
15 آذار/مارس 2025. بالتوازي مع تصنيفه للثوار الحوثيين كمنظمة إرهابية، أطلق دونالد ترامب هجوما جويّا واسع النطاق على الأراضي اليمنية، تحت مسمى “راف رايدر” (الفارس الخشن“). وفي ظرف شهر ونصف، تم توجيه أكثر من 800 ضربة جوية. وكانت قضية تسريبات تطبيق”سغنال“التي تسببت في مشاركة معلومات عسكرية مع صحفي من مجلة”ذي أتلانتيك" (The Atlantic) الأمريكية، كان قد أضافه عن غير قصد مستشار الأمن الداخلي الأمريكي مايك والتز في محادثة مؤمَّنة على تطبيق المراسلة، قد أحدثت ضجة كبيرة، كاشفة عن قلّة احترافية الإدارة الأمريكية الجديدة. لكن يظلّ تأثير هذه الاستراتيجية وتداعياتها، خاصة فيما يتعلق بالمدنيين اليمنيين، مُتجاهَلا إلى حد كبير. مع ذلك، يبدو التدخل الأمريكي وكأنه يُبعد أكثر فأكثر اليمن من الحل السلمي لـنزاع يدوم منذ أكثر من عشر سنوات. وتُعتبر استراتيجية ترامب كذلك مخاطرة بالنسبة للدبلوماسية الأمريكية.
براعة الاتصال الحوثي
يُدرَج التدخل الأمريكي، المدعوم من البريطانيين والإسرائيليين، في إطار الضغط على إيران وحلفائها. ومن المفروض أنه يأتي خصيصا كإجابة على التصعيد الذي أطلقه الحوثيون في البحر الأحمر في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، مساندة لسكان غزة. أكثر من 150 هجمة شنّها الحوثيون على السفن التجارية ثم على الفرقاطات وحاملات الطائرات الغربية التي تحمي ممرات الشحن، حولت الصراع اليمني تماما. وكان قد عاد مؤقتا إلى الواجهة، حين ألحق أضراراً بالممر البحري الذي يربط بين المتوسط والمحيط الهندي، والذي تمر منه عادة ما يقارب 20% من التجارة البحرية الدولية. وجسّد هذا التحرك قدرة الحوثيين على القيام بأعمال تؤثر في الواقع الدولي.
تقنيات اتصال الحركة اليمنية البارعة ساعدت الحوثيين على التمتع بقسط من الشهرة في المنطقة. وهم حاليا الحركة المسلحة الأكثر مساندة لفلسطين. وقد وصلت مسيراتهم عدة مرات إلى الأراضي الإسرائيلية، وحتى إلى شمالها في مدينة حيفا مثلا، ما حدث في 23 نيسان/أبريل 2025، حتى وإن لم تلحق المسيرات أضرارا هذه المرة.
وأمام الدعاية الحوثية، وحتى لا يظهروا بمظهر المساند للإسرائيليين، اختار السعوديون الانسحاب إلى الخلف. لكنهم حرصوا على تأكيد نيتهم في الخروج من المستنقع اليمني. ومنذ 2022، تم التوصل إلى اتفاق ضمني بعدم الاعتداء بينهم وبين الحوثيين. وبالرغم من الضغوطات الأمريكية (لنفترض أنه سيتم تجديدها خلال زيارة دونالد ترامب للرياض في منتصف شهر أيار/مايو)، يُبقي الجيش السعودي على “مسافة أمان” بينه وبين الحوثيين، وكأنه اتعظ بعد فشل دخوله إلى اليمن في 2015.
الثمن الذي يدفعه المدنيون
منذ أول غارة جوية أمريكية في إطار عملية “راف رايدر”، تزايدت أعداد الضحايا المدنيين. وحتى لا يظهروا في موقف ضعف، يسارع الحوثيون إلى إخفاء هذه الخسائر، كمسارعتهم في الإعلان عنها عندما يتطلب الوضع ذلك، للتأكيد على عنف “العدوان الأمريكي الصهيوني”. وقد نددوا بشدة بقصف 17 نيسان/أبريل 2025 الذي أسفر عن مقتل 80 شخصاً وإصابة أكثر من 150 في شمال تهامة، ثم قصف 28 نيسان/أبريل على مركز احتجاز للمهاجرين قرب الحدود السعودية والذي أدى إلى وفاة ما لا يقل عن 68 مدنياً، معظمهم من شرق أفريقيا. كما استُهدف تجمع قبلي في أول أيام عيد الفطر في 30 آذار/مارس.
وتشكل عودة القصف المكثف، بعد ثلاث سنوات من الهدوء نتيجة انسحاب السعوديين الفعلي، مصدر قلق بالنسبة لليمنيين، خاصة في المناطق الشمالية الغربية التي يسيطر عليها الحوثيون. ففي صنعاء وفي صعدة - معقل الحركة المتمردة - وفي سهل تهامة الساحلي، حلّ الدمار. كما تهدد الهجمات المتكررة على ميناء “رأس عيسى” بالتأثير على إمدادات المساعدات الإنسانية الضرورية لبقاء 60% من اليمنيين على قيد الحياة.
وقد عبّرت الجماعات اليمنية المناهضة للحوثيين — رغم انقساماتها — عن الفرصة التي يمثلها التدخل الأمريكي. فالحكومة المُعتَرف بها دولياً، والتي تواجه طريقاً مسدوداً، ترغب عموماً في استئناف الهجوم البري. ويمكن تحديداً استخدام المواقع العسكرية لطارق صالح، ابن أخ الرئيس السابق علي عبد الله صالح، في جنوب تهامة. وهكذا قد يتم شن هجوم سريع على مدينة الحديدة، وهي الميناء الرئيسي لدخول السلع (وربما الأسلحة) إلى المناطق الحوثية ورابع أكبر مدينة في البلاد. يستعد الحوثيون إلى ذلك بحفر الخنادق وتعزيز مواقعهم الدفاعية. ففي عام 2018، أدى خطر الكارثة الإنسانية الذي قد تسببه مثل هذه المعركة إلى ضغط المجتمع الدولي على التحالف بقيادة السعودية. ووافق الأخير آنذاك على اتفاقيات ستوكهولم وتخلى عن الهجوم.
وبالعودة إلى الماضي، غالباً ما ينظر مناهضو الحوثيين إلى هذا التراجع كخطأ أطال أمد الحرب وعزز أعداءهم. وبالتالي، من وجهة نظرهم، ينبغي الآن استكمال المهمة. لكن بأي ثمن للمدنيين؟
بالإضافة إلى التدخل العسكري الأمريكي، فإن تصنيف ترامب للحوثيين كمنظمة إرهابية يضعف الاقتصاد، خاصة النظام المصرفي. فخوفاً من انقطاع التحويلات، طُلب من المؤسسات المالية فك ارتباطها بالبنك المركزي الذي يديره الحوثيون والذي نجح في استقرار العملة والحد من التضخم. كما أن التدفقات التجارية وعمل المنظمات الإنسانية معرضان أيضاً لتعليق محتمل. فتدخل المنظمات غير الحكومية الدولية في المناطق الحوثية، الذي يتطلب مثلاً التنسيق مع الهلال الأحمر اليمني، قد يُعتبر دعماً لجماعة إرهابية بموجب القانون الأمريكي.
فخ لا يرحم
على عكس تهديدات دونالد ترامب المتبجحة على وسائل التواصل الاجتماعي، يبدو أن قادة الحوثيين لا يزالون بعيدين عن متناول القصف. فرغم الاعتراف بمقتل يحيى الحمران، المسؤول الحوثي عن الأمن في صعدة، في آخر نيسان/أبريل 2025، تبقى الشائعات حول وفاة محمد علي الحوثي، الشخصية الكاريزماتية ورئيس اللجنة الثورية، بحاجة إلى تأكيد. وقد كثّف زعيم الحركة عبد الملك الحوثي ظهوره في مقاطع فيديو خلال الأسابيع الأخيرة، مهدداً أعداءه، مع الحرص على تبني خطاب قومي يخفي علاقة الحركة بإيران والمنطق الطائفي المميز لممارسته السلطة. كما يستخدم الرجل في خطاباته حججاً تستند إلى القانون الدولي وضرورة حماية الفلسطينيين من الإبادة الجماعية. وبينما يشير إلى ضعف ردّ العالم العربي على إسرائيل، حرص في الوقت نفسه على إظهار العمليات العسكرية الحوثية كردود فعل على هجمات الجيش الإسرائيلي، ملتزماً بالتالي بفترات الهدنة في غزة.
يبدو أن المشاة الحوثيين يموتون بأعداد كبيرة تحت القنابل الأمريكية، لكن قدرة الحركة اليمنية على إلحاق الضرر لا تزال قائمة. فقد تعرضت حاملة الطائرات “هاري ترومان” لهجمات متكررة. ولا تزال الأراضي الإسرائيلية، رغم حمايتها بسلسلة من أنظمة الأمن، مستهدفة، خاصة من خلال إطلاق صواريخ جديدة تسمى “فلسطين-2”. علاوة على ذلك، تطلب الأمر تدخل البحرية الفرنسية في 18 نيسان/أبريل 2025 لإسقاط طائرة مسيرة مسلحة.
لهذا الالتزام العسكري تكلفة ليست بالهينة. فقد أسقط الحوثيون ستة عشر طائرة مسيرة أمريكية من طراز “ريبر” (تبلغ قيمة الواحدة منها حسب المصادر إما 100 مليون أو 30 مليون دولار) منذ تدخلهم في البحر الأحمر في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، منها سبع منذ 15 آذار/مارس 2025. والكلفة ليست مالية فحسب، بل استراتيجية أيضاً. فهناك حاملتا طائرات أمريكيتان من أصل 11 تشاركان في العمليات في المنطقة. وبالنسبة للجيش الأمريكي، يستنزف التدخل ضد الحوثيين معدات متطورة للغاية ليس من السهل استبدالها، وقد تُفتقد في أماكن أخرى.
كما تم نقل صواريخ متمركزة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير بتاريخ 8 نيسان/أبريل 2025، إلى البحر الأحمر، مما قد يضعف مواقع الدفاع عن تايوان. وتشير الاتهامات التي وجهتها الولايات المتحدة إلى الصين، المشتبه في تقديمها معلومات حساسة للحوثيين عبر أقمار شركة “تشانغ غوانغ” الصناعية، إلى مدى إحكام الفخ الذي نصبه الحوثيون والذي تجاوز الآن الإطار الإقليمي. وتعيد الصين تقييم مكانتها في الشرق الأوسط، وقد تشكل الأزمة اليمنية رافعة لها. ففي الواقع، وبينما تمر معظم المنتجات المصنَّعة في المصانع الصينية المتجهة إلى أوروبا عبر البحر الأحمر، فقد نجت سفنها من هجمات الحوثيين منذ عام 2023.
روسيا تتربّص
في الوقت نفسه، يبدو أن روسيا تزداد انخراطاً شيئا فشيئا في الملف. وكانت روسيا، على غرار الصين، قد التزمت بالبقاء بعيداً عن المسألة اليمنية، خصوصا لأنه كان عليها التمسك بعلاقات ودية مع الممملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، المنخرطتين عسكرياً ضدّ الحوثيين. لذلك كان اتخاذ موقف محايد منطقياً. غير أن تحوّلاً ما يبدو وكأنه طرأ في الأشهر الأخيرة. فالسعوديون أنفسهم يسعون إلى تهدئة العلاقات مع إيران من أجل تأكيد دورهم كوسيط. إذ قام وزير الدفاع خالد بن سلمان بزيارة طهران منتصف نيسان/أبريل 2025، حيث التقى بالمرشد علي خامنئي. وهكذا بالنسبة لروسيا، لم يعد يعني التدخّل في اللعبة اليمنية بالضرورة إفساد العلاقات مع السعوديين.
منذ ذلك الحين، تضاعفت المبادرات السرية. ففي نهاية عام 2024، توجه وفد حوثي رفيع المستوى إلى موسكو. وفي الوقت نفسه، تم الكشف عن شبكات لتجنيد يمنيين أرسلتهم روسيا إلى جبهة القتال في أوكرانيا. وقد شملت هذه الشبكات عدة مئات من المقاتلين، قدّم بعضهم شهاداته عند عودتهم1. كما لاحظ خبراء الأسلحة في الأمم المتحدة استخدام الحوثيين لمعدّات روسية جديدة. وأخيراً، وفقاً لبيانات من مصادر مفتوحة حللتها منصة “بيلينغكات” Bellingcat الاستقصائية في 18 كانون الأول/ديسمبر 2024، فإن قمحاً أوكرانياً استولت عليه روسيا في منطقة القرم قد تم تفريغه في الحديدة. وتم إعادة بيعه عبر إيران، متجاوزاً رقابة الأمم المتحدة. توضح هذه العناصر كيف أن الحوثيين، الذين دخلوا في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، برزوا كرافعة تستخدمها قوى مختلفة، بتكلفة رخيصة، لزعزعة التوازنات العالمية. وقد تعب الكثير من اليمنيين من هذه اللعبة التي تتجاوز سيطرتهم.
1كيرستن نيب وصفية مهدي، “هل جندت روسيا يمنيين قسرًا للقتال في أوكرانيا؟”، قناة “دويتشه فيله”، 8 كانون الأول/ديسمبر 2024