ما نلتقي جنودا سابقين يحملون جروحا بليغة، وهم بدورهم من ضحايا النظام.
تتوالى الرسائل على قناة رامي على تطبيق تلغرام، منها التحذيرات والفيديوهات والصور العنيفة للمذابح التي تُرتكب بحق العلويين. ولا مجال لتمييز الحقيقة من الإشاعة.
يبعث رامي أيضا معلومات للمرصد السوري لحقوق الإنسان بشأن العنف المسلط على الطائفة العلوية. فمنذ 8 كانون الأول/ديسمبر، تؤكد هذه المنظمة المثيرة للجدل—التي يشكك بعض خبراء الأزمة السورية في مصداقيتها بسبب نقص التقارير المفصلة والتحقق من المعلومات— أنها أحصت 250 حالة إعدام خارج نطاق القضاء تستهدف أساسا هذه الطائفة.
ولئن كان من الصعب تحديد عدد كل هذه الجرائم، فإننا نعرف أن جماعات سلفية قد ارتكبت مذابح بقريتين منعزلتين قرب حمص، ذات أغلبية علوية، تقع على بعد 90 كيلومترا شرق طرطوس، وذلك من آخر كانون الثاني/يناير 2025. زادت هذه المجازر من تخوف العلويين من “حملة تطهير” تستهدفهم، وقد فرغت عدة قرى حول طرطوس من سكانها.
البصمة الروسية
على معصم رامي، يبرز وشم كلمة “سلافا” -أي “المجد” بالروسية- تحت الضوء الخافت، مذكراً بالأيام التي قضاها في فورونيغ بروسيا، حيث درس لمدة أربع سنوات وحيث كانت الحياة تشبه “فيلماً بالأبيض والأسود” على حد تعبيره. يحب رامي تواضع الروس ويرى في فلاديمير بوتين قائداً أعاد الكرامة لشعبه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ويتذكر رامي: “حتى قبل شهرين، كنت أتحدث الروسية يومياً”. بعد عودته إلى سوريا في عام 2022، واصل الشاب ممارسة هذه اللغة مع العسكريين الروس المتمركزين في القاعدة البحرية المحلية، حتى رحيلهم المفاجئ في 9 كانون الأول/ديسمبر 2024 بعد سقوط النظام. يقول بنبرة حنين: “غادروا جميعاً في ذلك الصباح، لم يعد هناك أحد.” قبلها بيوم، بينما كان الفجر لا يزال يكافح لإضاءة السماء، فرّ بشار الأسد في سرية تامة من البلاد بطائرة من قاعدة “حميميم” الجوية الروسية الواقعة في اللاذقية شمال طرطوس.
كان يتم تخصيص الكورنيش كل عام لعرض عسكري بمناسبة عيد البحرية الروسية، في 31 تموز/يوليو، ما يجعل التنزه مستحيلاً للمدنيين. كانت الأعلام الروسية والسورية ترفرف جنباً إلى جنب، مصحوبة بصور ضخمة لبوتين وللأسد. يروي الشاب وهو يسير بمحاذاة البحر: “ما زلت أتذكر تلك المشاهد،”. ما يذكره بتلك السنوات اليوم هو “سنو”، كلبه من فصيلة الهاسكي السيبيري ذو العينين مختلفتي اللون، الذي تبناه قبل ثماني سنوات. كما بقي له مجتمع من السوريين الناطقين بالروسية، أولئك الذين تعلموا مثله اللغة في روسيا.
أُسقط تمثال حافظ
يرفرف في الهواء أمام رامي علم ضخم للثورة السورية كانت نصبته السلطات الجديدة، علامة على استيلائهم على السلطة، وكقطيعة مع النظام السابق. ومع ذلك، في هذه المدينة حيث يمثل العلويون في بعض الأحياء 90% من السكان، من النادر رؤية هذا العلم معلقاً على المنازل، على عكس مناطق أخرى، وهي صورة تخرج عما نراه في باقي البلاد. ينظر رامي لنجمات العلم الجديد الثلاث : “من المفترض أنها تمثل حلب ودمشق ودير الزور. لكن أين باقي المدن السورية والساحل؟ هذا العلم لا يمثل جميع السوريين.”
في شارعه، على عكس باقي أنحاء سوريا حيث تمت إزالتها بشكل منهجي، لا تزال صور نادرة لبشار الأسد تعتلي أعمدة الإنارة، وهو يرتدي نظارات سوداء، مع صور “الشهداء” في المقدمة، أي جنود قوات النظام الموالية الذين قُتلوا في المعارك. يقول رامي: “هذا لا شيء مقارنة بما كان عليه من قبل. كان يعتبر سوريا حساب انستغرام خاصا به”.
لم يحب رامي أبداً بشار الأسد، الذي يعتبره مجرما، فاسدا، ومسؤولا عن فقر البلاد. منذ عام 2012، تنتشر شائعات في المدينة تدّعي أن بشار الأسد ليس من أصل علوي، ويؤمن الشاب بذلك بدون تردد. لذلك عندما سمع في الأيام التي سبقت 8 كانون الأول/ديسمبر بحدوث هجوم للإطاحة به، شعر رامي بالنشوة. ويعترف قائلا: “”لم أستطع تصديق ذلك"، وهو لا يزال غير مصدق.
في طرطوس، وهي منطقة ظلت تحت سيطرة النظام حتى النهاية، تبدو صور احتفالات اليومين الأولين بعد سقوطه، حيث تم تحطيم تمثال ضخم لحافظ الأسد وسط هتافات الحشد، وكأنها من ماضٍ بعيد. تماماً كما بالنسبة لأغنية “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد !” التي رددتها الجموع في المظاهرات الأولى كعلامة على الوحدة الوطنية، التي كأنها تبددت بدورها مع مرور الوقت.
تم إعفاء رامي من الخدمة العسكرية نظراً لكونه الرجل الوحيد في عائلته، ويقول بهذا الخصوص: “أنا مرتاح لأن يداي لم تتلطخا بدماء الحرب الأهلية”. من بين أصدقائه، دفع البعض 10 آلاف دولار لتجنب الخدمة في الجيش، واختبأ آخرون في قراهم هرباً من التجنيد. لكن كثيرين، غالباً الأكثر فقرا منهم، لم يكن لديهم خيار سوى الذهاب للقتال في صفوف الجيش العربي السوري (القوات المسلحة السورية النظامية)، الذي عرف حالات فرار جماعية منذ عام 2012.
لكن سرعان ما تحولت فرحة رامي إلى رعب عندما وصلت للسلطة قوات هيئة تحرير الشام التابعة سابقا لتنظيم القاعدة، ويتذكر الشاب: “فكرت أنه يجب أن ننظم صفوفنا لأننا كعلويين صرنا في موقف خطر. قدرتُ على الفور أن عمليات اغتيال ستستهدف طائفتنا.”
أمن باهظ الثمن
القلق ملموس بين مجموعة رامي من الشباب العلويين. كْلِيا (اسم مستعار)، 25 عامًا، بشعرها المجعد وسترتها ذات القلنسوة، هي عضو في مجموعة حراسة الحي. وتعبر عن يأسها بين رشفات مشروب المتّة مفسرة: “لا يمكنهم أن يأتوا لقتلنا كالكلاب دون أن نردّ الفعل”.
على عكس رامي، الذي يصف بشار الأسد بأنه “مجرم” و“جرذ” و“كلب”، تتخذ كْلِيا نبرة ساخرة عندما تتحدث عن سقوط النظام:
أنا لا أهتم بالأسد. بعد ثلاثة عشر عامًا من الحرب، كنت أريد فقط ألا يأتوا ليقتلونا جميعًا. لم تكن لدينا حرية سياسية تحت حكم الأسد، لكن كان بإمكاننا العيش والشرب والرقص. أما الآن، فإن أمي لا تسمح لي حتى بالخروج بعد حلول الظلام.
تشير الفتاة إلى قريتها المغطاة بالثلج، حيث يوجد بيت أهلها المهجور. وتقول: “من الخطر جدًا بالنسبة لي الذهاب إلى هناك الآن، فالمنزل معزول جدًا”.
إذا كان بعض العلويين مثل كليا يفتقدون نوعًا من الاستقرار في ظل النظام، فإن آخرين يذكّرون بأن هذا الأمن كان له ثمن باهظ. فالكثير من العلويين في طرطوس يعيشون في فقاعة، بعيدًا عن ضجيج المعارك أو القنابل، وقد تابعوا النزاع عن بُعد، دون أن يعانوا من أكثر عواقبه عنفا التي دمرت مناطق أخرى. لكن هذه الحماية الظاهرة كانت مصحوبة بواقع آخر، واقع الرقابة الصارمة ومناخ من الشك الدائم. كان يمكن لمجرد تفاعل على فيسبوك مع منشور مناهض للأسد أن يؤدي بصاحبه إلى استجواب قاس من قبل المخابرات السورية.
“كان هناك سنّة من كبار مؤيدي النظام”
يحتسي مشروب المتّة مع رامي في مقهى شبه فارغ طبيب يبلغ من العمر 30 عامًا. وهو أخصائي تخدير في مستشفى باسل – تكريماً لابن حافظ الأسد البكر الذي كان من المقرر أن يخلفه، والذي توفي في حادث سيارة عام 1994 – الذي أعيد تسميته مؤخرًا “المستشفى الوطني بطرطوس”.
علينا أن نبرّر صمتنا تحت نظام بشار، لكن الأمر لم يكن يتعلق بالعلويين فقط، فقد كنا مجبرين على الصمت. لا يمكن لأي حكومة أن تبقى في السلطة بـ 10% فقط من السكان. كان هناك أيضًا سنّة من كبار مؤيدي النظام.
يشترك الكثيرون في هذا الشعور بأنهم مستهدفون ظلمًا كعلويين، ويُنظر إليهم على أنهم مسؤولون عن جرائم بشار. ووفقًا له، فإن اللوم يقع على رواية عشيرة الأسد التي كانت تستغل الأقليات لترسيخ شرعيتها في سوريا. ويؤكد الطبيب: “حاول بشار الأسد تحويل انتفاضة ضد نظامه إلى حرب طائفية، ولم يكن الوحيد. فمن الجانب السني، غذّى البعض أيضًا هذا الخطاب”. يتذكر المرة الأولى، في عام 2011، التي رُفع فيها شعار “العلويون إلى القبر، المسيحيون إلى بيروت” في مظاهرة في حمص. في الواقع، وبخ الجمهور الشاب المتظاهر الذي كان يردد هذا الشعار، ولا يستذكر الطبيب ذلك.
ويذكر أغنية أخرى يقول إنه سمعها في عام 2014 تقول عباراتها: “سنأتي للعلويين بالسكين على الرقبة”. ويؤكد أن هذا الشعار كان من أيقونة الثورة السورية عبد الباسط الساروت، الذي أخذ السلاح فيما بعد قبل أن يُقتل في عام 2019.
وتم استغلال هذه الأغاني لاحقا على نطاق واسع من قبل الدعاية الحكومية التي كان يتم بثها بتكرار على صفحات فيسبوك والقنوات الرسمية للنظام. فترسخت هذه الرواية، التي تم الترويج لها طوال ثلاثة عشر عامًا من الحرب، في المجتمع العلوي بعمق.
ستار من الدخان
يروي الطبيب آخر أخبار مستشفاه لصديقه رامي. منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأ يلاحظ في المستشفى عمليات طرد جماعي لأشخاص متهمين بـ “تلقي راتب دون عمل”. ويقال أنه تم طرد 50 بالمائة من الطاقم غير الطبي، ومن هنا، تعزز الشعور بالاستهداف. ويشرح الطبيب: “اعتبرنا ذلك إجراءً مناهضا للعلويين”.
بعد الاستراحة القصيرة، يعود رامي إلى مكتبه الموجود في برج يطل على المدينة. وبصفته عاملا مستقلا، يطور الشاب تطبيقات ويدير مواقع الويب للشركات، لكن هذه الأيام، ينشغل انتباهه أساسا بمجموعة حراس الحي. ويشرح وأمامه عدد من الشاشات: “نحن لا نثق بهيئة تحرير الشام، ونحن نحب مدينتنا كثيرا لدرجة أننا نتدبر أمورنا وحدنا لحمايتها”. ينشئ رامي، معتمدا على روبوتات المعلوماتية، عدة حسابات على موقع تويتر (إكس حاليا). ويرينا بفخر تغريدة تم تناقلها على نطاق واسع وشوهدت أكثر من مليون مرة، تظهر جنديًا في طرطوس يحمل العلم الأسود لتنظيم الدولة الإسلامية في أوائل كانون الأول/ديسمبر 2024.
يتصفح رامي قناته على تطبيق تلغرام على شاشته. البعض يتناقلون تحذيرات، بينما ينشر آخرون معلومات أمنية وفيديوهات وصورا التُقطت في اللحظة، وهناك شائعات وحقائق ومبالغات، والفيديوهات تجد من يشاهدها باستمرار.
في مناخ من الشائعات والخوف وعدم اليقين، تغذي كل حادثة شعورا بالتهديد. ففي مساء يوم الاثنين 10 شباط/ فبراير، تلقى رامي تحذيرا على المجموعة يقول: “هناك رجلان يسرقاننا، إنهما من هيئة تحرير الشام”. وسرعان ما تدفقت الحشود إلى الموقع، إثر تلقيها المعلومة على تلغرام. وبعد أن ألقى السكان القبض على الرجلين واستجوباهما، أكد الأخيرين أنهما من إدلب و أنهما ينتميان إلى هيئة تحرير الشام، وهو ما تنفيه السلطات الجديدة، التي أُخطرتها المجموعة. ويُقال إنهما صحة هذا الزعم.
الأسد “الخائن”
بينما يتصفح رامي موقع إكس (تويتر سابقا)، يقف شبح شخص مألوف على باب مكتبه. كان هذا الشاب قبل شهرين لا يزال ضابطا في سلاح الجو التابع لبشار الأسد، الذي خدمه لمدة عشر سنوات. ويقف على الباب حاليا بتعبير قاتم وهيأة نظيفة، لحيته مهذبة، وشعره مصفف بالجل. يحمل قطعة ورق مجعدة في يده ويفسر: “هذا طلب العفو الخاص بي”. اسمه مكتوب بالحبر الأسود، مصحوبًا برقم ما. “لم أعد أخرج من الحي ولم أعد أعبر نقاط التفتيش. إن الوضع خطر للغاية. في وضعي العسكري غير محسوم، فأنا لا مدني ولا جندي”.
يقول إنه ذهب للتقدم بطلب تسوية، وهو العفو الذي أعلنته هيئة تحرير الشام للجنود السابقين في النظام. هي ممارسة مستوحاة من تلك التي استخدمها الأسد فيما قبل مع المقاتلين السابقين في عام 2018. لكن منذ ذلك الحين، لم يتلق ردًّا عن الطلب، وبقي ملفه معلقا. وهو ينتظر إلى الآن. ويؤكد: “نحن عشرات في هذا الوضع” . بالنسبة له، شكّل تاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 قطيعة حادة. يبدو أنه لم يتقبّل بعد سقوط بشار الأسد. “لقد تركنا هنا. كان الأسد في السماء بينما كنا على الأرض”. يهز رأسه. “لم يتعنّ نشر بيان؟ لا شيء؟” ويعتبر هو كذلك الأسد “خائنًا” لفراره بأنانية، تاركا سوريا في “فوضى”. في الواقع، بينما كان ثوار هيئة تحرير الشام وحلفاؤهم يحاصرون دمشق، تظاهر بشار الأسد بقيادة العمليات العسكرية، مطمئنًا أركان حربه ومقربيه، مؤكدا لجنرالاته وأجهزة الأمن أن وحدات من روسيا في الطريق، وكان كاذبا. كان في الواقع يجهّز لهروبه. في ليلة 8 كانون الأول/ديسمبر، وصل بشار إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في اللاذقية، من حيث طار إلى موسكو، ليلتقي بزوجته التي كانت هناك بالفعل، متخليا عن مقربيه وقواته.
عندما يتحدث الضابط السابق عن سنواته العشر في الجيش وما تبقى منها، يشير إلى سلة مهملات في زاوية المكتب قائلا: “لقد خسرت كل شيء”. ثمتخلى الروس عنهم بدورهم. بالرغم من علمه بأنهم “براغماتيون”، لم يتوقع مثل هذا التخلي.
يبقى غامضًا بشأن ما فعله طوال خدمته في الجيش. ويقول ببساطة: “لقد حاربت داعش”، ذاكرا حمص وحلب. يؤكد أنه لم يتطوع أبدا للذهاب إلى الصفوف الأمامية، ولكن تم إرساله بالقوة. وبصفته مهندسا في الأصل، حاول تجنب الذهاب إلى الجبهة، مما أدى إلى احتجازه لمدة سبعة أيام، ثم تعيينه في الصحراء مكلفا بالدفاع عن حاجز عسكري. يتذكر واقعة فيها عشرون رجلا، وسيارة مفخخة أدت لمقتل عشرة منهم .
في 7 كانون الأول/ديسمبر 2024، كان لا يزال في الخدمة. وأسقط السلاح عندما رأى اثنتي عشرة مدرعة تابعة لهيئة تحرير الشام تدخل حمص، وهي الخط الأخير نحو دمشق. واستعاد الثوار المدينة تقريبًا دون مقاومة. لكن اليوم، يؤكد أنه “نادم على الاستسلام من ناحية ما”.
يريد الضابط السابق الفرار، مغادرة سوريا، ويفكر في بيع شقته للهجرة إلى روسيا. يكرر عدة مرات رغبته في “النوم بسلام”. لكن للرحيل، سيحتاج إلى تأشيرة سفر، وهي وثيقة لا يمكنه الحصول عليها بدون أوراق مدنية. يتحدث عن رجال يمتطون دراجات نارية، يُزعم أنهم أحرقوا صور “شهداء” موالين للنظام، وهو يعتبر ذلك “غير مقبول”. هناك شائعة تقول إن عائلات هؤلاء الشهداء لم تعد تتلقى معاشاتهم، أما بالنسبة لاعتقالات الضباط السابقين، فيهز رأسه قائلا: “القصة غير واضحة. الاعتقالات تتم بطريقة همجية. العائلات لا تعرف حتى أين يُحتجز أقاربها، إن المنهج تعسفي تماما، فلا يوجد أي إعلان عن مصيرهم.”
ظهور الميليشيات المسلحة
على بعد 60 كيلومترا شمال طرطوس على الساحل، في جبلة، ظهرت ميليشيا محلية تطلق على نفسها “قوة المقاومة السورية”. ويرفع أعضاؤها العلم السوري القديم ويتبنون أعمال العنف مثل اغتيال ضابطيْن اثنين من المديرية العامة للأمن. من المستحيل تحديد عدد أعضاء الميليشيا، أو تقييم ما يمكن اعتباره تجاهرا بالقتل. يؤكد رامي: “كان الكثير منهم مجرمون حقيقيون من قبل. لكنهم يعلمون أنهم، عاجلاً أم آجلاً، سيتم اعتقالهم من قبل هيئة تحرير الشام، لذلك يحاولون إثارة دورة جديدة من الحرب الأهلية في سوريا”.
مؤخرا، ظهرت ميليشيا أخرى مناهضة للعلويين تحت اسم “سرايا السنّة”. وتتبنى هذه المجموعة المتطرفة، المعادية للتعايش مع العلويين، بضع هجمات استهدفت الطائفة العلوية. وقد وعدت هيئة تحرير الشام باعتقالهم. وهذه الميليشيا مسؤولة بشكل خاص عن هجوم في أرزة وسط البلاد، في 31 كانون الثاني/ يناير 2025، مما أسفر عن مقتل عشرة أشخاص. ودعت هذه المجموعة، التي يصعب تحديد كبر عددها، إلى مضاعفة الهجمات ضد العلويين في جميع أنحاء البلاد.
الوضع متأزم. في صباح الأول من شباط/فبراير، يتلقى رامي رسالة على هاتفه بيانها: “مقتل عشرة علويين فيما وُصف بأنه مذبحة طائفية”. يسمي رامي وأصدقاؤه هذه المجزرة، بالإضافة إلى تلك التي ارتُكبت في قرى أرزة وفاهل، بـ“إبادة حمص”.
على الكورنيش المهجور
تتوالى الأيام في طرطوس، رتيبة، بسبب الشتاء والخوف، بدون احتفالات أو خروج ليلي. لتغيير أفكاره، يمشي رامي على طول الكورنيش، على بعد خطوات قليلة من منزله، في حي بشوارع متواضعة. من بعيد، يهدر البحر تحت سماء متعكرة. “البحر غاضب”، كما يلاحظ. تحمل الريح رذاذ البحر المالح إليه. فقط بعض السياح الوطنيين، غير المدركين للاضطراب الذي ينخر المدينة، يقفون أمام البحر، محاولين تخليد لحظة خفيفة على هذا الشاطئ الذي لم يروه منذ سنوات.
أما بالنسبة لباقي الناس، فقليل منهم يتجول على الكورنيش. معظمهم عاملون يوميون ليس لديهم خيار سوى أن يكونوا هناك، لكنهم يعترفون أنهم يغادرون المنطقة بمجرد حلول الظلام. يتحدث بائع ذرة مشوية عن “انعدام الأمن”، ويخشى رجل عجوز “الاختطافات”.
من بين هؤلاء نجد علي، 40 عامًا، وهو جندي سابق مصاب يبيع قطع شوكولاتة قديمة. أصيب علي بعد ست سنوات كجندي احتياط في الجيش في حمص، حيث كان يشغل نقاط تفتيش. وفي هذا اليوم العاصف، يشتغل علي على الكورنيش لتوفير القوت فحسب.
في مكان قريب، يدخن سيجارة رجل من هيئة تحرير الشام بملابس مدنية، وهو يواجه البحر. يقول لنا أنه يشعر بالأمان والسلام، مستمتعًا بالساحل دون الحاجة إلى سلاحه أو زيه العسكري. ويؤكد انتماءه إلى الجيش السوري الحر، هو أصيل محافظة إدلب. وتتحالف هذه الفصيلة العسكرية المنشقة عن جيش بشار الأسد مع تركيا، وقد شاركت في الهجوم الذي أدى إلى سقوط الطاغية وانضمت فيما بعد إلى هيئة تحرير الشام. ويؤكد مرة أخرى: “لا توجد مشكلة في طرطوس، فالجميع في أمان”.
سوريون فقط
في 17 شباط/فبراير، قام رجل المرحلة الجديد أحمد الشرع بزيارة مفاجئة إلى عدة مدن سورية، من بينها طرطوس، في أول ظهور علني له خارج دمشق كرئيس مؤقت لسوريا. وتظهر صور له على مواقع التواصل الاجتماعي وهو يُستقبل بهتافات الحشود حتى غروب الشمس.
و تنهال التعليقات على قناة تلغرام التي أنشأها رامي، منها القائلة: “العلويون يتبعون أي زعيم. نرى نفس الأشخاص الذين كانوا يدعمون الأسد في الحشد” أو “في الصور، يبدو أن هناك حشدا كبيرا، لكنه في الحقيقة مجرد دوار [مع بعض] الأشخاص المتواجدين حوله” أو “نحن لا نريد خطابات، نريد أفعالا”.
يقول الشرع: “لديكم ميناء وحقول، لماذا هناك الكثير من الفقر في طرطوس؟” ويصر الرئيس على الوحدة الوطنية، مؤكدًا أنه لا يوجد سنّة ولا علويين في سوريا، بل سوريون فقط، يخاضع جميعهم لنفس القانون. يستحسن رامي خطابه واصفا إياه بال“سياسي الجيد”، كما يعتبر من المهم أنه أتى إلى الساحل.
يفكر رامي وغالبية أصدقائه الشباب في الرحيل. لكن في الوقت الحالي، لا يتم قبول التأشيرات، فيفكر البعض في طرق غير قانونية، لكنهم خائفون. ثريا (اسم مستعار) أخت رامي مهندسة معمارية تبلغ من العمر 26 عاما، وهي من بين أولئك الذين يريدون مغادرة المدينة. تصمم ثريا بيوتا لعملاء في عمان، لكن في طرطوس، لم تعد تغادر الدار بمجرد حلول الظلام. وتقول: “تحت حكم بشار، كان بإمكاني الذهاب إلى أي مكان، والخروج دون خوف”، متذكرة أيامًا أكثر أمانا بالنسبة لها، بينما تشير إلى أظافرها المطلية حديثا، دليل على خروجها الوحيد في اليوم. لا تهمها السياسة، كل ما تريده هو استعادة حياتها السابقة وراحة بالها. “أصاب بالاكتئاب من البقاء محبوسة في المنزل”.
ثريا مخطوبة لرجل سنّي من حلب مقيم في النرويج. وتؤكد ثريا: “علويين، سنّة... هذا الموضوع ليس حتى موضوعا”. بمناسبة عيد الحب، أرسل لها خطيبها عن بُعد باقة ضخمة من الورود.