عزمي بشارة. العالم العربي في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية

سنحت لسارة قريرة في الدوحة فرصة لقاء المفكر العربي ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عزمي بشارة. ودون أن يتم التحضير لمقابلة، وافق الأخير على الإجابة عن بعض الأسئلة التي تدور حول الحرب على غزة، ومستقبل الحركة الفلسطينية، وكذلك الوضع في سوريا ومكانة اليهود في حركة التضامن مع غزة.

رجل يجلس مرتديًا بدلة رمادية، يبدو عليه التفكير والاهتمام.
8 أبريل/نيسان 2025. عزمي بشارة في استوديو شبكة التلفزيون العربي (صورة شاشة).

سارة قريرة: بعد اجتماع بكين وخلال المؤتمر الذي جرى هنا في الدوحة في شهر فبراير/شباط 2025، طُرحت فكرة إعادة صياغة منظمة التحرير الفلسطينية لكي تكون أكثر تمثيلاً لجميع الفصائل. قوبل ذلك برفض قاطع من السلطة الفلسطينية. إلى جانب هذه المبادرات، ما هو مجال المناورة اليوم بالنسبة للمقاومة الفلسطينية، إن كان على الصعيد السياسي أو على صعيد المقاومة المسلحة؟

عزمي بشارة: الظرف معقد للإجابة على هذا السؤال، لأن المرحلة ليست مرحلة التفكير في استراتيجيات المدى البعيد. فنحن عاطفيًّا وعقليًّا مُستهلكون في موضوع وقف هذه الإبادة، ووقف هذه الحرب. صارت الظروف تتشكل من جديد، ما يتطلب فعلاً التفكير في استراتيجيات جديدة. لكن هذا التفكير – برأيي — لا يكون في مركز أبحاث، بل يجب أن يكون في حركات سياسية. يمكن للباحث أو المثقف أن يطرح استراتيجيات كأفكار، لكن إذا لم يكن هناك من ينفذها، فستبقى سناريوهات نظرية.

من الصعب أن تتفق الحركات السياسية الفلسطينية اليوم على استراتيجية وطنية موحدة — رغم كونها مطلوبة. هذا الأمر يحتاج إلى قيادة وطنية، بيد أن القيادة الفلسطينية منقسمة بشكل عميق جدًّا. فالخلاف لا يقتصر على تفاصيل، وإنما هو خلاف جوهري. ما لم تنته الحرب في غزة وتتضح الخارطة السياسية الفلسطينية، من الصعب الحديث عن طبيعة القيادة الفلسطينية التي يتعلق بها نوع الاستراتيجيات. من دون ذلك، يبقى الحديث في هذا الموضوع نظريا. يمكنني أن أجيب كمثقف لو كانت هذه القيادة الوطنية موجودة ولو كان لي أن أعرف طبيعتها وما تقدر على فعله.

فشل استراتيجي مزدوج

القيادة الفلسطينية الحالية ترفض الاعتراف بفشل ما يمكن أن نسميه استراتيجيتها المتعلقة بالتفاوض في ظل موازين القوى الحالي، من دون إلزام إسرائيل بمبادئ أساسية يجري حولها التفاوض. وقد انتهينا إلى توسيع الاستيطان في الضفة الغربية وتطلعات ومطامع إسرائيلية حتى بضم مناطق من الضفة الغربية. وبالتالي، فإن هذه القيادة بطبيعة الحال لن تطرح بديلاً. بل أظن أن استراتيجيتها الأساسية هي كيفية البقاء كسلطة في ظل الاحتلال الإسرائيلي. وهي مستعدة لفعل كل ما يتطلبه هذا البقاء. وهذه ليست استراتيجية حركة وطنية.

بالنسبة للشق الثاني — أي “حماس” —، للأسف الشديد، لم تحكم أي استراتيجية معقولة عملية السابع من أكتوبر، التي هي فعلاً عملية مقاومة — والحق بالمقاومة محفوظ، حتى وإن كان المرء لا يتفق إنسانيا مع بعض الأعمال التي ارتُكبت خلال هذه العملية. من المهم أن نتذكّر دائماً أن ما تقوم به إسرائيل الآن في غزة وفي الضفة لا علاقة له بالسابع من أكتوبر، بل أصبح له ديناميكيته الخاصة المتعلقة بخطط إسرائيلية قائمة. فعلاً، يجب دائماً التذكير بأمرين: الأول هو أن ما جرى في السابع من أكتوبر ناجم عن حصار واحتلال، والثاني أن ما تقوم به إسرائيل مرتبط باستراتيجيات إسرائيلية للتخلص من الفلسطينيين — جسديا في غزة، والتخلص منهم كشعب في الضفة، أي التخلص من فكرة الدولة الفلسطينية.

الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ومع حركة “حماس” يواجه خطر إبادة حقيقية، وأعتقد أن “حماس” الآن ليست مشغولة بخطط تحرير أو إقامة الدولة، بل مشغولة بوقف الحرب وببقائها. أعتقد أن الحركة نفسها فوجئت من حجم تواطؤ الأنظمة العربية. هذه الظروف تحتاج إلى تفكير آخر.

جزء من العالم العربي كان ينتظر أن تقضي إسرائيل على “حماس” وأن تخلّصه من المقاومة الفلسطينية، ويجب وضع هذا العامل في الاعتبار. فلو كان هناك موقف رسمي عربي معقول بالحد الأدنى، لكان ممكناً تحويل ما حصل في غزة إلى منطلق لطرح قضية فلسطين بالمجمل على الطاولة من جديد، وإجبار إسرائيل — بدعوى أنها استخدمت كل ما يمكن استخدامه من قوة — على الذهاب إلى حلّ.

كثيرة هي حركات التحرر الوطني في العالم – بل أغلبها – التي هُزمت عسكريا. لكن المستعمِر يقتنع بمرحلة ما أنه استخدم كل ما يمكنه من قوة — مثل فرنسا في الجزائر —، ولا يمكنه الذهاب إلى أبعد، وبالتالي يجب إنهاء هذا الوضع. أي أنه لو كان هناك موقفاً عربيًّا دوليًّا يضع إسرائيل أمام هذا السؤال، لما كانت الخسارة العسكرية بالضرورة نهاية الطريق. لكن طالما يوجد وضع عربي دولي متواطئ مع إسرائيل، فهي لن تقتنع أنها فعلت كل ما يمكنها فعله والآن عليها أن تصل إلى حلّ. فنحن نرى تراجعات عربية أمام تصعيد القوة وزيادة القسوة والشراسة الإسرائيلية، ما يجعل الأخيرة ترى أن منطق القوة يجدي نفعاً.

جمود الأنظمة العربية

س.ق.: سبق وقلت إنه كان بإمكان دول عربية أن توقف حمّام الدم والإبادة في غزة..

ع.ب.: برأيي نعم، على الأقل الدول التي تربطها علاقات سلام مع إسرائيل. مجرد التلويح بوقف معاهدات السلام كان سيوقف الحرب، وتحديداً مصر.

س.ق.: رغم تبعيتها الاقتصادية والعسكرية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية؟

ع.ب.: هل سيؤدي ذلك بالولايات المتحدة أن تتخلى عن مصر؟ وعندها يجب طرح السؤال الأكبر: هل تُترك مصر وحيدة عربيًّا؟ فالقضية ليست فقط قضية مصر، التي لا تتحمل وحدها مسؤولية عدم رغبتها في اتخاذ هذا القرار. لو كان هناك دعم عربي، لن يتخلى الغرب عن مصر حتى يأتي الإخوان المسلمون لحكمها. أعتقد أن النظام المصري مازال مصرًّا على اللعب بالقواعد التي وُضعت في كامب ديفيد، ولا يرى أن ما حصل في غزة تغيير جوهري.

لما دخلت إسرائيل غزة بعد السابع من أكتوبر، كانت هناك هستيريا شاملة تطلب القضاء على غزة، وكان لهذه الحالة أن تستمر شهراً أو شهرين، أو ثلاثة أشهر. لكن إدراك إسرائيل أنه لن يكون هناك رد عربي، وأن هناك تواطؤا أمريكيا وحتى غربيًّا إلى حد بعيد، شجعها على الاستمرار. بل إن سيناريوهات كانت تحلم بها — مثل التهجير — يمكن أن تصبح واقعية. أي أن هناك ديناميكية نشأت خلال الحرب التي لم يكن من الضروري أن تتطور بهذا الشكل. ما حصل ليس حتمية تاريخية، بل ديناميكيات لها علاقة بسلوك البشر (human agency)، أي طريقة التعامل مع هذه الحرب.

س.ق.: هل يبدو لك سيناريو تهجير 2,2 مليون فلسطيني من غزة واقعيًّا، رغم الرفض المصري — الذي لا ينبع عن تضامن مع الفلسطينيين بل لأسباب خاصة بالنظام؟

ع.ب.: هناك عدة سيناريوهات تتوقف – مرة أخرى — على الرد المصري والرد العربي، كأن تجعل إسرائيل موضوع التهجير راهناً ومطروحاً إلى درجة تجعل ما دونه يبدو وكأنه تنازل من طرفها. أي إذا تنازلت فجأة عن التهجير وبدأت تقول إن على نصف سكان قطاع غزة أن يتركزوا في ثلث مساحته، سيبدو ذلك نوعاً من “الاعتدال”.

هناك سيناريوهات أخرى، أحدها هي أن تكون ظروف الحياة صعبة والعيش غير ممكن إلى درجة أنه، حين تنتهي الحرب وتبدأ عملية إعادة إعمار — إذا بدأت —، تبدأ كذلك عملية هجرة شاملة، حتى وإن شملت “فقط” مليون شخص، ممن سيهاجرون بفضل معارفهم، أو لأن بعض الدول ستفتح أبوابها بدون أن تكون هناك سياسة منظمة. فجعل الحياة شبه مستحيلة في غزة سيؤدي بالتأكيد إلى خروج الناس. وقد لاحظنا في بداية الحرب كيف كانت السلطات المصرية — أو من يمثلها على المعبر الحدودي — تتقاضى أموالاً للسماح للفلسطينيين بالخروج، وكان من معه خمسة أو عشرة آلاف دولار يخرج. فإسرائيل تأمل هذا، وهي لا تخسر إطلاقاً عندما تجعل الحياة مستحيلة في غزة. لكن التهجير الجماعي مستحيل طبعاً بدون تواطؤ عربي أو مصري. وعلى فكرة، بدأت إسرائيل في التفكير في خطط وأساليب لدفع فلسطينيي الضفة كذلك إلى الهجرة.

ثنائية القومية، واقع لا مفرّ منه

س.ق.: نعلم اليوم أن حلّ الدولتين بات غير واقعي، وقد دعوتَ في ما مضى لحل دولة واحدة ديمقراطية — وهو حلّ تطرقت إليه أدبيات حركة “فتح” في سبعينيات القرن الماضي —، كما نجد أصواتاً فلسطينية أخرى تنادي اليوم بنفس الحل، منها الدكتور مصطفى البرغوثي مثلا. في نفس الوقت، يبدو حل الدولة الواحدة طوبويا أمام مستوى الفاشية الذي وصل إليه المجتمع الإسرائيلي، في حين أن أغلب دول العالم لا تزال متشبثة – على الأقل رسميا — بحل الدولتين. هل ترى هدفاً مؤقتا يمكن وضعه اليوم، لا هو حل الدولتين ولا حل الدولة الواحدة؟

ع.ب.: في الحقيقة، لا وجود لهذا الهدف. يجب ألا تكون هناك خيارات أمام إسرائيل غير زوال الاحتلال، وهو ممكن بإحدى هذين الطريقتين. أعتقد أيضاً أن التفكير بأن الإسرائيليين سيتنازلون عن الطابع الصهيوني لإسرائيل وأنهم سيقبلون بعودة اللاجئين لكي يعيشوا كمواطنين متساوي الحقوق في دولة ليس لها طابع قومي، أمر مستحيل، لأن ذلك يعني بالنسبة لهم زوال إسرائيل، بينما أن الدولة الفلسطينية لا تعني ذلك – على الأقل في صورة حل الدولتين.

كما قلتِ، بعض الحركات مثل حركة “فتح” طرحت الأمر سجاليًّا: سيعيش بمساواة في فلسطين، التي سنحررها بقوة السلاح، اليهود وغيرهم. وسموها دولة ديمقراطية علمانية. لكن كان ذلك في ظل استراتيجية الكفاح المسلح، الذي ثبت أنه لم يكن ممكناً إطلاقاً. وأعتقد أن الكفاح المسلح لم يكن استراتيجية حقيقية، بقدر ما كان استعادة للهوية الفلسطينية في مقاومة إسرائيل.

تشكّلت عبر الزمن في فلسطين قوميتان أو شعبان، ولم يعد بالإمكان تجاهل ذلك، حتى لو تحدثنا عن دولة واحدة أو عن العيش المشترك، مع الاعتراف بالحقوق الفردية الخ. لم يعد ممكناً تجاهل وجود لغة عبرية، وثقافة عبرية، وشعب إسرائيلي مختلف عن باقي اليهود في العالم، ومختلف عن الفلسطينيين. ومن يتجاهل هذا، فهو يتناساه. كذلك، لم يتنازل الفلسطينيون عن هويتهم العربية الفلسطينية. فالحديث عن دولة ديمقراطية علمانية بدون هويات وطنية، هو كلام لا يقبل به الفلسطيني كذلك. لذلك، أي حديث عن دولة واحدة يجب أن يعترف بوجود قوميتين فيها، ولغتين وليس لغة واحدة – ماذا يمكن أن تكون؟ الإنكليزية؟ لا هم سيقبلون فقط باللغة العربية ولا الفلسطيني سيقبل باللغة العبرية فقط.

فحل الدولة الواحدة كما حل الدولتين كلاهما يتضمن فكرة ثنائية القومية. لكن هذه أفكار وليست استراتيجيات، لأن الاستراتيجيات يجب أن تضعها قوى سياسية منظمة. ماذا ستفعل إسرائيل بعد غزة؟ يمكن أن تلقي قنبلة نووية على الشعب الفلسطيني، لم يبق غير ذلك. إذا مرت كل هذه القسوة وكل هذا الدمار دون أن نتراجع، ودون أن تجد إسرائيل من يطبع معها من دون حل لقضية فلسطين، ستضطر أن تواجه موضوع الفلسطيني. عندها نتحدث عن الحلول.

أما الآن، فلسنا أمام وضع يجد فيه الطرف الآخر نفسه مضطرًّا لحل قضية فلسطين. لماذا؟ لأن هناك دولاً عربية مستعدة أن تطبّع معه من دون حل لقضية فلسطين. ولأن هناك سلطة فلسطينية مستعدة أن تخدمه أمنيا من دون حل لهذه القضية. إذن لماذا ستسعى إسرائيل لحلّها؟ لذلك أقول ليس هذا وقت طرح الحلول. الوقت الآن أن يكون لدينا ما يكفي من الحلفاء العرب والأوروبيين وغيرهم، لنضع إسرائيل أمام هذا الاضطرار.

دائرة نفوذ إسرائيلية؟

س.ق.: في الجوار الفلسطيني، لم تبق أي قوة مقاومة مسلحة اليوم. ما الذي يمكن أن يوقف التوسع الجغرافي والعسكري لإسرائيل، الموجودة اليوم فعليا في لبنان وفي سوريا؟

ع.ب.: لا شيء. كما أراه الآن، لا شيء، سوى غضب الشعوب العربية التي هي طبعاً غير راضية على هذا. سيظهر – متى؟ لا أعرف — أثر هذا الاحتقان القائم بالشارع العربي من السلوك الإسرائيلي ورد الفعل العربي الرسمي عليه. أنا متيقن من هذا. ما يحصل حاليا هو تحويل المشرق العربي إلى منطقة نفوذ إسرائيلية، وهذا تحول كبير لم يكن في السابق. حتى الدول الحليفة للولايات المتحدة — وهي كثيرة —، والدول التي كانت حليفة لبريطانيا أيام الاستعمار، لم يكن أحد منها ليقبل أن تكون هناك منطقة نفوذ إسرائيلية. كانت هذه الدول مستعدة لمنطقة نفوذ أمريكية فرنسية أو بريطانية، لكن ليس لكيان استعماري استيطاني جاء على المنطقة هكذا، وأصبح هو يتحكم بكيف يجب أن تدار سوريا ولبنان، وماذا على أهل الخليج أن يفعلوا، كيف يجب أن تبدو مناهج التدريس في المغرب، الخ.

حتى الزعامات العربية التقليدية التي كانت موالية — أو على الأقل متحالفة — مع الغرب ضد الشيوعيين أو لاحقا ضد الإسلام السياسي، لم تكن لتقبل هذا. الجديد هو وجود إدارة أمريكية موافقة على هذا، منطقها الدولي هو التعامل مع الأقوياء، وتعترف بمناطق نفوذ كل الدول الإقليمية. فأوكرانيا منطقة نفوذ بوتين، حتى الصين التي لها خلاف تجاري واقتصادي معها، لا تختلف الولايات المتحدة على أنها دولة إقليمية عظمى تستحق أن يكون لها نفوذ ربما على تايوان، وربما على غيرها. أما اليابان وكوريا الجنوبية، فإما أن ترتبا أمورهما مع الصين، أو تكون لديهما استراتيجية دفاعية. نفس الشيء بالنسبة لأوروبا وروسيا. اُنظري كيف تكلم ترامب عن سوريا كمنطقة نفوذ تركيا. هكذا يرى الأمور. في موضوع سوريا، هو يرى أن إسرائيل دولة صغيرة ويمكن أن تتوسع في سوريا أكثر، لأن الجولان لا يكفي، فلم لا؟ إسرائيل أثبتت مهارتها في استخدام القوة، ونجاعة منطق القوة، وبالتالي كل هذا من حقها. هذا هو المنطق الأمريكي، وهو مرعب وخطير. لأنه إذا لم يكن هناك رد عربي رسمي عليه، أعتقد أنه سيكون هناك رد من الشعوب.

صحيح أنه لا توجد الآن قوة مسلحة في مواجهة إسرائيل، وقد تكون بعض الأنظمة العربية سعيدة بهذا الأمر. لكن أعتقد أنه لن يكون هناك قبول لمنطق النفوذ على المستوى الشعبي. على فكرة، بدأ تعزيز فكرة منطق النفوذ الإسرائيلي من خلال عودتها إلى ما كان في يوم من الأيام المنطق الاستعماري في المنطقة، وهو الرهان على الطوائف والأقليات في المشرق العربي تحديدا. وهذا من أهم الأدلة على أنه بعد ضرب ما يسمى “محور المقاومة”، تفكر إسرائيل أنه لا أحد غيرها مؤهل لأن تكون لديه منطقة نفوذ. يُفترض أن لا تقبل مصر كدولة بذلك — دعك من سياسة حكامها، ففي النهاية، في مصر، هناك دولة. نفس الشيء يُفترض بالنسبة لدول أخرى، لكن لا تبدو لي أنها سترفع صوتها. فالمشرق محطم ومشغول في صراعات طائفية، وله وهم بأن العدو هو إيران. الخلافات السنية-الشيعية ضربتنا من العراق إلى سوريا إلى لبنان، وكل هذا الحزام الآن هو منطقة صعود الطائفية السياسية.

هذا الصراع قاتل، لكن إذا لم تُشغل الشعوب العربية به، يُفترض أن يكون هناك احتقان ضد التوسع الإسرائيلي. لكن إشغالها بهذا الصراع الطائفي هو من أهم وسائل ضرب مناعتها في مواجهة التوسع الإسرائيلي.

في سوريا، ضرورة التمييز بين النظام والدولة

س.ق.: في ظل هذا السياق، ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه النظام الحالي في دمشق؟ علماً وأن الوضع العام في سوريا منهار تماماً بعد سنوات الحرب وحكم الأسد، وأن خطر التقسيم يحدق بها. هل من إمكانية للخروج من هذه الأزمة سريعاً دون أن يتفاقم العنف بين الطوائف وبين المجموعات المسلحة؟

ع.ب.: أعتقد أنه لا توجد أي حتمية، وأن الأمر متوقف على سلوك القيادة السورية، وعلى الرسائل التي تبثها للمجتمع السوري، وعلى خطتها وتوجهها. من الطبيعي أن يكون لدي أمل في نجاح التجربة السورية بعد انهيار نظام بشار الأسد، لأن البديل لها ستكون الفوضى. لكن لا أستطيع أن أبدي تفاؤلاً غير مشروط أمام سلوك القيادة السورية الحالية. نبدأ بالأمر الأول، وهو عدم تمييزها بين النظام والدولة. إذا لم يوجد هذا التمييز، من الصعب حدوث أي انتقال – بدون الحديث عن الديمقراطية — نحو أي أفق لتطوير دولة ذات سيادة قانون، فيها مجتمع مدني وتعددية بالحد الأدنى. أتحدث هنا عن مستويين: على مستوى الماضي – فهم يتعاملون وكأنه لم تكن هناك دولة في سوريا، في حين يجب الأخذ بالاعتبار المؤسسات والموظفين والتكنوقراط، الخ. لم يكن الجميع بعثيين، وحتى البعثيين لم يرتكب جميعهم جرائماً. وعلى مستوى المستقبل، هذا يعني أنه لن يكون هناك تمييز بين النظام الحالي والدولة، فهم يتعاملون كأنهم هم الدولة. هذه قضية أساسية يجب أن تُحلّ، وأن يفهم النظام الفرق بين السلطة السياسية وبين منطق الدولة والمواطنين.

الأمر الثاني: الاعتقاد بأن العلويين كانوا يحكمون سوريا غير صحيح. من كان يحكم سوريا هو نظام ديكتاتوري. العلويون كانوا — مثل السنة وبقية الطوائف — محكومين وليسوا حاكمين. كانت هناك سيطرة على الأجهزة الأمنية باستخدام عصبيات إقليمية، تحولت إلى طائفية متأخرا، لكن لم يصرح النظام يوماً أنه نظام طائفي، وقد استند إلى أجزاء واسعة من السنة ومن غيرهم. هذا الاعتقاد — مثل ما جرى في العراق، بأن الشيعة كانوا محكومين والآن هذه الأكثرية الشيعية ستحكم العراق — خطير جداً، فهو يحوّل أولاً أغلبية السكان لطائفة، ويقمع التعددية داخلهم. ثانياً، التعامل مع الآخرين كأنهم أقليات متسامِح معها من قبل الأغلبية وليسوا مواطنين كاملي الحقوق، وهو تسامح مشروط.

ثالثاً، حين يقول الحكام “نحن”، فهم لا يقصدون السوريين بل يقصدون السنة، وهذه كارثة. فإلى جانب أن ذلك يمنع نشوء مواطنة متساوية، فهو يسمح لدول أجنبية بالدخول وفرض الحماية على الأقليات. فالتعامل بمنطق “نحن” و“هم” مسألة خطيرة جداً. طبعاً هناك أمور كثيرة أخرى، كعدم إمكانية إدارة الدولة من دون الاعتماد على أجهزة الدولة، ولا يمكن التشكيك بكل الناس، الخ. لكن أعتقد أن الأمرين الأساسيين هما التمييز بين الدولة والنظام، وعدم التصرف وكأن الدولة الآن تمثل الأكثرية السنية، وأن الأقليات ليسوا سوى أشخاص متسامَح معهم، مع إعطاء تمثيل رمزي للعلويين، والدروز، والتعامل مع المرأة كأنها أقلية من الأقليات لها ممثلة واحدة، والحال أنها نصف المجتمع السوري. حين يقولون “نحن”، هم يقصدون المسلمين العرب السنة الذكور، والبقية هم الآخرون. وهذا غير معقول.

طبعا هناك مشاكل كبرى ستُحل بالتأكيد خلال العامين القادمين، مثل العقوبات وغيرها. ولكن كل الشروط الأمريكية لرفع العقوبات ليست متعلقة لا بالديمقراطية، ولا بسلامة المجتمع السوري، ولا حتى بالتطبيع مع إسرائيل — هذا تبرّع منهم [القيادة السورية الحالية]، لأنهم يعتقدون أن هذا ما يريده الغرب. لا توجد شروط غربية متعلقة بالمساواة لرفع العقوبات. ولذلك هذه مهمتنا كشعوب، ولا يجب أن ننتظر فرضها علينا من قبل الغرب. بل هي مهمة السوريين، من أجلهم وليس من أجل الغرب.

مراجعة تاريخ اليهود العرب

س.ق.: في الختام، عامة ما يستند الخطاب المتضامن مع فلسطين في العالم العربي أو حتى في الغرب إلى مخيال ثقافي عربي إسلامي. أليس من الأجدر أن نستند إلى مراجع أكثر دولية، وأن نبحث عن حلفاء خارج العالم العربي والإسلامي في المجتمعات الغربية — كاليهود المناهضين للصهيونية؟ كذلك فيما يخص اليهود العرب والشرقيين الذين هجر أغلبهم المنطقة، ألا يجدر بنا استعادة هذا التاريخ وعدم التنازل عنه لفائدة إسرائيل التي تقوم بتوظيفه؟

ع.ب.: أحتاج إلى وقت طويل لإجابتكِ على هذا السؤال. لا شك أنه في ظل الاحتلال وفي ظلّ هذا الظلم القائم حاليًّا، يجب أن يكون خطاب الحركة الوطنية خطاب عدالة كوني وخطاب حقوق. لكن هناك موجات تعصف بنا إقليميًّا من حين إلى آخر – وقد رأيتِ كيف صارت هناك أسلمة للخطاب الفلسطيني، بعد موجة أسلمة في العالم العربي وليس فقط في فلسطين، وبعد تخلي منظمة التحرير عن الكفاح المسلح. فقد انقلب التاريخ تماماً، بعد أن كان الإخوان المسلمون هم من يرفضون الكفاح المسلّح، والحركة الوطنية ذي الطابع العلماني هي من يتبنّاه. برأيي، يُفترض بجميع الحالات، حتى لو حان لحركة “حماس” حمل السلاح، أن تخاطب العالم بخطاب يفهمه، وهو خطاب العدالة والإنصاف. وهي بذلك لا تتخلى عن قضيتها. ففي النهاية، قضية فلسطين قضية عادلة، وترجمتها إلى خطاب عدالة وإنصاف هو الصحيح.

لسنا أول شعب يقع تحت الاحتلال، ولم يتم احتلالنا لأننا مسلمون، بل لأننا على أرضنا. طبعاً، خطاب التحرر الوطني مقبول كذلك عالميًّا. لكن كما تعرفين، كل الحركات الوطنية عبر التاريخ استخدمت وسائل مختلفة للتحشيد، منها الدين.

بالنسبة لمخاطبة اليهود خارج إسرائيل، لا شك أن هذا مهم. وأتفق أن علينا مساعدة جزء كبير من اليهود في العالم على التخلص من الارتباط بإسرائيل والصهيونية، بالعكس، يجب ألا نقبل بالزج بهم وتحميلهم مسؤولية ما تقوم به إسرائيل. طبعاً، اليهود المناهضون للصهيونية أساسيون ولهم دور كبير الآن في حركة التضامن مع غزة.

بالنسبة لليهود العرب، فالأنظمة العربية لم تدخل في صراع حقيقي مع الصهيونية. لكن في خضم حرب 1948 و 1967، حصل نوع من التواطؤ بهجرة اليهود العرب إلى فلسطين. وتعامل الأنظمة العربية معهم لم يكن أفضل من تعاملها مع باقي القضايا. فالأنظمة العربية لم تكن ديمقراطية في القضايا الأخرى ولكن ظالمة في هذا الموضوع. أي مراجعة لتاريخ اليهود العرب والشرقيين في المنطقة يجب أن تكون مراجعة نقدية، أي أن لا تأمثل السلوك العربي تجاه اليهود، وأن لا تشيطنه كذلك.

يجب أن نفهم أن اليهود عاشوا بدون أي شك بين ظهراني العرب كأقلية دينية – لأن الثقافة السائدة كانت ثقافة إسلامية —، لكن لم يكن الإسلام السياسي هو الذي يحكم، بل الثقافة التقليدية. ولذلك عاشوا في تفاوض من مرحلة إلى أخرى، حسب الأزمات والمراحل، مثل كل الأقليات الدينية في التاريخ. لكن ما يميز حالة اليهود في الوطن العربي عن حالتهم في أوروبا، هو أنه لم يكن هناك عنصرية عربية أو مسلمة خاصة باليهود – أي لم تكن هناك معاداة للسامية. لم يكن هناك تمييز عرقي، أو نظريات عرقية عند العرب، ولم يفكروا في يوم من الأيام بالتخلص من اليهود. نعم، كان هناك تمييز ضد كل الأقليات، ولكن أكثر تمييز عند العرب كان ضد الأقليات المسلمة – أي الفِرَق الإسلامية الخارجة عن الخط —، وليس اليهود أو المسيحيين. كان هذا المجتمع التقليدي. مراجعته نقديا لا تعيبنا، فالمجتمعات تتطور. لذلك، عندما نراجع تاريخنا، أنا ضد القول بأن بلداننا كانت جنة عدن لليهود، وأن نتحدث عن التسامح وعن الأندلس، فهذه برأيي أوهام. لكن في نفس الوقت، القول بأن العالم العربي كان جحيماً لليهود هو افتراء غير صحيح، وأغلب المؤرخين اليهود يقولون ما أقول. ولو قمنا بمقارنة تاريخية مع أوروبا العصور الوسطى والعصر الحديث، يخرج العرب رابحون.