
من موفدتنا الخاصة.
ينتابني قلق خاص وأنا موجودة في القدس، في عقر دار الكولونيالية، لحضور هذا المؤتمر حول “مكافحة معاداة السامية” الذي دُعي إليه اليمين الغربي المتطرف. في كل مكان حولي، رجال ونساء يتباهون بانتمائهم لما يسمونه “الحضارة اليهودية المسيحية”، ببدلاتهم المصممة، وثيابهم الأنيقة، وربطات العنق الحريرية للرجال، والأحذية ذات الكعب العالي للنساء. جميعهم جاء ليستمع إلى أربع ساعات من الخطاب العنصري، يتفوه بها أنصار التفوق الأبيض واليهودي. يكفي أن يحدق إلي أحدهم حتى أخشى على نفسي، لو علم حقاً من أكون. كل هذا في مدينة مدجّجة بالسلاح الذي يحمله الإسرائيليون، إن كانوا مدنيين أم عسكريين.
وفي الختام: خطاب.. لبنيامين نتنياهو. من المستحيل أن تكون على بعد عشرات الأمتار من هذا الرجل، الذي تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من دون التفكير في آلاف الأطفال الذين قُتلوا في غزة، وفي الضحايا الذين ما زالوا تحت الأنقاض، وفي الدمار اليومي الذي يواصل شنه رجل تل أبيب القوي، مع الإفلات الكامل من العقاب، متباهياً “بتغيير وجه الشرق الأوسط” على حد قوله.

صمت الصحافة
وصف رئيس حزب اليمين المتطرف الفرنسي جوردان بارديلا وجوده في المؤتمر بـ“التاريخي”، لكن هذا الحدث الذي تم تنظيمه تحت رعاية وزارة الشتات يومي 26 و27 مارس/آذار 2025 في القدس لم يجلب اهتمام الكثيرين، باستثناء المقالات المنشورة في صحيفة “هآرتس” خلال الأسابيع القليلة الماضية، كمن يصرخ وحده في الصحراء. وقد تم وصف الصحيفة اليسارية خلال المؤتمر بأنها “صحيفة معادية للسامية”، وسط تصفيق الحضور.
على المرء كذلك أن يتفهم وضع الإسرائيليين ومشاكلهم العديدة، فهم قلقون بشأن استئناف الحرب في غزة —فقط بسبب الخطر الذي تشكله على عودة الأسرى الإسرائيليين أحياء. كما أنهم محتارون إزاء تجاوزات نظامهم السياسي - الديمقراطي لليهود فقط - والذي يهدد بالتحول إلى حكم استبدادي، بين إقالة بنيامين نتنياهو لرونين بار، رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رغم قرار المحكمة العليا، أو المواجهة مع النائب العامة غالي بهاراف ميارا. أما بالنسبة لمصير الفلسطينيين، سواء الإبادة الجماعية المستمرة في غزة أو التطهير العرقي في الضفة الغربية، فهو لا يثير اهتمام المتظاهرين الشجعان في القدس أو تل أبيب، الذين يواصلون الهتاف في طريق عودتهم من المسيرات: “ديمقراطية!”.
كان اليوم الأول مخصّصاً لضيوف الشرف الذين زاروا “غلاف غزة” وياد فاشيم، المجمع التذكاري لضحايا الهولوكوست. أما الجزء العام من الحدث، فقد انعقد بعد ظهر يوم الخميس 27 مارس/آذار، تحت عنوان متواضع: “سفراء الحقيقة”. على مرتفعات القدس الغربية، في مركز المؤتمرات الدولي، تتعارض حالة السرور التي تظهر على وجوه معظم الحضور مع الترتيبات الأمنية المتوجسة. يُسأل الأجانب كيف علموا بانعقاد هذا المؤتمر، ويتم التحقق من الصحفيين لمعرفة ما إذا كانوا ناشطين متخفين. وكان عدد من الزملاء الفرنسيين حاضرين، بإرسال من مكاتب التحرير... باستثناء قناة CNews، التابعة لرجل الأعمال الفرنسي فانسون بولوريه، والتي حظيت بامتياز أن تكون مدعوة من طرف المنظمين. وفي نفس المساء، تحدث جوردان بارديلا على الهواء مباشرة من القدس على نفس هذه القناة، في حين تم سحب اعتماد مراسل صحيفة “لومانيتيه” التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي. فعلاً، إن حرية الصحافة تشكل قيمة ثابتة في “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
حضر بعض المئات من الأشخاص، مع تمثيل قوي لمنظمة DiploAct، وهي منظمة غير حكومية إسرائيلية موجودة في فرنسا منذ عام 2022 وتتكون من طلاب إسرائيليين يتكلمون الفرنسية، هم جنود احتياطيون في الجيش الإسرائيلي، وليس من النادر أن يكون لهم حضور في وسائل إعلام فرنسية مساندة لإسرائيل. ومن جانب أميركيا الشمالية، يحضر ممثلون عن مؤتمر العمل السياسي المحافظ (CPAC)، الذي يستقبل اجتماعُه السنوي ممثلين عن اليمين المتطرف الأوروبي، إلى جانب رجل الأعمال الإسرائيلي الكندي سيلفان آدامز، الذي تبرع مؤخّراً بمبلغ 100 مليون دولار لجامعة ديفيد بن غوريون في النقب، في بئر السبع. وقد تمت الإشادة بانتظام بقمع الأصوات المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأميركية خلال الأمسية. في الأثناء، تغمرنا مناقشات سريالية في جو الحدث، كهذا الإسرائيلي الذي يسأل امرأة أمريكية: “هل أنت يهودية؟” فتجيبه: “نعم، أليس ذلك واضحاً؟”
تكريس استراتيجية إسرائيلية
لا يشكل هذا الحدث نقطة تحول في السياسة الإسرائيلية بقدر ما هو تكريس لتوجه مستمر منذ عدة سنوات. صحيح أن هذه هي المرة الأولى التي تتلقى فيها الحركات اليمينية المتطرفة دعوة رسمية من تل أبيب، لكن العلاقات بين حكومة نتنياهو وهذه الأحزاب تعززت في السنوات الأخيرة. فقد بات دعم إسرائيل حجر زاوية الفاشية الدولية الجديدة، أولئك الذين يطلق عليهم اسم “الصهاينة المعادين للسامية”. وهي فرصة بالنسبة لهذه الأحزاب لتكريس تطبيعها الذي بدأ بالفعل في المشهد السياسي المحلي. من جهتها، تُظهر تل أبيب بُعد نظر في تعزيز العلاقات مع الطبقة السياسية الصاعدة، سواء بالنسبة لحزب “التجمع الوطني”، الذي حقق نتيجة تاريخية في فرنسا مع الانتخابات التشريعية لعام 2024، أو للديمقراطيين السويديين، ثاني أكبر حزب في البلاد منذ عام 2022. كما أن تنظيم إسرائيل لهذا المؤتمر يمثل دعماً مهماً لهذه الأحزاب في سعيها إلى السلطة، في حين أن سمعتها كأحزاب معادية للسامية كانت تثني الناخبين “المعتدلين” عن اختيارها.
خلال العام الماضي وحده، التقى زعيم حزب “فوكس” الإسباني اليميني المتطرف، سانتياغو أباسكال، مع بنيامين نتنياهو في القدس في مايو/أيار 2024. كما دعا رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وهو مؤيد معروف لتل أبيب، نظيره الإسرائيلي إلى بودابست في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 – الذي سيصل هناك اليوم الأربعاء 2 أبريل/نيسان —، وذلك ردًّا على مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو الذي أشاد بـ“الوضوح الأخلاقي” لأوربان. وكان عميخاي شيكلي، وزير الشتات الذي يقود مؤتمر القدس، قد ظهر بالفعل إلى جانب جوردان بارديلا في فبراير/شباط 2025، في مؤتمر العمل السياسي المحافظ (CPAC). وعند تعيينه في يناير/كانون الثاني 2023، أضاف شيكلي “مكافحة معاداة السامية” إلى عنوان وزارته، في حين لم يكن النائب الأوروبي عن “التجمع الوطني”، الذي يحركه إيمان المعتنقين الجدد، يؤمن حتى قبل بضعة أشهر بمعاداة المؤسس التاريخي لحزب اليمين المتطرف الفرنسي جان ماري لوبان للسامية. وعلى نطاق أوسع، يشير التحالف الأوروبي من أجل إسرائيل، وهي جماعة ضغط مؤيدة لإسرائيل تأسست في عام 2004، إلى أن الأحزاب العشرين التي صوتت الأكثر لصالح إسرائيل في الدورة التشريعية السابقة للبرلمان الأوروبي (2019-2024) تنتمي جميعها إلى اليمين المتطرف والمعادين لمشروع الاتحاد الأوروبي.
ها هم قادة اليمين المتطرف يهرعون إذن إلى القدس، لدحض ما لم يكن دائماً — تاريخيًا — تناقضًا في المصطلحات. فقد أيّد معادون للسامية إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، واعتبروه فرصة للتخلص من اليهود الأوروبيين. وكان ثيودور هرتزل نفسه، صاحب فكرة الدولة القومية لليهود، يرى فيهم حلفاء موضوعيين للصهيونية.
بارديلا، نجم السهرة
على الجانب الفرنسي، تعود أولى الاتصالات المعروفة بين اليمين المتطرف الحزبي وإسرائيل إلى عام 2011، عندما زار لويس أليو مستوطنتين في الضفة الغربية. وفي ذلك الوقت، رفضت السلطات الإسرائيلية استقباله. ثم أصبح شريك مارين لوبان السابق مهندس التقارب بين “التجمع الوطني” وسيرج كلارسفيلد، وهو مؤرخ ومحام فرنسي يهودي، قُتل والده في معسكر أوشفيتز خلال الحرب العالمية الثانية، وأصبح بعدها مع زوجته بيتا “صيادي نازيين”. وكان ابنهما، أرنو كلارسفيلد، حاضراً في المؤتمر، إلى جانب النائب الفرنسي السابق وصديق رئيس الوزراء الإسرائيلي ماير حبيب. كما حضرت المؤتمر شخصيات أخرى من “التجمع الوطني” الفرنسي.

من الواضح أن جوردان بارديلا كان ضيف الشرف خلال المؤتمر، حيث تمتع بامتياز إلقاء خطاب - باللغة الفرنسية، مترجم إلى اللغة الإنكليزية - بينما شارك كلارسفيلد وحبيب في الطاولات المستديرة. افتتح أرنو كلارسفيلد مراسم التكريم، حيث خصص جزءًا كبيرًا من وقت حديثه للإشادة بحزب “التجمع الوطني”، الذي وصف دعوته إلى هذا المؤتمر بالـ “مبادرة الحكيمة للغاية”. “اليوم، أصبح حزب التجمع الوطني، الذي لم يعد يمينيا متطرفا، حزباً يعطي الأفضلية لليهود.” ويتابع: “اليوم، أصبح اليسار المتطرف هو اليمين المتطرف”. والحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة، كما جاء في رواية جورج أورويل “1984”.
قام كلارسفيلد بتوظيف تاريخ عائلته – أي كون والديه من صيادي النازيين، ومقتل ابن خالته المجنّد مع الجيش الإسرائيلي في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في كيبوتس “كفار عزة”، أثناء القتال مع حماس — لإضفاء غطاء من الشرعية على خطابه الذي يتلخّص في خطر اليسار المتطرف والإسلام المتشدد. ردد ماير حبيب نفس الرأي، مؤكدًا أنه لا ينتمي إلى الطيف السياسي الذي ينتمي إليه بارديلا، لكن “ما قاله كان قويًا جدًا. فشكرًا”. كما أعرب النائب السابق عن استيائه لسماع المتظاهرين في فرنسا يرددون شعار “من النهر إلى البحر”، الداعي إلى إنهاء الاحتلال على أرض فلسطين التاريخية بأكملها، والذي يفسره مؤيدو إسرائيل دائمًا على أنه دعوة إلى “إلقاء اليهود في البحر”، وهو، مع ذلك، مُدرج في ميثاق حزب الليكود. وأخيرًا، خاطب سيلفان آدامز زعيمَ حزب “التجمع الوطني” مباشرةً باللغة الفرنسية قائلاً: “السيد جوردان بارديلا، مرحباً بك وشكراً لك على مجيئك إلى القدس”. وتبنى الملياردير منطقًا تبسيطيًا دون حرج: “إذا كنت، مع مارين لوبان، تدافع عن حقوقنا وحريتنا، فأنا معك.”

من جانبه، استعاد جوردان بارديلا نفس المصطلحات التي يكرّرها بشكل ممل في فرنسا، حول “أجواء معاداة السامية”، و“الإسلاموية التي هي شمولية القرن الواحد والعشرين”، أو حتى استحالة تدريس تاريخ المحرقة في “أراضٍ معينة” من فرنسا. وأكد التزامه بتعريف معاداة السامية الذي قدمه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) - أي التعريف الذي يتألف من خلطها مع معاداة الصهيونية، ولم ينس التنديد بـ“الجماعات اليمينية المتطرفة” المعادية للسامية، وهو عنصر أساسي من عملية تطبيع حزب “التجمع الوطني” في السنوات الأخيرة. وفي نهاية خطابه، وقف جزء من الحضور، منبهرين، للتصفيق.
فالحضور الكرام في هذا المؤتمر منتبهون ومتحمسون، ويجودون بالتصفيق الحار. كما هم بمثابة خزان للمعجبين بالحكومة الإسرائيلية، مثل أولئك الذين يصرخون “نحن نحبك يا بيبي!” " باتجاه بنيامين نتنياهو، الذي جاء خصيصًا لهذا الحدث بعد أن افتتحه اثنان من وزرائه: وزير الشتات، ووزير الخارجية، جدعون ساعر.
“شهادة كوشير”
يعود تغير خطاب اليمين المتطرف العالمي حول معاداة السامية إلى تغير في الأولويات، بعد أن صار يستهدف اليوم بالأساس منتقدي إسرائيل — بما في ذلك أقصى اليسار — والمسلمين – ولم يكن غريباً أن نسمع أشخاصاً من بين الحاضرين يكافئون بين الإسلام والإسلاموية — والمهاجرين، بما في ذلك أولئك “من الجيل الثاني والثالث في أوروبا”، الذين يقال إنهم “أكثر تطرفا” من الوافدين الجدد. وهم يتشاركون هؤلاء الأعداء اليوم مع تل أبيب. السؤال الوحيد بالنسبة لهؤلاء الذين أعلنوا أنفسهم محاربين لأعداء للسامية هو موقفهم من إسرائيل وحكومتها. أما بالنسبة للباقي، فسوف يحظون بـ“شهادة كوشير” لتبرئة مواقفهم التي كانت فعلاً معادية للسامية، أو تناسي الجذور النازية لهذه الأحزاب التي صارت حليفة جديدة في مواجهة “معاداة السامية الجديدة”. والدليل على ذلك هو أن وجود أشخاص كانوا فعلاً معادين للسامية في قوائم حزب التجمع الوطني خلال الانتخابات التشريعية لعام 2024 لا يعني استبعاد جوردان بارديلا.
ربما شعر بعض الإسرائيليين بالصدمة من تنظيم هذا الحدث. إن حصل ذلك، فهم يمثلون أقلية ضئيلة. فالأغلبية الساحقة من السكان تؤيد بالفعل منع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة - كما رفضت المحكمة العليا الديمقراطية جداً بالإجماع طلب تجديد هذه المساعدات -، كما أنها توافق على خطة التطهير العرقي التي اقترحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. زد على ذلك أن هذه الأغلبية ليست ممتعضة من العيش في رقعة تزداد عسكرة بشكل يومي ومتزايد. قد لا يقبل هؤلاء هوية السياسيين المدعوين إلى هذا المؤتمر، لكنهم يتفقون معهم حول هوية الأعداء المشتركين الذين يتقاسمهم اليمين المتطرف الغربي مع إسرائيل: المناهضون للصهيونية، والمسلمون، والمهاجرون. في القدس، كما في جزء لا يستهان به من العالم الغربي، باتت الكراهية برنامجا سياسيا رسميا.