الصهيونية المسيحية في حملة صليبية معاصرة

أصبحت حركة اليمين المسيحي المتنامية قوة دافعة للدعم الأمريكي والعالمي غير المشروط لإسرائيل. وتوسّع نطاق تأثير هذه الحركة اليوم إلى بلدان الجنوب العالمي، من البرازيل إلى نيجيريا.

اجتماع رسمي في المكتب البيضاوي مع أشخاص حول طاولة، والدنيا مضاءة خلفهم.
واشنطن، 8 فبراير/شباط 2025. الرئيس دونالد ترامب يتلقى الصلوات من باولا وايت كاين (على يساره، بالثوب الأبيض) وقادة دينيين آخرين. نشر الحساب الرسمي للبيت الأبيض على منصة “إكس” هذه الصورة في 8 فبراير/شباط، إلى جانب النص التالي:« “كما يقول الكتاب المقدس، طوبى لصانعي السلام”. ولهذا الغرض، آمل أن يُعرف أعظم إرث لي، عندما ينتهي كل هذا، باعتباري صانع سلام وموحد"، عن الرئيس دونالد ج. ترامب».
حقوق محفوظة

في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2024، تَجمهر عشرات الآلاف خارج مبنى الكابيتول الأمريكي في واشنطن العاصمة للمشاركة فيما أَطلق عليه المنظّمون مسيرة “المليون امرأة”. نظّمت هذه المسيرة ثلّةٌ من قادة حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد1، وهي حركة يمينية مسيحية نشِطة ومتنامية أثّرت على مئات الملايين حول العالم، بما في ذلك عشرات الملايين في الولايات المتحدة.

تزامنت المسيرة مع عيد “يوم كِفّور” أو يوم الغفران اليهودي، وتضمّنت مواضيعها “تسيّد” المسيحيين المؤسسات السياسية وحشد الناخبين وتطهير مبنى الكابيتول من الشياطين، تماشيًا مع تركيز الحركة على فكرة “الحرب الروحية”. ولكن الغرض الآخر من هذه المسيرة كان حشد الدعم لإسرائيل، مع أن التغطية الإعلامية المحدودة لم تُضئ على هذا الجانب.

“عليكم أن تنقادوا لكلمة الرّب”

صعد لُو إنْغل، أحد منظّمي المسيرة، إلى المنصة، ثم أعلن: “عليكم أن تنقادوا لكلمة الرّب! إذا أيّدنا وباركنا إسرائيل، فقد يُنقذ أمتنا!”. على منصة مزيّنة بالأعلام الإسرائيلية، وجّه قادة المسيرة ابتهالات الجمهور لمدة عشر ساعات متعاقبة، وحثّوا الكونغرس على تلبية “التكليف الإنجيلي”، كما قال أحد المتحدثين، و“تقديم دعم مطلق لإسرائيل في مواجهة أعدائها وأعدائنا”. وفي لحظة معينة، أنشد الحشدُ النشيدَ الإسرائيلي وسط تصفيق حارّ.2

Des personnes se tenant sur scène, levant les bras et brandissant des drapeaux israéliens.
واشنطن، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025. لويس إنغل (في الوسط، يرتدي قبعة) في مسيرة “المليون امرأة”.
لويس إنغل/ فيسبوك

تُمثل شبكات الكنائس الخمسينية والكاريزماتية المستقلة، وغيرها من المؤسسات التي تُشكّل حركة الإصلاح الرسولي الجديد، ربما أبرز حركة دينية في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأمريكية. كانت الحركة أساسية في الحملات الرئاسية الثلاث لدونالد ترامب، منذ حملته الأولى عام 2015. وبعد فوزه الأول في العام الموالي، شقّت الحركة طريقها إلى المناصب العليا في السلطة السياسية، مع تنصيب الداعية التلفزيونية باولا وايت-كين، المستشارة الروحية لترامب، رئيسةً لمكتب الإيمان الجديد في البيت الأبيض.

مع تنامي الغضب العالمي على أجندة إسرائيل الإقصائية والتوسعية، يبدو أن ولاية ترامب الثانية تتجه نحو تأييد إسرائيل أكثر من ولايته الأولى. في الأسابيع الأولى من تولّيه منصبه، دعا ترامب إلى التطهير العرقي لأكثر من مليونيْ فلسطيني في قطاع غزة وإلى احتلال الولايات المتحدة للقطاع المحاصر والمدمّر بعد نحو عام ونصف من القصف والغزو الإسرائيلي. إضافة إلى ذلك، تعهّد كبار المسؤولين في إدارة ترامب بدعم ضمّ إسرائيل للضفة الغربية، من بينهم باولا وايت-كين، ووزير الدفاع بيت هيغسيث والسفير الأمريكي في إسرائيل مايك هاكابي، الذي وعد بأنّ ترامب سيُحدث تغييرات “ذات أبعاد توراتية” في الشرق الأوسط3.

من جانبها، تُدرك القيادة الإسرائيلية مصدر دعمها الأقوى، فخلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن العاصمة في فبراير/شباط الفائت، لم يلتقِ بالقادة اليهود الأمريكيين، ولكنه اجتمع بالقادة الإنجيليين لمدة 90 دقيقة. كان ثلاثة منهم على الأقل شخصياتٍ بارزة في حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد، بمن فيهم باولا وايت-كين، التي أشارت التقارير إلى أنها عقدت اجتماعاً منفصلاً وطويلاً مع نتنياهو وأجْرت معه مقابلة مطوّلة لصالح التلفزيون الإسرائيلي.

رسلٌ وأنبياء

Un homme en costume parle à une femme, interview filmée avec plusieurs caméras.
بلير هاوس، واشنطن، 6 فبراير/شباط 2025. مقابلة مع بنيامين نتنياهو أجرتها باولا وايت كاين، بثت على القناة الإخبارية الإسرائيلية 12.
حقوق محفوظة.

ليست حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد حركة دينية عادية، بل هي، على حد تعبير عالم السياسة بول جوبْ4، مثالٌ على “التحول الجذري” الذي طال المسيحية الأمريكية، فرؤيتها السياسية تعدّت المعسكر الكاريزماتي والخمسيني الذي نشأت فيه، حتى أصبحت مهيمنة على فئة أوسع من الإنجيلية الأمريكية.

تُعدّ حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد حركةً عابرةً للطوائف، نشأت جذورها من مصادر عدّة على مدى قرنٍ من الزمن. كان الراحل تشارلز بيتر فاغنر، الأستاذ في معهد “فولر اللاهوتي” الإنجيلي5، أول من درس وسمّى الحركة في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، إذ لاحظ أن الكنائس المستقلة أو غير الطائفية كانت الأسرع نموًا في الولايات المتحدة والعالم. رأى فاغنر في هذا النمو الهائل تحولاً ناشئاً.

ينطوي هذا التحول الشامل على شبكاتٍ من الكنائس والقسّيسيات التابعة لحركة الإصلاح الرسوليّ الجديد، والتي ترفض العديد من العقائد والطوائف والأدوار القيادية المسيحية التاريخية، في حين تُعيد تدريجياً أدوار الكهانة المتّصلة بكنيسة القرن الأول كما هو مسطور في “سفْر أفسس” (المنسوب إلى الرسول بولس). من هذه الأدوار، يتحلى زعماء الحركة بألقاب الرسول والنبي، حتى إن لو إنغل يحمل صفة النبي، فيما تحمل باولا وايت-كين صفة الرسولة.

تمثّل حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد رؤيةً ديناميكيةً للسيطرة الدينية والسياسية تُعرف باسم “تفويض (أو نبوءة) الجبال السبعة”، وهي مُخطط سياسيّ مجازيّ يُكلّف المؤمنين ببسط “السيادة” على “الجبال السبعة” للسلطة المجتمعية: الحكومة، والدين، والأسرة، والتعليم، والإعلام، والفنون والترفيه، والتجارة.

حرب ضد القوى الشيطانية

تتصوّر بعض عناصر الحركة أنها جيشُ نهاية الزمان، جيشٌ مُقدّر له أن يشنّ “حرباً روحية” في السماوات بواسطة الصلاة، وإذا أمكن، عبر حربٍ مادية ضد القوى “الشيطانية” للّيبرالية والديمقراطية ومجتمع الميم وحقوق الإنجاب وغيرها من القوى التي تعتبرها معادِية.

ليس هذا ضرباً من الإفراط المجازيّ، فالمقلِق تحديداً في حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد ونفوذها السياسيّ المُتنامي هو أن الاختلافات السياسية والدينية العاديّة تكتسي صبغة شيطانية، بحيث يصبح مصدرها الأرواحَ الخارقة للطبيعة التي تُسبّب المشاكل على مختلف الأصعدة، من الحياة اليومية إلى الصراعات الدولية. ترى الحركة أن هذه الشياطين قادرة على توجيه كل شيء، من الأفراد إلى الأمم، كما ترى فيها عقبةً رئيسية أمام إقامة ملكوت الرب على الأرض. على سبيل المثال، يزعم “الرسولان” تشي آن ولانْس والْناوْ، ومعهم آخرين، أن نائبة الرئيس السابقة كامالا هاريس بمنزلة “إيزابل”6، أي إنها حرفيا روحٌ شيطانية.

تنتشر نظرة الحركة بسرعة، فحسب استطلاعٍ أجراه الأستاذ جوبْ في عام 2024، يُسلّم أكثر من 60% من مسيحيي الولايات المتحدة بأن “ثمة رسلاً وأنبياء في عصرنا هذا” ويعتقد نصفهم تقريباً بأن “ثمة أرواحاً وقوى شيطانية تبسط نفوذها على الجغرافيا”، وأن على الكنيسة “تنظيم حملات حرب روحية وصلاة لتنحية الشياطين العليا”. ويؤيد 42% من المشاركين “تكليف السيادة” الذي تتبناه حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد، إذ يوافقون على أن “الرب يريد للمسيحيين أن يَعتلوا قمم جبال المجتمع السبعة”.

إلى ذلك، تُسهم حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد في حشد أنصار حركة “ماغا” (Make America Great Again أي “لنعد إلى أمريكا مجدها السابق”)، فقد كان قادتها أمثال باولا وايت-كين ولانس والناو من أوائل وأكثر الداعمين الإنجيليين حماساً لترشيح ترامب في عام 2015. وبرز هؤلاء القادة ثانية في حركة إنكار انتخابات 2020، إذ أسهم العديد من “الرسل” و“الأنبياء” في بناء الزخم الذي سبق أعمال الشغب المندلعة في 6 يناير/كانون الثاني 2021، بإقامة تجمعات للصلاة خارج مبنى الكابيتول ومناجاة الله كي يسحق أعداءه، وبالنفخ في الشوفار - قرن الكبش المستخدم في حروب إسرائيل القديمة - والذي استملكه المسيحيون المتأثرون بحركة الإصلاح الرسوليّ الجديد. ورغم الاعتراف الآن بتأثير المسيحيين الإنجيليين على الحياة العامة الأميركية، لا يزال تأثير الحركة على النطاق الدولي، ولا سيما في الشرق الأوسط، مُغْفَل عنه.

إسرائيل ونهاية العالم

طيلة عقود من الزمن، تعاون قادة الحركة المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة وحول العالم مع اليمين الإسرائيلي لتعميق سياسات الفصل العنصري والتطهير العرقي والهيمنة في فلسطين. في السنوات الأخيرة، دعت الحركة إلى زيادة المساعدات الأمريكية لإسرائيل، وضمّ الضفة الغربية، والعدوان على إيران، ووقف تمويل وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين، وقمع الانتقادات التي تطول إسرائيل، وغيرها من سياسات اليمين المتطرف. ببساطة، يجوز القول إن الصهيونية المسيحية عمادُ الدعم الأمريكي والعالمي لإسرائيل، وإذا كان هذا مفاجئاً، فيكفي التذكير بأن أبرز منظّمة مسيحية صهيونية أمريكية، وهي منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” (CUFI) التي مقرها تكساس، تضم أكثر من 10 ملايين عضو، أيْ ناخبين أكثر من إجمالي عدد اليهود في الولايات المتحدة بنحو 50%.

من له علمٌ بالصهيونية المسيحية، فلعلّه على دراية بمنظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” وزعيمها القس جون هاغي. أحد أسباب ذلك أن المؤتمر السنوي الشهير للمنظمة يستقطب شخصيات سياسية بارزة، وكذلك لأن هاغي أشار في أواخر عام 2005 إلى أن المحرقة كانت جزءًا من خطة الرب لجلْب اليهود إلى إسرائيل وأن هتلر “صيادٌ” مرسَل بتكليف إلهي7. وادّعى هاغي في كتابه “العد التنازلي للقدس”، الصادر في عام 2006، أن “نازيّي هتلر” طردوا اليهود من أوروبا “إلى الوطن الوحيد الذي أراده الله لليهود - أي إسرائيل”.

منذ تأسيسها في عام 2006، أصبحت منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” النظيرَ الإنجيلي للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، وهي منظمة ضغط نافذة مؤيدة لإسرائيل، غالباً ما تقترن، خطأً في أكثر الأحيان، بالمجتمع اليهودي الأمريكي. تضغط المنظمة بشدة على الكونغرس لتمرير مجموعة من السياسات المحبّذة عند اليمين الإسرائيلي، كما يكيل القادة الإسرائيليون المديح للقس هاغي بسبب دعمه الثابت لإسرائيل.

على أن هاغي يمثّل صورةً أقدم من الصهيونية المسيحية، تجسّدت في الإنجيليين البيض أمثال جيري فالويل وفي روايات القس تيم لاهاي مع جنكينز جيري Left Behind “المتروكون”. ويستند هذا الشكل القديم من الصهيونية المسيحية إلى رؤية “إعفائية” لأحداث نهاية العالم، تُكتَب فيها النجاة للمسيحيين المؤمنين بفعل “الاختطاف” على السحاب للصعود إلى السماء ولقاء المسيح، فيما تغرق إسرائيل والعالم في حروب الضيقة العظيمة8.

التسريع بتحقق ملكوت الله على الأرض

لكن صعود حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد ونمو الكنائس الخمسينية والكاريزماتية أسهم في تغيير لاهوت نهاية العالم الذي ساد اليمين المسيحي. فبدلاً من انتظار “الاختطاف إلى السماء”، انخرط العديد من الإنجيليين في بناء رؤيتهم لملكوت الله على الأرض، ويشمل هذا السعيَ إلى استعادة “الأرض” من الشياطين عبر صلاةٍ تُسمّى “الحرب الروحية”، بالإضافة إلى الانخراط العمليّ في السياسات الانتخابية.

ما يفسر التأكيد الشديد للدور الذي تتصوّره حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد لإسرائيل في رؤيتها لأحداث نهاية العالم، والتي تعتقد أنها جارية حالياً. تُؤمن الحركة بإمكانية تحقيق اليوتوبيا الألفية - ألف عام من الحكم المسيحي الكامل - عن طريق توسيع سيادة إسرائيل على الأرض “التوراتية”، ودعم هجرة اليهود إلى إسرائيل، وتحويل اليهود إلى الإيمان بيسوع. واستناداً إلى سفر التكوين 12:3، حيث قال الرب لإبراهيم: “وأُبارِكُ مُبارِكيكَ، ولاعِنَكَ أَلْعَنُه”، تعتقد الحركة أن “مباركة إسرائيل” هي السبيل الوحيدة لنيل الشعوب رضا الرب.

وبالرغم من أن حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد تُدرَج غالباً مع مفاهيم القومية المسيحية الأمريكية، لكن الدولة المركزية في رؤيتها الدينية والسياسية هي في الحقيقة إسرائيل. تعتقد الحركة أن تراجع الولايات المتحدة عن دعم إسرائيل سيَحكم على أمريكا بالزوال، لكن النجاح في حشد الدعم الأمريكي والعالمي خلف إسرائيل سيُسهم، للمفارقة، في تحقيق المشروع الأوسع المتمثل في ترسيخ السيادة المسيحية على العالم. وكما هو الحال في الأشكال القديمة للصهيونية المسيحية، يميل هذا التوجه إلى تصوير اليهود وإسرائيل، لاهوتياً، بصفتهم “مواضيع فيتيشيّة تتجاوز التحديد وتكتسي بقوة خارقة للطبيعة” على حد تعبير الباحث س. جوناثان أودونيل. بعبارة أخرى، ما هم في نهاية المطاف إلا أدواتٌ في سردية الخلاص المسيحي المهيمنة9.

نقل السفارة الأمريكية إلى القدس

يتجلّى تأثير حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد في الحركة الأمريكية المؤيّدة لإسرائيل، إذ يُواظب قساوِستها وأعضاءها على تنظيم وحضور التجمّعات والمؤتمرات المؤيدة لإسرائيل، كما ينخرطون في جهود الضغط التي تنسّقها مجموعات مثل منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” على مستوى الولايات والحكومة الفيدرالية. نشرت صحيفة “إن ذيز تايمز” في ربيع عام 2024 تقريراً بشأن تنظيم قادة الحركة احتجاجات جيّاشة أمام جامعات عدّة ضد ما يُزعم أنه معاداة السامية في الحرم الجامعي، وقد تسلّق المتظاهرون أبواب جامعة كولومبيا، ثم كالوا الشتائم للطلاب. في هذه المسيرات، امتزجت استحضارات نهاية العالم مع شيطنة المسلمين ودعوات تحويل اليهود عن دينهم، وهذا ما سلّط الضوء على التشابك بين معاداة السامية والتعصب الأعمى ضد الفلسطينيين والمسلمين، وكيف يُغذّي هذا دعم حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد لإسرائيل.

ماريو برامنيك، القسّ كوبيّ المولد رئيس “التحالف اللاتيني من أجل إسرائيل”، افتخر قائلا: “نعلم أن العديد من مبادرات الفرقة التي أطلقناها تُؤتي أكلها الآن في البيت الأبيض في عهد ترامب”، خلال صلاة مع زعماء آخرين في الحركة في فبراير/شباط 2024. جاء هذا التصريح احتفالاً بالأوامر التنفيذية التي وقّعها ترامب والضغوطات التي طبّقتها إدارته على الجامعات لترحيل الطلاب وخنق حرية التعبير، وغيرها من الإجراءات.10.

ينشط برامنيك بدرجة كبيرة في ما تسمّيه الحركة “جبل” الحكومة، ويستخدم نفوذه الحكومي أساساً للضغط من أجل زيادة الدعم لإسرائيل. يعدّ برامنيك أحد أبرز المستشارين الإنجيليين لترامب منذ عام 2016، كما أنه كان المبعوث الخاص لمبادرة “الإيمان والفرص” التابعة للبيت الأبيض خلال ولاية ترامب الأولى، وكثيراً ما يلتقي ببنيامين نتنياهو.

في عام 2018، وبعدما حقق ترامب هدفاً رئيسياً في سياسة الصهيونية المسيحية بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، زعم برامنيك أنه التقى على الأقل ثمانية رؤساء دول آخرين، من ضمنهم زعماء اليمين المتطرف الرئيس السلفادوري نجيب بقيلة والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، من أجل إقناعهم بالسير على المنوال نفسه.

خلال احتفالٍ بنقل السفارة في عام 2019، أعلن برامنيك: “إنها لمعجزة أن يُعيّن الرب دونالد ترامب ليكون قورشَ هذا العصر”، في استحضارٍ للفكرة المتداولة في أوساط حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد والتي تقول إن الرب يستخدم ترامب، المعدوم الأخلاق، لتحقيق مقاصده، تماماً كما استخدم الرب ذات مرة الملك الوثني قورش لتخليص بني إسرائيل التوراتيين من المنفى في بابل.

على أن حديث برامنيك في إفطار صلاة القدس - التجمّع الذي انعقد في “مار إيه لاغو” - مقر إقامة ترامب في ميامي - في يناير/كانون الثاني 2025 بمشاركة قادة نافذين من الصهاينة المسيحيين والإسرائيليين واليهود الأمريكيين - كشف عن تحديثٍ للمنظور التوراتي الذي يُقيّم على أساسه دور ترامب. يزعم برامنيك أن دور ترامب قد تغيّر، فبعد أن كان بمنزلة قورش، أصبح الآن في مرتبة دارا الأول (الملك الذي مكّن من إعادة بناء هيكل القدس). وهذا في نظره يُمثّل “مَسحةً أخيرة” لتعزيز التوسع والهيمنة الإسرائيلية11.

في هذا الإفطار، أعلن برامنيك: “لأول مرة منذ حرب 1967، يتعدّى الجيش الإسرائيلي خطوط العدو في غزة وجنوب لبنان وسوريا بصورة خارقة للطبيعة”. ثم أضاف: “إننا في لحظة مفصليّة”، إذ يكتمل الآن ما بدأه الرب في إدارة ترامب الأولى.

ليس برامنيك القائدَ المؤثرَ الوحيدَ من الحركة الذي يدور في فلك إدارة ترامب الجديدة، فإلى جانبه ثمة باولا وايت-كين التي تقود مكتبَ الإيمان الجديد بالبيت الأبيض12، بالإضافة إلى “الرسولان” البارزان سيندي جاكوبس وجيم غارلو، اللذان تكلما في تجمع إفطار صلاة القدس. “عندما نحاول تقسيم أرض إسرائيل، تلك الأرض التي وهبها الرب، فإن ذلك يُسخطه!”، هذا ما صرحت به جاكوبس، مانحةً إسرائيلَ تبريراً لاهوتياً لضمّ الأراضي المحتلة وتوسيع نطاق الحرب الإقليمية. ثم أضافت: “لقد كبّلنا إسرائيل مراراً وتكراراً، في حين كان بإمكانها إنهاء المهمّة مرة وإلى الأبد”13.

حركة تنتشر حول العالم

لعل التأثير الأكبر لحركة الإصلاح الرسوليّ الجديد على الصهيونية المسيحية يتركز في دول الجنوب، حيث تتعدد الدول التي لطالما انتقدت إسرائيل في المحافل الدولية كالأمم المتحدة. لكن النمو السريع للأشكال غير الطائفية للمسيحية الخمسينية والكاريزماتية في العقود الأخيرة أسهم في انبثاق حركات جديدة قوامها ملايين الأشخاص الذين “يباركون إسرائيل”.

يعدّ يورغن بوهلر أحد أبرز “رُسل” الحركة ورئيس السفارة المسيحية الدولية في القدس (ICEJ)، وفي مقابلة تعود إلى عام 202214 صرّح: “بدأت تلوح تباشير إدراك الجنوب العالمي قيمة إسرائيل”. إن السفارة المسيحية في القدس تعدّ أكبر منظمة مسيحية صهيونية في العالم، إذ لها مكاتب فرعية وممثلين في أكثر من 90 دولة، كما أنها تزعم تمثيل عشرات الملايين من المسيحيين. بالإضافة إلى تنسيق أنشطة كنسيّة تواصلية على صعيد عالمي وممارسة الضغط السياسي وجمع التبرعات لدعم إسرائيل، تستضيف السفارة أيضًا رحلة حج مسيحية ضخمة في عيد المظال، إذ تُحضر آلاف السياح إلى القدس خلال عيد العُرش اليهودي (يأتي بعد عيد الغفران. وهو إحياء لذكرى خيمة السعف التي آوت اليهود في العراء أثناء خروجهم من مصر بحسب المعتقد التوراتي).

من نيجيريا إلى الفلبين

نظّم الرسول رينيه تيرا نوفا، مدير الفرع البرازيلي التابع للسفارة المسيحية الدولية في القدس ورئيس شبكة رسولية عالمية تضم أكثر من سبعة ملايين عضو، مسيرات حاشدة مؤيدة لإسرائيل في البرازيل، وهي دولة يُقدّر الباحثون أن عدد معتنقي الخمسينية والكاريزماتية فيها سيفوق قريباً عدد معتنقي الكاثوليكية، كما أسهم في إرسال آلاف الحجّاج إلى إسرائيل بمناسبة “عيد المظال”.

في المقابل، يُشرف الرسول النيجيري إينوخ أديبويْ، الذي اختارته مجلة “نيوزويك” ضمن أكثر 50 شخصية مؤثرة في العالم، ويشرف على شبكة كنسيّة واسعة لها فروع في أكثر من 110 دول. تزعم هذه الشبكة أنها تستوعب أكثر من خمسة ملايين شخص في نيجيريا وتحاول التأثير على ملايينَ غيرهم في مختلف أرجاء العالم، وقد تعهد أديبويْ، المتحدث الدائم في اجتماعات السفارة المسيحية الدولية في القدس، بتسخير شبكته هذه في دعم إسرائيل بعد 7 أكتوبر.

وتنسّق المنظمات المنضوية تحت حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد، مثل “بيت الصلاة الدولي” في ميسوري، أياماً عالمية للصلاة والصوم تتمحور حول إسرائيل، مثل صوم إستير العالمي، وهي أيامٌ تحشد الملايين عبر شبكات الكنائس الخمسينية والكاريزمية في أوغندا وسنغافورة واليابان وماليزيا والفلبين والهند وغيرها من الدول.

تُمثّل سائر هذه الشبكات ما أسماه جوزيف ويليامز، الأستاذ في جامعة روتجرز، عملية “خَمْسَنة” الصهيونية المسيحية في كافة أنحاء الجنوب العالمي، إذ تُسهم “الجاذبية الدولية” المُتنامية “للممارسات والهويات العمليّة المستقاة من اليهودية والمرتبطة بأدوار اليهود وإسرائيل” في تعزيز اليمين الإسرائيلي المتطرف، فضلاً عن اليمين العالمي15.

مع نمو حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد، بصفتها قوة دينية وسياسية عالمية وازِنة، نتوقع أن تُصبح الحركة الصهيونية المسيحية أكثر تشدداً وعدوانية، وأن تميل أكثر فأكثر إلى ما تسميه “تحويل العالم”. ولذلك ينبغي للتقدميين أن لا يُغفلوا هذا الواقع، لكي يتسنى لهم تكييف استراتيجيات ملائمة للدفاع عن الديمقراطية وتغيير السياسة الخارجية الأمريكية.

في البرازيل، انجراف الإنجيليين إلى اليمين

عام 2014 في ساو باولو، افتتحت “الكنيسة الخمسينية العالمية لملكوت الرب” مجمعاً كنسياً جديداً بتكلفة 300 مليون دولار، وقد زعمت أنه نسخة مطابقة لهيكل سليمان، الذي سيُعاد تشييده، بحسب النبوءة، في آخر الزمان. تأسست هذه الكنيسة على يد الأسقف إدير ماسيدو، الذي اتخذ لنفسه صفة “النبي” وفقاً لما شرّعته حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد ودعا إلى إقامة “حكم رسولي” في البرازيل، وهي تستوعب عشرة آلاف شخص وتكتسي أرضيتها وجدرانها بحجارة مُستجلبة من القدس.

خلال افتتاح الكنيسة، قال أحد ممثليها: “لقد أردنا مساعدة الناس على الالتفات إلى إسرائيل ودعم وجودها، كما أردنا منحهم فرصة لمس أحجار القدس، وهو أمر ينطوي عندهم على أهمية بالغة”.16.

كان “هيكل سليمان” للنبي ماسيدو أحدَ المظاهر الفاخرة لانجراف إنجيلي أوسع نحو اليمين، وقد كان له تداعيات سياسية جسيمة، ففي عام 2014، عامُ افتتاحه، أدانت البرازيل هجوم إسرائيل على قطاع غزة واستدعت سفيرها في تل أبيب، وبحلول عام 2018، أسهم ماسيدو في حشد الدعم الإنجيلي لانتخاب الرئيس اليميني المتطرف جايير بولسونارو، المؤيد المخلص لإسرائيل.

1ملاحظة هيئة التحرير: الإصلاح الرسوليّ الجديد هو تيار مسيحي داخل الحركة البروتستانتية الإنجيلية، يدعو إلى استعادة السلطة الرسولية في الكنيسة، ويسعى للسيطرة على المؤسسات الاجتماعية والسياسية وفق رؤية محافظة متشددة.

2فريدريك كلاركسون، “مع التهديدات بالعنف السياسي، تجاهلت وسائل الإعلام إلى حد كبير مظاهرة «المليون امرأة» التي نظمتها حركة الإصلاح الرسوليّ الجديد في واشنطن العاصمة”، مجلة “ريليجن ديسباتش”، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2024.

3لازار بيرمان، “المبعوث الأمريكي المقبل هاكابي يقول إن ترامب سيجلب تغييراً «ذا أبعاد توراتية» في الشرق الأوسط”، صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، 9 فبراير/شباط 2025.

4نقلاً عن ستيفاني ماكرومن، “جيش الله يخرج من الظلال”، مجلة “ذي أتلانتيك”، 25 فبراير/شباط 2025.

5مقتبس من المقال في الملاحظة السابقة.

6ملاحظة هيئة التحرير: هي ملكة فينيقية قرينة الملك آخاب ملك إسرائيل، حسب الكتاب المقدس نشرت إيزابل عبادة الإله الفينيقي “بعل” في المملكة إضافة إلى قيامها بأعمال شريرة أخرى. على مر العصور، ارتبط اسم “ايزابل” بالأنبياء الكاذبين. وبحلول القرن العشرين، ارتبط أيضًا بالنساء ذوات السمعة السيئة.

7بروس ويلسون، “تسجيل صوتي لجون هاغي، المؤيد السياسي لجون ماكين، وهو يبشر بأن اليهود ملعونون وأدنى من مرتبة البشر”، Talk to action، 15 مايو/أيار 2008.

8ملاحظة هيئة التحرير: في علم الآخرة المسيحي، هي فترة من الاضطرابات والكوارث التي ستسبق مجيء يسوع المسيح الثاني، عندما سيظهر المسيح الدجال ويشن حربًا ضد شعب المسيح، ويتبع ذلك ظهور يسوع في السماء ليقضي على المسيح الدجال وجنوده، ليبدأ بعد ذلك عصر السلام الأبدي.

9س. جوناثان أودونيل، “معاداة السامية في طور المحو: معاداة العولمة المسيحية الصهيونية ورفض العيش المشترك”، مجلة “دراسات عرقية واثنية”، المجلد 44، العدد الأول، 2021.

10بين لوربر، “القرار التنفيذي لترامب لمكافحة معاداة السامية يستخدم سلامة اليهود كسلاح لسحق التضامن مع فلسطين”، مجلة “ريليجن ديسباتش”، 6 فبراير/شباط 2025.

11ميشيل تشابين، “زعماء إنجيليون لاتينيون يجتمعون في القدس لحضور قمة حول إسرائيل”، وكالة “خدمة الأخبار الدينية”، 24 مايو/أيار 2019.

12ملاحظة هيئة التحرير: بحسب المرسوم الذي أنشأ هذا المكتب الجديد، فإنه “يتحمل المسؤولية الأساسية، داخل السلطة التنفيذية، لتمكين الكيانات الدينية والمنظمات المجتمعية وأماكن العبادة من خدمة الأسر والمجتمعات”.

13آدم إلياهو بيركوفيتش، “القادة الإنجيليون في القدس يطالبون بالسيادة الإسرائيلية على قلب الكتاب المقدس”، Israel365News، 5 مارس/آذار 2025.

14نقلاً عن ماعين هوفمان، “عضو الكنيست الإسرائيلي للبرلمانيين المسيحيين:”طالبوا حكوماتكم بمعاقبة إيران“”، نقابة الأخبار اليهودية، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022.

15جوزيف ويليامز، «خمسينية الصهيونية المسيحية»، كتاب تاريخ الكنيسة، المجلد 84، العدد الأول، مارس/آذار 2015.

16آدم إلياهو بيركويتز، “بناء معبد سليمان في البرازيل بتكلفة 300 مليون دولار”،Israel365News 18أكتوبر/تشرين الأول 2015.