ربيع المدخلي، عن وفاة داعية سلفي سعودي

تتيح وفاة ربيع المدخلي، كشخصية بارزة في التيار السلفي على مدى أربعة عقود، فرصة للعودة على الأزمة التي تمر بها الحركات الإسلامية. كما يوفر هذا الحدث مادة للتأمل في التحولات المعاصرة للتيّارات السنيّة، وكذلك حول تخلّي المملكة العربية السعودية عن دورها الوصائي.

A grand archway with domes, surrounded by greenery and a road, under a cloudy sky.
نوفمبر/تشرين الثاني 2017. البوابة الرئيسية للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي أسستها الحكومة السعودية في ستينيات القرن الماضي، حيث كان يدرس ربيع المدخلي.
ويكيميديا

توفي ربيع لن هادي المدخلي، أحد أبرز رموز التيار السلفي العابر للحدود، في 9 يوليو/تموز 2025 في المملكة العربية السعودية عن عمر يناهز 93 عامًا. وقد أعلن ابنه عمر عن وفاته عبر منصة “إكس”. وشُيِّع جثمانه في اليوم التالي بالمدينة المنورة، حيث شارك الآلاف من أنصاره في جنازته في مقبرة البقيع المجاورة للمسجد النبوي، ثاني أقدس موقع في الإسلام.

وُلد ربيع المدخلي عام 1932 في أقصى الجنوب الغربي من السعودية، على الحدود اليمنية، وقد أعطى اسمه لفرع مؤثر من التيار الإسلامي السلفي المعاصر، وهو المدخليّة. وتتميّز هذه المدرسة بالتشدد العقائدي والولاء المطلق للأنظمة الحاكمة، بناءً على ادعاء بالحياد السياسة مبرّر دينيًا. فقد كان المدخلي يؤكد أن معارضة الحكام لا يمكن إلا أن تولد الفتنة والانقسام، مما يجعل البيئة غير مناسبة لممارسة الدين كما ورد في القرآن والسنة النبوية والأحاديث. وضمن هذا الإطار، تتمثل أولوية المسلم في هذه الدنيا في احترام مبدأ توحيد الله وعبادته. وهو يرى في المقابل في مفاهيم كما العدالة الاجتماعية والحرية، أمورًا ثانوية إن لم تكن غير منتجة. ومنذ الثمانينيات، أصبحت المدخلية، من الضواحي الفرنسية حتى قصور الرياض، تجسيدً للسلفية.

أيديولوجيا النقاء

إلى جانب طموح الابتعاد عن العمل السياسي المعارض، تميزت الحركة التي أسسها ربيع المدخلي بالميل إلى الانتقاد المباشر لخصومه في المجال الديني. فقد وجّه في العديد من كتبه انتقادات شديدة – وفق قراءته الخاصة – إلى المتصوفة والشيعة والجهاديين، متهماً إياهم بالتساهل مع مجتمعات “كافرة” أو بالانحراف عن الرسالة القرآنية. ورغم أنه لم يقم بتكفيرهم بشكل مباشر - وهو سعي جوهري في العقيدة الجهادية كما عند سيد قطب، الوجه الراديكالي لجماعة الإخوان المسلمين الذي يبغضه السلفيون –، إلا أن المدخلي اعتاد إثارة الجدل. وقد لقي هذا الأسلوب، المدعوم بإلمام بالأحاديث، رواجًا لدى الأجيال السلفية الشابة، التي أحبت آراءه القطعية وردوده الشديدة. وكانت مواقفه تُنشر في البداية من خلال كتيبات صغيرة، ثم عبر أشرطة الكاسيت، ولاحقًا عبر الإنترنت.

يسعى التيار المدخلي إلى تقليد السلف الصالح، ويقوم على منطق النقاء من خلال الاقتداء بين الأقران. ويعد الاهتمام باللباس، وإطلاق اللحية، والتمسك بالطقوس الشكلية في الصلاة والتعبد، والفصل بين الجنسين، ورفض الموسيقى والتصوير، من السمات المميزة المؤكدة والمقدرة لهذا الاتجاه. لذلك، فإن صور ربيع المدخلي نادرة، ولا يوجد منها إلا بعض الكليشيهات المسروقة، والتي تضفي عليه هالة خاصة وكاريزما خارجة عن الزمن.

في خدمة الطموحات السعودية

عمل ربيع المدخلي في إطار الطموح السعودي لنشر السلفية عالميًا. وقد استفاد من امتيازات عديدة ومن نوع من الود من قِبل السلطة الملكية، التي كان يبادلها الولاء. تلقى تعليمه أولاً في الهياكل التعليمية التقليدية، ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي أسستها السلطات السعودية عام 1961، حيث أصبح لاحقًا أستاذًا في علوم الحديث. ورغم انضوائه تحت عباءة كبار العلماء الرسميين في البلاد مثل عبدالعزيز بن باز (توفي عام 1999) ومحمد بن عثيمين (توفي عام 2001)، وكذلك المحدث الشامي محمد ناصر الدين الألباني (توفي عام 1999)، إلا أنه نقل تعاليمه إلى العديد من الطلاب، خصوصًا الأجانب. وقد لعب هؤلاء عند عودتهم إلى بلدانهم دورًا رئيسيًا في تشكيل السلفية على المستوى العالمي. ولا تزال مؤلفاته مثل “البراهين الواضحة في حماية السنة” و“التحذير من ضلالات سيد قطب” تُترجم وتُوزع على نطاق واسع.

اكتسب المدخلي شعبية كبيرة بسبب تشدده تجاه بعض محاولات تسييس السلفية خلال تسعينيات القرن الماضي، والتي حمل لواءها، على سبيل المثال، السوري المقيم في الكويت محمد سرور. ومع ذلك، وعلى عكس ابن باز، لم يكن مرتبطًا مباشرة بالمؤسسة الدينية السعودية. فلم يكن عضوًا في هيئة كبار العلماء، وهي الهيئة الرسمية الممثلة للمؤسسة. وبذلك، حافظ خطابه على وهم الاستقلالية، مما منحه قدراً من التأثير والانتشار.

وعلى خلاف الألباني، الذي عبّر في تسعينيات القرن الماضي عن ارتباط جد محدود بالقضية الفلسطينية، حافظ المدخلي — رغم انتقاداته، خاصة لحركة حماس — على خطاب داعم لنضال الفلسطينيين. كما استخدم أحيانًا إشارات معادية للسامية، كما في كتيبه الصادر عام 2000 بعنوان “صرخة تحذير إلى الشعب الغاضب”. في نفس الوقت، حذّر من الآثار السلبية لاستخدام العنف، وهو ما فسّره خصومه في الساحة الإسلامية على أنه شكل من أشكال الانهزامية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

مرحلة التهميش

لكن مع مرور الوقت، بدأت الصلابة الأيديولوجية والوثوقية تُثير الملل والنفور. هكذا كان الحال داخل السلطة السعودية نفسها، التي باتت أكثر ميلاً إلى شكل من البراغماتية السلطوية، فتخلّت عن الأيديولوجيا الدينية التي كانت تُوصَف بالسلفية أو الوهابية. واعتبارًا من عام 2015، أدت الطموحات الجديدة للمملكة العربية السعودية، خاصةً تلك التي يقودها محمد بن سلمان، إلى تهميش السلفيين تدريجيا – سواء كانوا مدخليين أو غيرهم – والإسلاميين السنّة بشكل أوسع.

أما ربيع المدخلي نفسه، فلم يعد ينشط إلا في إطار الخلافات الداخلية بين السلفيين، موزّعًا اللوم أو “شهادات النقاء العقائدي” على باقي الشخصيات الدينية. أما الإسلاميون الأكثر انتقادًا للسلطة، فقد تعرضوا للقمع، مثل سلمان العودة، الذي اعتُقل منذ أزمة قطر عام 2017. وأما السلفيون المدخليون، فقد تم الاكتفاء بتهميشهم، وكأن دعواتهم المتكررة لطاعة الحاكم أسفرت عن حمايتهم. في الوقت ذاته، تراجع تأثيرهم داخل المجتمع، حيث حُرم طلاب ربيع المدخلي السابقون من الوظائف التي كانت توفرها “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، والتي استُغني عنها الآن.

على الصعيد الدولي، حُرم السلفيون - سواء كانوا مدخليين أو مرتبطين مباشرة بالمؤسسات الحكومية - أيضًا من الرافعة التي كانت تمثلها الجمعيات الإنسانية والدينية التي لا تُعد ولا تُحصى والتي كانت تتمتع بتمويل من الدولة، بالإضافة إلى مختلف وسائل الإعلام التلفزيونية. وقد مثّلت هذه المنظومة لعقود أداة أساسية لسياسة المملكة الخارجية للمملكة، لنشر “الإسلام على الطريقة السعودية” بدرجات متفاوتة من النجاح.

يُعد مصير ربيع المدخلي رمزًا للتحولات التي شهدها المجال الديني الإسلامي خلال العقد الماضي. إذ لا يزال السلفيون موجودين اليوم، لكنهم باتوا مضطرين إلى إعادة ابتكار أنفسهم، تمامًا كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين.

حلفاء جدد لأبوظبي

في هذا السياق، وجد المدخليون خلال العقد الأخير حليفًا إقليميًا جديدًا: الإمارات العربية المتحدة. ففي ليبيا، والسودان، واليمن، ظهرت شخصيات مرتبطة بالمدخلية، وقد فرض هؤلاء أنفسهم كحلفاء عسكريين رئيسيين لأبوظبي، وخصوم للقوى التي انبثقت - بشكل أو بآخر - عن الثورات العربية، والتي غالبًا ما تُرتبط بجماعة الإخوان المسلمين.

ففي شرق ليبيا، اعتمد المشير خليفة حفتر على مقاتلين مرتبطين بالتيار المدخلي، ومن بينهم الميليشيات التي يقودها أشرف ميعر وعبد الرؤوف كارة. وفي السودان، قام الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف بـ “حميدتي”، الذي أشعل الحرب عام 2023 ضد السلطة في الخرطوم، بتجنيد جماعات سلفية بموافقة مباشرة من الإمارات وبالتنسيق مع حفتر. ومن بين قادة الحركة الجنوبية في اليمن، يُعتبر هاني بن بريك، التلميذ السابق لربيع المدخلي، مدافعاً نشطاً عن السياسة الخارجية الإماراتية. وقد لعب دوراً محورياً في القتال ضد الحوثيين في عدن عام 2015، ثم ضد الحكومة المعترف بها دولياً والمدعومة من السعودية. وتُعدّ مشاركة هؤلاء السلفيين على المستوى العسكري في ساحات القتال المختلفة ذات أهمية خاصة للإمارات، لكون هؤلاء المقاتلين لا يخوضون في الشأن السياسي ويدعون إلى الولاء للسلطات.

بتجاهل البعد الديني في خطاب المدخليين، وبتبنيها لمبدأ “عدو عدوي هو صديقي”، تمرّ الاستراتيجية الإماراتية مرور الكرام. كما أنها لا تلقى انتقادات لاذعة من قبل الحلفاء الغربيين للإمارات، الذين يتوجسون خاصة من جماعة الإخوان المسلمين، ولا يمتلكون سوى فهم سطحي للسلفية وانقساماتها الداخلية. وقد شكّلت الهجمة الأخيرة التي شنّتها الحكومة الفرنسية ضد الإخوان المسلمين، عقب نشر تقرير في مايو/أيار 2025 حول “التوغل الإخواني”، مثالاً واضحاً على ذلك. في حين يؤكد باحثون في الشأن الإسلامي الفرنسي مثل فرانك فريغوسي ومارغو دازي، الباحثان في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، على التهميش التدريجي للفاعلين المقربين من الإخوان المسلمين، في مقابل الصعود المتزايد للسلفية ومعاييرها القيمية.

ورغم أن المدخلية قد فقدت من مصداقيتها في الفضاءات السياسية العربية، إلا أنها لا تزال تشكل مصدر تأثير فعلي، بما في ذلك في أوروبا وبين الأجيال الشابة. كما أن تأثيرها بين الرياضيين وبعض المغنين ليس بالأمر الهيّن وغالباً ما يُساء فهمه. فمنطق “النقاء” الذي تتبناه السلفية المدخلية ينسجم جيداً مع عصر تطغى عليه النزعات الهوياتية.

السُنيّة اليتيمة

تُجسّد وفاة ربيع المدخلي عن عمر متقدم أزمة قيادة. إذ يبدو أن اختفاء الشخصيات السنية العابرة للحدود – حتى لو كانت مثيرة للجدل –يُنهي مرحلة كان لا يزال فيها لبعض العلماء القدرة على تجاوز الأطر الوطنية. فقد توفي يوسف القرضاوي، المرجع الروحي لجماعة الإخوان المسلمين، في عام 2022 عن عمر ناهز 96 عاماً. وفي غزة، ساهم اغتيال قادة حركة حماس منذ عام 2023 في تعميق هذه الظاهرة. أما رجال الدين السعوديون، فهم نادراً ما يتصدرون المشهد ويفتقرون للمصداقية، مثل عبد الرحمن السديس (مواليد 1960)، إمام المسجد الحرام، وعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ (مواليد 1943)، المفتي العام للمملكة. وينطبق الأمر ذاته على العلماء الأتراك الذين تمّ تهميشهم، والمصريين والتونسيين الذين سُجنوا أو طُعن في مصداقيتهم. وهكذا تمرّ أزمة الحركات الإسلامية أيضاً، من خلال اختفاء الشخصيات البارزة التي كانت تحصّنهم شعبيتهم نسبيًا ضد القمع السلطوي. كما أصبح المشهد الجهادي ضبابياً وغير واضح المعالم.

وعلى الرغم من وجود الإنترنت، فإن القمع، والتصفيات الجسدية، ومرور الوقت، والانقسامات – التي تغذيها الخلافات الداخلية الجدلية بين السلفيين – والسيطرة على الفضاء الإعلامي، جعلت من السنة تيارًا يتيماً يفتقر إلى تعبيرات سياسية حقيقية أو شخصيات مؤثرة إعلامياً. يتناقض غياب هؤلاء الموجهين بشكل صارخ مع استمرار وجود شخصيات مؤثرة بين الشيعة والإباضيين وبعض الطرق الصوفية. ومن بين هذه الشخصيات، المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي (مواليد 1939)، ومفتي سلطنة عمان أحمد الخليلي (مواليد 1942)، وعلي الجفري (مواليد 1971)، عالم من الطريقة آل باعلوي، الذي يدعو إلى إسلام يتمحور حول الروحانية والتنمية الذاتية. ومع ذلك، فإن هذه الشخصيات غالباً ما تكون متقدمة في السن وتنتمي إلى فروع أقلّيّة من الإسلام.

إن أزمة القيادة، على عكس ما يعتقده الحكام الذين يقيدون المجال الديني في المجتمعات الإسلامية، ليست ضمانة للاستقرار أو للتهدئة. فهي لا تقضي على مشاعر السخط، ولا تحد من قدرة الإسلام على أن يكون وسيلة للتعبير والتعبئة.