
على مدار الشهور الماضية، شنت إسرائيل حملات دبلوماسية وإعلامية على مصر، متهمة إياها بانتهاك اتفاقية كامب ديفيد، وذلك بنشر قوات في سيناء وإقامة بنية تحتية عسكرية متمثلة في تطوير مطار وميناء العريش وبعض المنشآت العسكرية في سيناء، قالت إسرائيل إنه غير متفق عليها. وهي نفس الفترة التي زادت فيها كميات الغاز التي تصدرها تل أبيب إلى القاهرة عدة مرات (زيادة بـ20 % في أكتوبر/تشرين الأول 2024، فـ 10% بشهر نوفمبر/تشرين الثاني و17 % في يناير/كانون الثاني 2025)، عبر اتفاقات متتالية.
هذه هي طبيعة العلاقة بين مصر وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ودفع الرئيس السادات لمصر تحت النفوذ الأمريكي، وإلزام القاهرة باستراتيجيات الولايات المتحدة كالسلام مع إسرائيل، التي ينظر إليها الغالبية الساحقة من الشعب المصري على أنها العدو الأول لهم ولبلدهم، والابتعاد عن المشاريع العربية المناهضة للولايات المتحدة، ومكافحة الشيوعية سابقا وغيرها.
وبينما كان النظام يحشد الآلاف من المواطنين للتظاهر على الحدود لرفض خطة إسرائيل تهجير أهل غزة، كانت نيابة أمن الدولة تُجدد حبس عشرات من الشباب بتهمة التضامن مع غزة ضد الإبادة الإسرائيلية. وعلى مدار عقود طويلة، ربطت علاقة مصالح وكراهية نظم الحكم المصرية بإسرائيل. حيث تولت مجموعة ضيقة من رجال الحكم من المسؤولين والسياسيين ورجال الأعمال التعامل مع إسرائيل، سياسياً وأمنياً واقتصادياً. وقد استغلت الأنظمة المصرية المتعاقبة هذا الوضع في ربح مكاسب من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وذلك بتسويق أنهم النظام الحامي لإسرائيل من كراهية وعداء الشعب الأكبر عدداً عربياً. وعلى الاتجاه المعاكس، فالنظام يتعامل مع حالة الغضب الشعبي هذه بمقياس حساس، حيث تزداد العلاقة مع إسرائيل حميمية كلما كان الوضع هادئا داخلياً والأوضاع الإقليمية أكثر هدوء، بينما يقوم بالابتعاد وأخذ خطوات للخلف في علاقته مع إسرائيل كلما ازداد الغضب الشعبي نتيجة الأحداث الإقليمية. كما يلجأ في بعض الأحيان -مثلما هو الحال حالياً -إلى قنوات آمنة لتفريغ الغضب والاحتقان الشعبي، وذلك بتنظيم مظاهرات عبر أذرعها الأمنية وتنظيمات سياسية مهندسة أمنياً، يوزع فيها رجال النظام الشعارات واللافتات المسموح بها، بينما تمنع وتقمع وتعتقل المظاهرات الأخرى خوفاً من تطورها وانتشارها شعبياً مما قد يهدد أمن النظام، وهو ما يدفع الكثيرين بالتضامن عبر القنوات الآمنة.
ومنذ عام 2005، عقب الانسحاب الإسرائيلي من غزة، مثّل القطاع أحد أهم دوائر العلاقات بين مصر وإسرائيل. فهو يُمثل أخطر وأهم بقعة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ليس له حدود بعيدة عن إسرائيل إلا نحو مصر، وكان معبر رفح الموجود في هذه الحدود هو البوابة الوحيدة للقطاع على العالم.
النظام “الأقوى والأقرب” من تل أبيب
ورغم التعقيد التاريخي لهذه العلاقة، كان نظام السيسي أكثر تعقيداً من أسلافه، نظراً لظروف وكيفية وصوله إلى السلطة والأحداث والتقلبات الكبيرة التي حولت شكل المنطقة والمناخ حولها عدة مرات. فإسرائيل كانت أحد أهم داعمي السيسي والمدافعين عنه عقب الإطاحة بنظام الرئيس الإسلامي محمد مرسي. بل وعمل نتنياهو وكامل طاقمه كمكتب للعلاقات العامة حول العالم1، وذلك لمواجهة رؤية العالم لما حدث على أنه انقلاب عسكري على رئيس منتخب. وقد وصل الأمر بالوزير جلعاد أردان أن اتهم حكومة جنوب أفريقيا بأن موقفها الرافض لتحركات السيسي يُعد تشجيعا على الإرهاب.
وكما كان ذلك مهماً وجوهرياً للنظام المصري العسكري الجديد القادم بقوة للاستحواذ على السلطة وسحق حكم الإخوان ثم ثوار يناير/كانون الثاني 2011 وما فتحته من تطلعات ديمقراطية للشعب، كان ذلك مهماً لإسرائيل لإنهاء خطورة تولي نظام إسلامي حكم الدولة العربية التي تعد أكبر عدد من السكان، وكذلك دفع الجيش المصري في مستنقع السياسة والحكم و“البيزنس”، كما قيل صراحة من الجنرالات ورؤساء الاستخبارات الإسرائيلية في ذلك الوقت.2
وخلال سنوات حكم مبارك ثم السيسي تم استخدام قطاع غزة كأهم كروت اللعب السياسي مع تل أبيب وواشنطن. فبعد سنوات من الضغط المصري على القطاع واستخدام إغلاق المعبر كإجراء عقابي للغزيين وفصائل المقاومة بينهم في مكاسب سياسية للنظام، طورت أجهزة المخابرات المصرية في عهد السيسي علاقاتها مع هذه الفصائل بل وتعاونا في الحرب على التنظيمات الإرهابية المسلحة في سيناء. كما لعبت المخابرات المصرية أدواراً هامة لاحقاً في التهدئة ووقف الاشتباك العسكري بين فصائل المقاومة وإسرائيل، وهو ما ظهر جلياً في الرعاية المصرية لوقف إطلاق النار عام 2021 بعد معركة “سيف القدس”. وبهذا أصبح النظام المصري لاعباً أساسياً في العلاقة بين غزة وتل أبيب.
كما لجأ السيسي في سنواته الأولى إلى إسرائيل لمساعدته في حربه مع التنظيمات الإرهابية المسلحة في سيناء، وبالمقابل تم تأمين إسرائيل من الهجمات التي انطلقت من هناك، ليكون ذلك جزءًا من تعاون أمني هو الأقوى والأقرب في التاريخ وفق قول السيسي نفسه في مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” على قناة CBS الأمريكية، طلب السيسي لاحقاً عدم بثها3.
وتظهر أهمية مستوى هذا التعاون بوضوح في أمرين، أولهما موافقة إسرائيل على تعديل اتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين البلدين عدة مرات (مثلا في عام 2021) للسماح بدخول القوات المصرية أكثر إلى شمال سيناء، والأمر الآخر هو الضربات الجوية التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية في سيناء ضد التنظيمات المسلحة، والتي قالت نيويورك تايمز في تقرير لها نُشر في فبراير/شباط 2018 إنها تخطت 100 ضربة، وتمت بشكل سري بتنسيق عال وموافقة من السيسي شخصياً4. وقد بدأت هذه العمليات بعد تفجير طائرة ركاب روسية في سيناء في أكتوبر/تشرين الأول 2015، ما أسفر عن مقتل 224 شخصًا.
إلا أن كل هذا ذهب أدراج الرياح بعد اندلاع عملية الإبادة الجماعية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدعم أمريكي مطلق كسرت به تل أبيب كل الحدود السياسية والعسكرية والإنسانية، ولم يعد للوساطة ولا الدبلوماسية مكان. واحتلت إسرائيل القطاع وسيطرت على الحدود وفصلت غزة عن مصر، ولم يعد للقاهرة أية كروت ضغط لا على إسرائيل ولا على غزة.
مفارقات المؤسسة العسكرية
رغم أهمية هذا التعاون في فترة حكم السيسي، ظل الجانب العسكري عند حدود أضيق. فكما جمعت المصالح إسرائيل بأعلى نظام الحكم في مصر رغم الرفض الشعبي، جمعت المصالح والضغوط قيادات المؤسسة العسكرية بتفاهمات معها رغم الكراهية والعداء من جانب الغالبية المطلقة من أفراد الجيش، التي كانت تضغط على قيادات المؤسسة لتحجيم نطاق العلاقة في أضيق الحدود الممكنة مع من يرونه “العدو الاستراتيجي”. فإسرائيل في المخيلة الشعبية هي العدو الذي احتل الأرض المصرية وقصف المدارس والمصانع وارتكب العديد من المجازر بحق أبنائهم، وقام بدفن الأسرى المصريين أحياء خلال الحروب المتتالية منذ سنة 1948.
وربما يعد الجانب العسكري من أكثر الجوانب الشائكة والرمادية في العلاقة بين مصر وإسرائيل، فبفضل هذه العلاقة استفادت المؤسسة العسكرية بأكثر من 60 مليار دولار من المعونات العسكرية الأمريكية منذ كامب ديفد، البالغة 1.3 مليار دولار سنوياً. في نفس الوقت، حافظت الولايات المتحدة على التفوق المطلق لإسرائيل عسكرياً على جميع دول الشرق الأوسط بما فيها مصر، وذلك التفوق ليس فقط بإمداد تل أبيب بأسلحة أحدث مما يمتلكونها، ولكن بإجبار الدول الأخرى على عدم الحصول على أسلحة من مصادر أخرى تهدد هذه السيادة. وهو ما تجلى في الضغوط الأمريكية التي أجبرت مصر على التراجع عن صفقتين مع روسيا للحصول على طائرات سوخوي 35 ونظام الدفاع الجوي أس 4005، وهما الصفقتان اللتان كانتا تهددان السيادة الجوية لإسرائيل في الشرق الأوسط، وذلك بعد رفض الولايات المتحدة تزويد أي دولة عربية لمقاتلاتها الشبحية اف 35 التي تتسيد بها إسرائيل أجواء المنطقة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، رغم تطبيعها العلاقات مع إسرائيل في صيف 2020.
لذلك، لجأت مصر في كثير من الأحيان إلى محاولات سد هذه الفجوة بتشكيلات أنظمة الدفاع الجوي والمقاتلات مثل نظام اس 300 وطائرات ميج الروسية ومحاولات الحصول على طائرات صينية ذات صواريخ جو-جو بعيدة المدى، وغيرها من التوليفات الجوية والأرضية التي يمكن أن تمثل إغراقاً لأسراب إسرائيل، ومحاولات لسد الفجوة بين القدرات المصرية والسيادة الجوية الإسرائيلية. وقد شهد الجيش المصري خلال سنوات السيسي عملية تسلُح ضخمة، ربما لم يشهد مثلها من قبل، لا من حيث الكمية ولا من حيث تنوع مصادره، شملت أنظمة دفاع جوي وغواصات ألمانية وحاملات طائرات وفرقاطات وأسراب من الطائرات والمروحيات والمدمرات الفرنسية والروسية، بجانب المئات من الدبابات والمدافع، وتزايد في التعاون العسكري والتسليح الشرقي (روسيا والصين)، مثل طائرات ميج 29 الروسية، ومروحيات كا 52، وطائرات مسيرة صينية. والجدير بالملاحظة أن هذا التسليح هو تسليح حروب تقليدية ليس من الوارد استخدامه إلا شرقاً. ورغم أن نسبة هذا المبلغ انخفضت مقارنة بحجم الإنفاق العسكري المصري، إلا أنه يظل نسبة مهمة، حيث انخفض من قرابة ربع ميزانية المؤسسة إلى ما يقرب من 12% منها حالياً، وذلك وفق معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
ورقة التهجير
في هذا السياق، تأتي الضغوطات الإسرائيلية على مصر بشأن ملف تهجير فلسطينيي غزة نحو صحراء مصر. فبعد السابع من أكتوبر، وجدت إسرائيل الفرصة سانحة لتنفيذ مخطط تهجير سكان غزة نحو الأراضي المصرية في سيناء، وهي خطة تعود لخمسينيات القرن الماضي. وبذلك تكون قد تخلصت من أهم بقع المقاومة الفلسطينية مما سيسهل عليها الأمر للاستيلاء على فلسطين التاريخية بأكملها. إلا أن هذه الرغبة اصطدمت برفض مصري قاطع لم تنجح المحاولات الإسرائيلية والأمريكية في زعزعته. منذ اللحظة الأولى، أدركت مصر أن نزوح الفلسطينيين لن يكون كما حدث سابقاً خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع عامي 2005 و2008، عندما عبر مئات الآلاف من الفلسطينيين نحو الأراضي المصرية هرباً من القصف الإسرائيلي، ثم عادوا مرة أخرى بعد وقف العدوان. فرغبة ونية إسرائيل احتلال واستيطان غزة واضحة تماماً هذه المرة، كما يدعو وزراء حكومة نتنياهو علانية.
رأت مصر في تهجير أكثر من مليوني فلسطيني — بينهم أكثر من 10 آلاف مقاتل — كارثة أمنية عليها من عدة نواحي، أولها الاحتمالية العالية لتكوين بؤر مقاومة في سيناء تنطلق منها عمليات مقاومة نحو أراضيهم المحتلة، وهو ما سيجلب القصف الإسرائيلي نحو الأراضي المصرية، ليتكرر سيناريو الأردن في ستينيات القرن الماضي، والذي أدى في نهاية الأمر إلى قيام الجيش الأردني بحرب ضد المجموعات الفلسطينية، فيما عُرف بـ“أيلول الأسود”. وهذا الأمر سيحدث أثراً سيئاً عميقاً في مصر إذا توجهت فوهات المدافع نحو الفلسطينيين.
ومن ناحية أخرى، فإنه هناك خطورة كبيرة على الأمن الداخلي المصري من اتصال بعض المعارضة المصرية وخاصة الإسلامية التي كان لها تجربة حقيقية في العنف بعشرة آلاف مقاتل بخبرات قتالية وعسكرية عالية جداً اكتسبوها من عام ونصف من الاشتباك مع الجيش الإسرائيلي. لذلك رأت القاهرة أن أي مكاسب مالية أو تهديدات اقتصادية أمريكية لا تمثل شيئاً أمام المخاطر التي ستجنيها هذه الخطة.
وعليه، فإن النظر إلى الانتقادات الدائمة والتحذيرات الإسرائيلية من القوة العسكرية المصرية وعمليات رصدها، حتى تصبح آخر ما يقوله ويحذر منه رئيس أركان إسرائيل قبل خروجه من المنصب، يجب أن يُقرأ في سياق حديثه لاستراتيجية إسرائيل في المنطقة، والضغوطات الإسرائيلية على مصر لتحقيق سيناريو التهجير، أو كما باتت تسميه “خطة ترامب”. فكأننا أمام عملية استعداد دائم وتأجيل لأبعد حد ممكن لمواجهة يراها الطرفان شبه مؤكدة.
1أحمد عابدين، “صهيون على عرش فرعون (3)”، مدونة موقع قناة الجزيرة، 20 فبراير/شباط 2018.
2الجنرال رؤفين بيدهتسور، رئيس هيئة أركان سلاح الجو الإسرائيلي سابقاً: “حتى في أكثر الأحلام وردية، لم يكن لإسرائيل ان تتوقع حدوث هذه النتيجة. فاندفاع الجيش المصري نحو السياسة على هذا النحو غير المسبوق يعني عدم إحداث أي تغيير على موازين القوى القائم بيننا وبين العرب في المستقبل ولفترة طويلة”. عاموس غلبوع، رئيس لواء الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية السابق: “يتوجب على الولايات المتحدة توظيف تأثيرها القوى على قادة الجيش المصري وإقناعهم بمواصلة القيام بنفس الدور الذي كان يقوم به العسكر في تركيا، بحيث يضمن الجيش عدم صعود الجهات المتطرفة للحكم في القاهرة، حيث أن هذا يعتبر مصلحة إسرائيلية وأمريكية”. أما رئيس هيئة أركان الجيش الأسبق دان حالوتس فقال: “رغم سعادتنا بما تم، إلا أن أهم ما حدث حتى الآن هو تحييد الجيش المصري وإضعاف قوته عبر شغله في الواقع السياسي الداخلي لسنين طويلة في المستقبل”.
3“الرئيس المصري السيسي ينفي إصداره أوامر بالمذبحة في مقابلة حاولت حكومته لاحقاً منع بثها”، قناة CBS الأمريكية، 6 يناير/كانون الثاني 2019.
4“تحالف سري: إسرائيل تنفذ غارات جوية في مصر بموافقة القاهرة”، صحيفة “نيويورك تايمز”، 3 فبراير/شباط 2018.
5فيفيان سلام، “الولايات المتحدة تهدد مصر بعقوبات بسبب صفقة أسلحة روسية”، صحيفة “وول ستريت جورنال”، 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.