غزة، من “رباعي” إلى آخر: نفس الوصفات، ونفس الإخفاقات

في 29 أيلول/سبتمبر 2025، تم الإعلان عن خطة ترامب ذات العشرين نقطة التي فرضت بموجبها واشنطن وقفاً لإطلاق النار في غزة. وبذلك تم وضع حدّ (مؤقت) للحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي منذ عامين، مقابل إطلاق سراح الرهائن والأسرى الإسرائيليين والفلسطينيين. إلا أن هذه الخطة تحتوي على عناصر عقائدية كانت موجودة بالفعل في مشروع اللجنة الرباعية للشرق الأوسط الذي ظهر في 2002، في وقت كان فيه “سلام أوسلو” يحتضر.

اجتماع في المكتب البيضاوي مع عدد من القادة والشخصيات السياسية حول طاولة.
واشنطن، 29 سبتمبر/أيلول 2025. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اجتماع ثنائي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المكتب البيضاوي لمناقشة خطة السلام الأمريكية لغزة.
الصور الرسمية للبيت الأبيض/دانيال توروك

“رباعي الشرق الأوسط” هي مجموعة تضم ممثلين عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا الاتحادية. وقد ارتبط تأسيسها عام 2002 بالانتفاضة الثانية، وانهيار عملية أوسلو بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 وطابا في كانون الثاني/يناير 2001، وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة. وقد تطوّرت مهام الرباعية بمرور الوقت، وكان أبرزها الإشراف على “خريطة الطريق” (نيسان/أبريل 2003)، التي كانت بمثابة دليل استخدام يُفترض أن يرشد الإسرائيليين والفلسطينيين في “مفاوضاتهم”. ورغم أن تلك الظروف التاريخية قد اختفت اليوم، إلا أن الرباعي لا يزال قائماً، دون أن يعرف مكانه ولا ما يقوم به.

كانت هجمات القاعدة على الولايات المتحدة في 11 أيلول/سبتمبر 2001 هي التي “ابتكرت” الرباعي، لتجعل منها الأداة التمهيدية للمعطى الدبلوماسي الجديد في الشرق الأوسط. فغداة هجمات 11 أيلول/سبتمبر، اتفق ممثلو الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة وروسيا على التدخّل بشكل مشترك في غزة، بالقرب من ياسر عرفات، لكي يقر بشكل علني بأنه أدرك أن العلاقات بين الغرب والشرق ستتغير، وأن لا خيار أمامه سوى الاصطفاف وراء الذين يخوضون "الحرب على الإرهاب“. وقد جاء إعلان الرئيس الفلسطيني، في 18 أيلول/سبتمبر 2001 من غزة، عن وقف إطلاق النار، استجابة لهذا المطلب المشترك، ومهّد الطريق لشكل جديد من العلاقة بين”المجتمع الدولي" والفلسطينيين.

وإذا كانت اللجنة الرباعية قد أنشئت رسمياً عام 2002، فإنها بدأت تنضج فعليا خلال ذلك الأسبوع من أيلول/سبتمبر 2001. وينبغي فهم ظهورها على الساحة الشرق أوسطية في إطار التحالف الدولي الذي تشكل للقضاء على تنظيم القاعدة والاطاحة بنظام طالبان الذي كان يؤوي أسامة بن لادن في أفغانستان. وكانت من مطالب الرباعي ضرورة أن “يتم وضع حدّ للعنف والإرهاب بمجرد أن تتوفر للشعب الفلسطيني سلطة تتصرف بحزم ضد الإرهاب”.

الحرب على الإرهاب

لا يمكن تشبيه الجرائم التي ارتكبتها “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بالإرهاب الدولي لعام 2001، رغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يرى استمرارية بين “حماس” و“الجهاد الإسلامي” وإيران و“حزب الله” والميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق و“الحوثيين” في اليمن. وقد بدا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تبنّى لفترة هذا التصور الشمولي، عندما أوصى بأن “التحالف الدولي ضد داعش (...) يمكنه أيضاً محاربة حماس” (القدس، 23 تشرين الأول/أكتوبر 2023).

ويظهر هذا المطلب للـ“حرب على الإرهاب” أيضا في خطة ترامب، بل ويأتي في بندها الأول:


ستكون غزة منطقة خالية من التطرف، حيث لن يكون للإرهاب وجود، ولن تشكل تهديداً لجيرانها“. بمعنى آخر، يجب على حماس وحلفائها نزع سلاحهم، وإلا فسيواجهون ويلات الجيش الأمريكي. وسيخضع نزع سلاحهم لـ”إشراف مراقبين مستقلين".

يجب أن ينظر إلى خريطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية وخطة ترامب على أنها ردّ فعل دفاعي من جانب الغرب (وإسرائيل)، في مواجهة الإرهاب الدولي بالأمس، والمقاومة المسلحة لحركة حماس اليوم.

فكرة “السلام المفروض”

في مطلع سنوات 2000، ونتيجة لفشل المفاوضات المتكرر، نضجت فكرة “السلام المفروض” من قبل المجتمع الدولي، أو على الأقل “تدخّله القسري”، ما دام الإسرائيليون والفلسطينيون عاجزين عن التوصّل إلى اتفاق بمفردهم. فبينما كان معظم الإسرائيليين يرفضون التدخل الخارجي، لم يكن الفلسطينيون يعارضون حضوراً دولياً أقوى، تجنباً لأن يجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة إسرائيل. وصار الرباعي إحدى أدوات التدخّل في الشأن الفلسطيني. وهو الذي تكلّف بشكل خاص بين 2002 و2003 بإفهام ياسر عرفات بأنه حان الوقت لاستحداث منصب وزير أول، كوسيلة لتجريده من جزء من صلاحياته. وسيتولى هذا المنصب محمود عباس (أبو مازن) الذي، حينما أصبح رئيساً للسلطة الفلسطينية، ظهر أنه متقبل جدا للمطالب الأمريكية والإسرائيلية، مستبدلاً النضال ضد الاحتلال بـقمع حماس. كما كانت اللجنة هي أيضا التي نصحت الفلسطينيين بانتظام بقبول هذا التنازل أو ذاك بحجة أنه سيليّن المواقف الإسرائيلية. وكان ذلك دون أن تمارس أي ضغط فعلي على إسرائيل، خصوصاً فيما يتعلق بالاستيطان في الضفة الغربية والقدس.

وخطة ترامب هي رمز حقيقي لهذا السلام المفروض، والذي لا يمكن إنكار فضيلته الأولى المتمثلة في المطالبة والحصول على وقف إطلاق النار. وتنصّ الخطة على أن تُحكم غزة من قبل “سلطة انتقالية مؤقتة تتكوّن من لجنة فلسطينية تكنوقراطية وغير مسيسة، تتكفل بضمان السير اليومي للخدمات العامة والبلديات لصالح سكان غزة”.

كان مفهوم “الحكم التكنوقراطي” — أي حكم منزوع من أي عنصر سياسي وأي مطلب قومي، والذي يقصي حماس طبعاً — قائما بالفعل في 2007 (حكومة سلام فياض) وفي 2013 (حكومة رامي الحمد الله).

ووفق بعض المعلومات الأولية، ستتألف هذه السلطة الانتقالية المؤقتة من سبعة إلى عشرة أعضاء، لا يكون بينهم سوى فلسطيني واحد. ووفق منطق مصمميه، لا يمكن أن يكون هذا الفلسطيني الوحيد سوى رجل أعمال أو مسؤولاً أمنياً. وكان يمكن لمحمد دحلان، المسؤول الفلسطيني على الأمن في غزة أيام عرفات، أن يجمع تماما بين الميزتين، نظراً لكرهه لحماس، وقربه من إسرائيل ( ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وفق ما يقال)، وشبكاته الإقليمية العربية التي شكلها انطلاقا من منفاه في الإمارات العربية المتحدة وتعطشه للمال. لكنه يبدو اليوم دون مصداقية داخل المجتمع الغزّاوي الذي لن يتقبله بسهولة .

عودة توني بلير

ستُوضع هذه السلطة تحت “إشراف ومراقبة هيئة دولية انتقالية جديدة تُسمّى”مجلس السلام“، بقيادة ورئاسة الرئيس دونالد ترامب. وسيُعلن لاحقاً عن أعضاء ورؤساء دول آخرين، من بينهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير”. بعبارة أخرى لن يكون للغزاويين سوى صلاحيات بلدية: إعادة بناء مدارسهم ومستشفياتهم وطرقاتهم أو يتكفلون بجمع النفايات المنزلية. وهي نفس الصلاحيات البلدية التي سبق أن خُصّصت لهم في الاتفاق المؤقت بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة (أوسلو الثاني 1995).

وكون “المجلس الدولي للسلام” بقيادة قبل واشنطن مع وجود توني بلير في المناورة، الذي يبدو أنه ”لا يصدأ أبداً“، يجعله يشكّل تذكيراً آخر بفترة أوسلو.

سبق وأن عيّن توني بلير بشكل أحادي من قبل الولايات المتحدة سنة 2007 كمبعوث للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط. وكان هو من تخيّل تلك المشاريع الباهرة ذات “الأثر السريع”، مثل محطة لتنقية المياه في غزة، ومساكن في الضفة الغربية، ومناطق صناعية، وتطوير ما سُمّي بـ “ممر السلام والازدهار”، وغيرها من المشاريع التي كانت، تحت غطاء التقدّم الاقتصادي الذي يُفترض أن يستفيد منه الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء، تُخفي في الواقع ترسخها العميق في هياكل الاحتلال. ولم يحتفظ الفلسطينيون بذكريات طيبة عن تلك المرحلة.

تعكس اللجنة الرباعية، والسلطة الفلسطينية الانتقالية، و“مجلس السلام الدولي” قناعة أمريكية وإسرائيلية واحدة: هي أن الفلسطينيين لا يزالون في مرحلة طفولية من تاريخهم، وليسوا ناضجين بعدُ لتولّي تقرير مصيرهم بأنفسهم وتحمل مسؤوليات دولة. لذا يجب أخذهم من يدهم وقيادتهم إلى “الطريق الصحيح”، ولو اقتضى ذلك اللجوء إلى شيء من الشدّة والتسلط إذا أظهروا تململا أو معارضة.

تفرّد الولايات المتحدة

حين كانت “اتفاقيات أوسلو” تتلاشى تقريباً، كانت واشنطن تنظر إلى الرباعي الدولي على أنه مجرد غرفة تسجيل لمواقفها. وقد برزت عدة مبادرات دبلوماسية وأمنية من وحي أمريكي بداية سنوات الألفين: خطة تينيت الأمنية (باسم مدير وكالة المخابرات الأمريكية)، ومهمة زيني الدبلوماسية (باسم الجنرال المتقاعد من مشاة البحرية)، ولجنة السيناتور ميتشل للتحقيق الدولي، ومعايير الرئيس كلينتون، وورقة طريق الرباعي. وقد اتسمت كلها بأنها لم تطلب أو تستمع إلى رأي أو موافقة الشركاء أو حلفاء الولايات المتحدة. كانت كل هذه المبادرات تنتظر من حلفاء أو شركاء واشنطن أن يكونوا من المروجين لها لدى عرفات. وبغض النظر عن مزايا كل منها، عملت هذه المبادرات كجماعة ضغط — أو “لوبي” — مصممة على إقناع او حتى إكراه شركاء واشنطن الدبلوماسيين على التأثير على الطرف الأضعف أي الفلسطينيون.

من المرجح جدًّا أن يتبع مجلس السلام التابع للرئيس الأمريكي المسار نفسه، حيث يُنظر إلى الشركاء الدوليين على أنهم مدينون بالولاء. ولا تتضمن خطة ترامب أية إشارة تتعلق بالمسؤولية والمحاسبة: إلى من يجب تقديم تقرير عن الوضع؟ وأمام من يجب تفسير الخيارات التي تتخذها الولايات المتحدة؟ ومن سيتحمل عواقب القرارات المتخذة؟ ومن سيحكم على التقدم المحرز؟ كانت هذه هي الأسئلة بالأمس، وهي نفسها اليوم.

وفي عهد الرباعي، أوضحت الولايات المتحدة بأن مصالحها القومية — بما في ذلك علاقتها الاستراتيجية الخاصة مع إسرائيل — لا يمكن أن تندثر في إطار رباعي متعدد الأطراف في شكله (روسيا، الاتحاد الاوروبي، الامم المتحدة). ولم يعد هذا الخطر قائماً، إذ حسم وأغلق مهندسو خطة ترامب جميع العناصر التي تتكون منها. لكن تظل مسألة تكوين مجلس السلام دون إجابة. ومن المتوقع أن يضم “أعضاء ورؤساء دول”. هل هم حلفاء عرب؟ أم قادة سياسيون شاركوا في اتفاقيات أبراهام (2020)؟ أم أوروبيون؟ أم آخرون؟ أم إسرائيليون؟

ضمان أمن إسرائيل

في عهد عرفات، تكلّفت اللجنة الرباعية بتذكير الرئيس الفلسطيني بشكل منهجي بأن الإرهاب ضد إسرائيل خارج “الخط الأخضر” غير مقبول سياسيا وأخلاقيا، ولا يمكن تعريفه على أنه مقاومة. ولا تقول خطة ترامب شيئا غير ذلك، وإذا كانت تذكر قطاع غزة فقط، فمن الواضح أنها تنطبق على الضفة الغربية أيضاً.

كانت “خطة تينيت” (2001) عبارة عن اقتراح بوقف إطلاق النار واستئناف التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وكانت تندرج في سياق الانتفاضة الثانية (2000–2005)، التي تميزت بتصاعد حدة المواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكانت تنص على تكوين الشرطة الفلسطينية تحت إشراف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وقد شكلت قاعدة تقنية لعمل الرباعي، وجعلت نفسها في موقع متقدم لعملية سياسية كانت تتبلور في خطوطها العريضة. وتهدف قوة الاستقرار الدولية المؤقتة في خطة ترامب إلى نفس الهدف تماماً: إعادة تشكيل قوة شرطة فلسطينية لضمان الأمن على طول “الخط الفاصل” بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وبالتالي منع أي هجمات أو توغلات داخل إسرائيل، وخاصة انطلاقا من مصر.

وستكون الأردن، الى جانب مصر، من الدول المكلفة بالمساهمة في تكوين الشرطة الفلسطينية، وهي معتادة على هذه المهمة. فبين 2005 و2010 ، تم تكليف اللواء كيث دايتون بهذه المهمة من عمان. وتحدد خطة ترامب مسارا سياسيا، وتنص على أن “الولايات المتحدة ستُنظّم حواراً بين إسرائيل والفلسطينيين للتوصل إلى اتفاق بشأن أفق لتعايش سلمي ومزدهر”. وهو تصريح حالم ينضح برائحة التفاوض والاعتدال أو التسوية.

لقد اهتمت اللجنة الرباعية بالمشاريع الاقتصادية أو التدابير الرامية إلى تخفيف القيود الإسرائيلية. وكان الأفق يتمثل في إرساء الأسس الاقتصادية لدولة قابلة للحياة، وليس القيام بأعمال تجارية بشكل علني. وكان شمعون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، يدافع منذ فترة طويلة عن فكرة أن الازدهار الاقتصادي يقترن بالسلام (الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر/أيلول 1993، ”يمكن أن تصبح المنطقة مزدهرة، وليس مجرد منطقة سلام“). كانت هذه الفكرة تغذي بانتظام الخطابات أيام الرباعي. وكان سلام فياض، رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك، قد صرّح في 2008: ”يمكنكم ممارسة الأعمال التجارية في فلسطين“. كان الجميع يربطون بين الاقتصاد والسلام، باعتبار أن الاقتصاد سيؤدي إلى السلام. لكن خطة ترامب أقل حياءً. فبالنسبة لرجل الأعمال هذا الذي أصبح رئيسًا، هناك مشاريع مذهلة في متناول اليد على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وفي غزة، كل شيء بحاجة إلى إعادة بناء.

فحيث لا يرى الفلسطينيون سوى الدمار والخراب، يرى ترامب ورشة هدم ضرورية لبناء ”مدن حديثة“ مثل تلك الموجودة في الشرق الأوسط. وقد تم بالفعل وضع الخطوط العريضة لمشروعه من قبل صهره جاريد كوشنر، الذي تحدث منذ عام 2024 عن إنشاء ”منتجع دولي“ في غزة، وهو ما أكده الرئيس نفسه في فبراير/شباط 2025 عندما قال إن ”غزة يمكن أن تتفوق على موناكو“ أو أن تصبح ”ريفييرا الشرق الأوسط“. وبالتالي، سيتم وضع خطة ترامب للتنمية الاقتصادية، وستدعو أفضل المطورين العقاريين الدوليين - الأنغلوساكسونيين على الخصوص - لبناء مدن جديدة. فهل سيكون من الضروري إخلاء غزة من سكانها لتنفيذ هذه المشاريع الضخمة وتسويقها؟