كانون الأول/ ديسمبر 2015: رفضَ مكتبُ سلطةِ الحجرِ الصحّي في وزارة الزراعة المصريّة حُمولَتين من القمحِ الفرنسيِّ الذي يقومُ ببيعِهِما الوسيطُ الأميركيّ بونج Bunge، أي ما يعادلُ 63000 طنّاً1.
يستطيعُ ذلك الطفيليُّ الصغير الذي ينمو على الحبوب أن يتسبَّب بكوارث، ومن الطبيعيِّ أن يُثيرَ هلعَ الرأي العام، ليس في مصر وحسب. فمن عوارضِ مرضِ الأرغوت التقيَّؤ، والصداعُ الشديد، وتشنُّجات عصبيّة توصَف ُبالـ“شيطانية” واضطراباتٌ سلوكيّة قد تصِلُ حدَّ الهُواس. يّحكي ستيفان كابلان Steven Kaplan في كتابه الصادر في 2008** عن تسمُّمٍ تعرَّضت له قريةٌ على ضفافِ نهر الرون، بون سانت إيسبري Pont-Saint-Esprit عام 1951. أتى هذا التسمُّم نتيجةَ طُفيْليِّ الأرغوت فأصيب 300 شخصاً، وتوفي سبعةُ أشخاص وتمَّ حجزُ خمسينَ فرداً في مستشفى للأمراض العقلية! إلا أنَّ مرضَ الأرغوت الذي كان فتّاكاً حتى القرن الثامن عشر قد اختَفى منذ أكثرَ من نصف قرن، والحالاتُ النادِرةُ المعروفةُ تنتُج عن مسبِّباتٍ دوائيّة. بالإضافةِ إلى أنَّه يجب استِهلاكُ كمِّيّات كبيرةٍ من الطحين الملوَّث كي تظهرَ عوارضه.
مواجَهة حاسِمة مع شركات “إي بي سي دي كومبانيز” ABCD companies
ذلكَ هو لقبُ الرباعيِّ العملاق، يُنسبُ إلى الحروف الأولى من أسماءِ الشركات التي تُكوِّنه : ألف من أرشر دانيل ميدلاند Archer Daniels Midland، باء من بونج Bunge ، سي من كارجيل Cargill ، والدال من لويس دريفوس – وهي شركاتٌ تُسيطر منذ أكثرَ من قرنٍ على تجارةِ الزراعةِ الغذائيّة العالميّة. قلقُ الرباعيِّ إذن: فمصر، وهي أحدُ أكبرَ زبائنِه، قد قَبلت حتى اليوم بالمقياس العالمي وهو0.05% من نسبة الأرغوت في القمح. فلماذا فجأةً تمَّ فرضُ 0%؟ يجيب سعد موسى، مديرُ مكتبِ سلطةِ الحجْرِ الصحِّيِّ، أنَّ الهدفَ الأساسيَّ هو وضع الزراعات المحلّيّة على منأى من أيِّ احتِمالِ عدوى بالأرغوت. وهنا تبدأ المواجَهة الحاسِمة. يرفضُ الرباعيُّ أربعَ عطاءاتٍ مُتَتالِية، ولا يستطيع الحصولُ على نسبةِ 0% من الأرغوت في القمح، فالبضاعةُ ليسَت متوفِّرةً في السوق. ثمَّ تذهبُ شركةُ بونج بالخلافِ إلى المحكَمة، ويتمُّ نقضُ العقد. يلاحظ آل كونوي Al Conway ، مُتداوِلٌ أمريكيّ وصاحبُ شرِكة استِشارات Cascade Commodity Consulting LLC معروفة بإلمامِها الكبير بتجارة القمح: “باتَت التجارة مُثيرةً للقلق والخوفِ بسببِ الرسميّين الذين يختلِفون فيما بينِهم”2.
في السادس من آذار/ مارس الماضي، تتمُّ إقالةُ سعد موسى، وتعيين ابراهيم أحمد امبابي، أخصّائيٌّ في علمِ الوِراثة على رأسِ سلطةِ الحجر الصحّي. ولكن لم تَجد حلّاً. فمقياس “0 أرغوث” بَقِيَ مَعمولاً به إلى أن يتمَّ تحديدُ مقياسٍ جديد يحلُّ محلَّ النصَّين المَعمول بِهما: مرسومٌ يعودُ إلى 2001 يُعطي الحقَّ لسلطة الحجرَ الصحِّي (0%) ومرسومٌ آخر أكثرُ حداثةً يعودُ إلى 2010 يُرجِّح كفَّةَ الحقِّ لجهةِ الرباعيّ (0.05%). عدا عن ذلك، يتقاسَمُ مسؤوليّة الملفِّ ثلاثةَ وزراء: “يشتري وزيرُ التموين القمح، بينما يقومُ وزيرا الزراعةِ والصحَّةِ بفحصِه” ( الأهرام، 17 شباط/ فبراير 2016). وللفصل، أُخِذ القرارُ بالاحتِكام إلى خبيرٍ من الفاو FAO، منظَّمةِ الأممِ المتَّحدة المعنيّة بالزراعةِ والتغذِية“. سيتطلَّب الأمرُ أسابيع، لا بل أشهر”، بحسبِ تقدير المُلحقِ الزراعيِّ للولايات المتَّحدة في القاهرة3.
الخبزُ قبلَ أيِّ شيء
بانتِظار حلٍّ للمشكلة، يُشكِّل هذ الوضعُ المعقَّد خطَراً سياسيّاً للرئيسِ عبد الفتّاح السيسي، حتّى وإن أكَّد وزيرُه أنَّ مخزونَ القمحِ يغطّي حاجاتِ البلدِ لشهرِ أيّار/ مايو، لا بل حزيران. فللخبزِ مكانةُ رئيسيّة في الحياةِ المصريّة. فشعارُ المعتصِمين في ساحةِ التحرير في شباط/ فبراير 2011 كانَ “خبزٌ، وحريّةٌ وعدالة”، وكانوا يهتفونَه بالترتيب المذكور. في الماضي، اضطُرَّ أنور السادات وحسني مبارك لمواجهةِ مظاهراتِ خبزٍ عنيفةٍ حين حاوَلا “عَقلَنة” الآليَّة المعقَّدة التي توفِّر لأكثرَ من 80% من المصريّين خبزاً بسعرٍ زهيد إنَّما مكلفٍ جدّاً للخزينة العامّة. فالدولةُ تشتَري 19.4 مليون طنّاً من القمح لتغذّي السكان وتؤمِّن لهم أرغفتَهم الخمسةَ اليوميّة؛ ومن هنا يبدو موسِم 2016-2017 صعباً. في أحسنِ الحالات، يقدّم نصفَ هذه الكمية المُزارِعون الذين يبلغُ عددُهم 3 مليون مزارعاً والذين يقومون مُغرَمين بزراعةِ الحبوب، بثمنٍ يبلغ ضعفَي إلى ثلاثةِ أضعافِ سعر السوق العالمي، والمُزوِّدون يقدِّمون مُعظم الكمِّيّة المطلوبة. في الموسمِ الماضي، بلغت الاستيراداتُ 10.6 مليون طنّاً، وفي ذلك نقصٌ بنسبةِ 400000 طن لتلبيَةِ الهدفِ الرسمي. هذه السنة، يتوجَّب استيرادُ كميَّةٍ أكبرَ بسببِ النموِّ السكانيِّ الذي يبقى مرتَفِعاً (بنسبة + 2.6%) والذي يفسِّره اقتِرانُ ارتِفاعِ نسبةِ الخصوبةِ منذُ عدّة سنواتٍ بعد نصفِ قرنِ من الانخِفاض (3.5 ولادةٍ لكلِّ امرأة)، مع انخِفاضٍ في وفيات الأطِفال وازدياد شيخوخَةِ السكّان4.
ساعةُ تسديدِ القُروض
يُعقِّد الجدلُ حول الأرغوت عمليَّة الاستيراد، بالإضافة إلى أنَّ العملةَ الأجنبيّة لدفعِ ثمن المستَورَدات غيرُ متوفّرة. فسنداتُ الائتِمان تأتي متأخِّرة، والاحتِياطيُّ الرسميُّ من العملةِ الأجنبيّة هبطَ إلى 10 ملياراتِ دولار، كما أنَّ مَمالك الخليج ستكونُ أقلَّ سخاءً ممّا كانت عليهِ بالماضي ( 20 مليار منذ 2013). دقت ساعة سداد القروض، فقطر تترقَّبُ ما يقارِب مليار دولار، نفس المبلغ تقريباً الذي يترقّبُه نادي باريس5.
في 14 آذار/ مارس الماضي، أَجبَر شحُّ الدولارات البنكَ المركزيّ على خفضِ قيمة الجنيه المصريّ بنسبة 6.7%. يضرب تداولُ الدولار أرقاماً قياسيّة في السوق السوداء، كما أنَّ التوقُّعات السيّئة أدَّت في الشهر نفسهِ إلى تنحِيةِ أحدَ عشرَ وزيراً، من بينِهم وزيرُ الماليّة ووزيراً آخرَ مهمَّتُه اجتِذاب رؤوسِ الأموالِ الخارجيّة.
أخيراً، فإنَّ إدخالَ البطاقة الإلكترونية للحدِّ من التبذير والسرقة، لم يؤدِّ إلى انخِفاض الاستيرادات من 20% إلى 30% كما كانَ يأمل المروِّجون لها في وزارةِ التموين. طبعاً، أدَّى استعمالها إلى إلغاءِ طوابيرِ الانتِظار أمامَ المخابز، وإلى إدخالِ ما يقارب 30000 تاجراً السوقَ الرسميّة في حينِ كانوا مُختبئين في التجارِة غيرِ الرسمية. إلا أنَّ الاستِهلاكَ والاستيراداتِ وعمليّات الدعمِ واصلَت ارتفاعَها. في الفصل الأولِ من عام 2015، ارتفعَ حسابُ الميزانيّة بنسبةِ 17.4% ، ويتجاوَزُ في إيقاعِه السنويِّ العجزَ العامَّ الذي يتجاوز خمس مليارات دولار (11.5% من الناتج المحلي الإجمالي)، ضارباً أرقاما قياسية. لم تكن البطاقة التي تَغنّي بها المدافِعون عن الحكومة الإلكترونية (e-government) منذ 2005 دواء شافياً : فالتجاوزات كثيرة، والبطاقات غالباً ما تَتلُف بسرعة كما أنّه من السهلِ تزويرُها. إلا أنّها تبقى إحدى الإصلاحاتِ الناجحة نسبيّاً التي يُمكن للفريق – الرئيس أن يضيفَها إلى مَحصولِه بعد 33 شهراً من الحكم.
1الأرغوت هو من الطفيليات اسمه اللاتينيClaviceps purpurea Tul. يتواجد في الجودَر وحبوب أخرى. يتسبب بالتسمم الأرغوني.
2Tom Polansek, « Bunge challenges Egypt over rejected French wheat cargo », Reuters, 9 février 2016.
3Global Agriculture Information Network (Gain) USDA, Foreign Agriculture Service, 3 mars 2016.
4«The too fertile crescent», The Economist, 6 juin 2015.
5نادي باريس مجموعةٌ غيرُ رسمية من المموِّلين في القطاع العامّ، دورُهم البحثُ عن حلول مُستَدامة لصعوباتِ تسديد الديون لدى الدول الَمديونة. يقدّم المموِّلون تخفيفاً للدّين لمساعدة تلك الدول على تثبيت وضعها المالي، أو تخفيضاً لملتَزَمات خدمةِ الدين لفترةٍ محدودة (ويكيبيديا)