يلخِّص عمر. ل.، عاملٌ مؤقَّت بمنجم الفضّة “امضير”، الواقع بمدينة تنغير (جنوب غرب المغرب)، الوضع قائلاً: “نحن نعمل في ظروفٍ مزرية. فقانون العمل والنظام الأساسيّ الخاص بعمّال المناجم لا يُطبَّقان دائمًا، كما أنّ معايير الصحة والسلامة داخل المناجم منعدمة”. تستغلُّ هذا المنجم شركة امضير للتعدين (SMI)، أحد فروع مجموعة “مناجم” التابعة للشركة الوطنية للاستثمار، وهي شركةٌ قابضة تسيطر عليها الأسرة الحاكمة. تضمُّ مجموعة “مناجم” أربعة فروع، تُصنَّف ضمن أكبر 10 شركات في قطاع الطاقة والتعدين المغربيّ من حيث حجم الأرباح. ويتحدث عمر.ل. بحرصٍ شديد، فالضغط الهائل الذي يخضع له عمّال المناجم يجعلهم يخشون التعرُّض لردود فعلٍ انتقاميةٍ من قبل المُستخدِم، وهو في تلك الحالة شركة “جلومين” للمناوَلة، التي تستغلُّ منجم امضير. يضيف عمر: “تمارس شركات التعدين في تلك المنطقة ضغوطًا هائلةً على العاملين لقمع احتجاجاتهم”. بعد فترة احتجاجية قصيرة عام 2011، تراجع حراك عمّال المناجم تحت وطأة قمع النقابة، وتقسيم العاملين عن طريق تعيينهم وفقًا لنظم تشغيلٍ مختلفة.
استغلالٌ حادٌّ للتربة والعمّال
تزخر تربة جنوب غرب المغرب بالمعادن النفيسة، من منجنيز وباريت وحديد هيماتيت وكوبالت وملح وزنك ورصاص وبروفيليت وفضّة وذهب، وهو ما جعل منها أرضًا خصبةً لأنشطة تعدينٍ مكثَّفة. وتتركَّز حوالي 40% من تصاريح استغلال المناجم في المغرب في جهة “درعة تافيلالت”، باستثناء الفوسفات. وقد تمَّ استصدار 350 تصريحًا في تلك المنطقة في آخر خمس سنوات فقط.
وتسيطر “مناجم” منذ عدّة عقودٍ على أماكن التعدين الأساسية في المغرب. ومن بين المناجم الثمانية التي تمتلكها المجموعة، هناك ثلاثة مواقع رئيسية نشطة في مناطق بوازار وامضير والبليدة، بالإضافة إلى موقعٍ في طور الإعداد في سكورة. وتتمثَّل مهمّة فروع “مناجم” الرئيسية في إمداد مضاربي المجموعة في البورصة بأقصى حدٍّ من السيولة النقدية. ويحول هذا الهيكل التنظيمي للمجموعة دون الدّفع بها أو بشخص الملك في صدارة المشهد. إلا أنَّ هذا الملف يلاحق المؤسسة الملكية منذ عام 2011، حيث أثار العمّال القضية المتعلِّقة بطرق إدارة الموارد البشرية في مواقع العمل، بينما تم إسناد الملف “المزعج” الخاص بظروف العمل إلى شركات التشغيل المؤقت.
يعدُّ منجم بوازار، والذي يقع على بعد 550 كم من الدار البيضاء، أحد المناجم التاريخية المملوكة لمجموعة “مناجم”، والتي شرعت في استخراج الكوبالت والذهب من هذا الموقع عام 1930، تحت الاحتلال الفرنسي. وقد أوقفت المجموعة العمل بالمنجم عام 1983، قبل أن تستأنف نشاطها بعد أربعة أعوام، حيث أسنِدَ تعيين عمال المنجم القدامى إلى شركة تشغيل مؤقَّت. منذ ذلك التاريخ، بدأت حلقةٌ متواصلةٌ من زعزعة وضع العمّال. فأوضاع العمل آخذةٌ في التدهور بشكل مستمر منذ 30 عامًا. يقول حميد.م.، عامل منجم سابق تم تسريحه لأسباب نقابية: “صارت حوادث الوفاة داخل أمرًا شبه عاديّ. حين يموت أحد العاملين لحساب شركةِ مناولةٍ في الموقع، تستلم أسرته الجثة دون فتح تحقيق. كما تُخصَم تكاليف الدفن من رواتب العمال الآخرين، ونادرًا ما تحصل أسرة المتوفّى على تعويض”. وفقًا لإحصاء أجراه عمال المناجم النقابيين، هناك 11 حالة وفاة وقعت بين 2005 و 2012. والأسباب متعدِّدة؛ فهي إمّا ناجمة عن انهيارٍ صخري، أو عن اصطدامٍ بآلات التعدين، أو عن استخدام المتفجِّرات في مناطق إمّا محظورة أو مهجورة، أو خطرة غير صالحةً لاستخدام العبوّات الناسفة. “لو كانت هناك لجنة للصحة أو السلامة في العمل داخل المنجم كما تنص مدوّنة الشغل، كان يمكن تفادي جزءٍ كبيرٍ من تلك الحوادث”، بحسب مصدرٍ فضّل عدم ذكر اسمه في “اكدز”. هذا ولم تردُّ إدارة التواصل بمجموعة “مناجم” على طلبنا إجراء حوارٍ معها.
وحتى لو لم يتسبَّب العمل المنجميّ في موت العمال، فهو يسبِّب لهم أضرارًا صحية؛ إذ يعاني عمال المناجم بصفة أساسية من أمراض الرئة، خاصّةً السحار السيليسي (silicosis). ويشكو العمّال المؤقّتون على مستوى المنطقة من الصعوبات التي يواجهونها في تحمُّل أعباء هذا المرض المهنيّ. ويتّهم لحميد.ل. الأطباء المختصّين بـ“تقاضي رشاوى من شركات التعدين من أجل رفض ملفّات العمال”.
وفي “إيميني”، مدينة جنوبية بالقرب من ورزازات، تستغلُّ شركةٌ أخرى غير “مناجم” منجمًا للمنجنيز، ألا وهي “الشركة المجهولة الإسم الشريفة للدراسات المعدنية”، والتي تستحوذ على هذا الموقع منذ عام 1929. ويعدُّ السحار السيليسي أحد الأمراض المهنيّة الرئيسية التي تصيب عمّال الشركة. يقول مصطفى .أ.، أحد عمال إيميني، مستنكرًا: “يكفي أن تظهر أعراض المرض على أحد العمّال، حتى يتمّ تسريحه لأسبابٍ واهية”. فقد تلجأ شركات المناولة لتسريح العاملين، للتنصُّل من تحمُّل تكاليف أمراض عمّالها المهنية. في مواجهة ظروف عملٍ قاسيةٍ كهذه، حاول العديد من العمال المطالبة باحترام القانون في عدّة مواقع تعدين.
ربيع بوازار
في ابريل عام 2011، في ذروة ربيع الشعوب العربية، تظاهر العمّال المؤقَّتون بمنجم بوازار للكوبالت ضدَّ الإدارة والنقابة المتواطئة معها. نُظِّمَ أوّل اعتصام في 22 ابريل. “لم يكن هناك مفرٌّ من القيام بتلك الخطوة”، بحسب أحد العمال المعتصمين في ذلك الوقت، والذي تمَّ تسريحه من الشركة لاحقًا. في 24 ابريل، كوّن 60 عاملاً لدى شركتيّ المناولة Top Forageو Agzoumi، نقابةً جديدةً في الموقع، تابعةً لاتِّحاد العمل الديمقراطي. طالب هؤلاء العمال، الذين يعانون من أوضاع عملٍ غير مستقرّة، بحقِّهم في إجازاتٍ أسبوعيةٍ وسنويةٍ مدفوعة الأجر، وفي الحصول على تعويضاتٍ عن حوادث العمل، وكذا بحقّهم في التأمينات الاجتماعية، وفي التثبيت على وجه الخصوص، حيث تعدّت فترة عمل البعض الـ10 سنوات. وتوضِّح إحدى المطالَبات ظروف العمل البدائية المحيطة بالعمال: حيث حارب العمّال لمدة 6 سنواتٍ لإجبار إدارة المنجم على زيادة حصّة الصابون المخصَّصة لهم في نهاية اليوم!
استمرَّ ذلك التمرُّد لمدّة عامٍ ونصف، وانتهى بحصول العمّال على مكاسب هزيلة، كتوزيع أقنعةٍ واقيةٍ عليهم أو منحهم بطاقاتٍ مهنية. بعض العمّال تم إيقافه، والبعض الآخر تسريحه، وحُكِم على ثلاثةٍ منهم بالسجن المشدَّد بتهمة “عرقلة حرية العمل”، طبقًا لأحكام الفصل 288 من القانون الجنائيّ. “لم تكتفِ الإدارة بتسريحنا، بل سعت جاهدةً لإقناع جميع مناجم المغرب بعدم تشغيلنا”، وفقًا لشهادات أحد العمال. ويضيف أحد العمّال السابقين قائلاً: “الرسالة واضحة: في مناجم جلالته، لا مكان للحركات الاحتجاجية”. يؤكد محمد عتماني، سكرتير عام رابطة العمل الديمقراطية، قائلاً: “من الآن فصاعدًا، أصبح العمل النقابيّ محرَّمًا على العمّال المؤقّتين. إذ صار التعبير عن الرأي قاصرًا على نقابةٍ واحدةٍ تابعةٍ للإدارة”. لا يعدُّ الوضع في بوازار استثناءً، إذ يرتبط نظام المناولة الصناعية (أو التعاقد من الباطن) بتدهور ظروف العمل في المناجم. في امضير، تعمل 12 شركة مناولةٍ في ذات الوقت. “أعمل بشكل مؤقَّت منذ 7 سنوات. نحن نتلقّى رواتب أقلَّ بثلاث مرّاتٍ من رواتب العاملين بالشركة الأم، دون ذكر ظروف العمل والمزايا الاجتماعية التي يحظون بها”، كما يؤكِّد عمر.ل. ومنجم امضير هو أحد المواقع النادرة التي استطاع العاملون بها انتزاع بعض حقوقهم، عقب معركةٍ شهيرةٍ قادوها في بداية تسعينيات القرن الماضي، وهو ما يعد استثناءًا. فبفضل نضال نقابة الشركة الأم، أجبر العمال الإدارة على منع التعاقد من الباطن في أعمال التنقيب. يقول عمر.ل.: “يتمثَّل عملنا في تجهيز الطريق للوصول إلى المادة الخام، عن طريق تمهيده وإنارته، وهي مهامٌ تنطوي على مخاطر جسيمة. في كل مرة ننزل تحت الأرض، لا نعلم ما إذا كنا سنصعد إلى السطح أحياءً ام أموات”. في هذا السياق، تنحصر حماية السلطات العامة لعمّال المناجم في حفنة نصوصٍ لا تطبَّق على أرض الواقع.
منظَّمة العمل الدولية تلقي باللّوم على المغرب
صدَّقت المغرب عام 2013 على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 176 بشأن السلامة والصحة في المناجم، وهي خطوةٌ انتظرت 18 عامًا لاتّخاذها. يتكوَّن التشريع المغربيّ الخاصّ بحماية العاملين في هذا القطاع من مدوَّنة الشغل والنظام الأساسيّ لشركات التعدين، الذي يعود إلى عام 1960. يطبَّق هذا الأخير على شركات التعدين التي تضمُّ أكثر من 300 عامل. وللتهرُّب من ذلك الضابط، تضاعف الشركات من حيَلِها، وبالتالي فهي تلجأ إلى التعاقد مع شركات مناولةٍ في ذات الموقع من أجل تفادي تطبيق النظام الأساسي. يستثني هذا الأخير في الواقع شركات التعدين صغيرة الحجم وشركات المناولة التابعة لها، وهو المعيار الذي تستنكره منظمة العمل الدولية. وفيما يخصُّ الأمراض المهنية والحوادث الخطيرة في مواقع التعدين، تطالب المنظمة المغرب بتحسين قوانين ووسائل الإنقاذ. من أجل إنفاذ تلك الإجراءات، يتعيَّن على وزارة الطاقة والتعدين المغربية مجابهة نفوذ الشركة القابضة الملكية الطاغي.
إلا أن التزامات المغرب في إطار الاتفاقية-الإطار للأمم المتحدة حول التغيُّرات المناخية لم تأتِ على ذكر هذا الموضوع من الأصل، وهو صمت قد يفسِّره ما للمكتب الشريف للفوسفات، المعروف بكونه مصدرًا كبيرًا للتلوث، من وزنٍ هام في الاقتصاد الوطنيّ. من جانبها، تلعب “مناجم” على ورقةٍ رابحة؛ فوزيرة الطاقة والتعدين السابقة أمينة بن خضرا، هي عضوةٌ في مجلس إدارتها، وهي تشغل الآن منصب مدير المكتب الوطني للهيدروكاربورات والمعادن (ONHYM)...