للمرةِ الثّانيةِ فيما يُقارِبُ ثلاثَ سنواتٍ، زادَت تونِس من دَينِها لَدَى صُندوقِ النقدِ الدَّوليّ. حيثُ وافَقَ مجلِسُ الإدارةِ، في 20 أيّار الماضي، على أن تستفيدَ تونس من قرضِ “تسهيلُ الصُّندوقِ المُمَدَّد” (mécanisme élargi de crédit) الّذي يَلي “اتِّفاقُ الاستِعدادِ الائتِمانيّ” (accord de confirmation AC). وكانت مدَّةُ استيفاءِ هذا الأخيرِ قد انقَضَت في كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، بعد سابِقِ تمديدٍ لسبعةِ أشهُرٍ. ويجدرُ الذكرُ أنَّ قرضَ “تسهيلُ الصُّندوقِ المُمدَّد” أطوَلُ مدَّةً (48 شهرًا عِوَضًا عن 24 شهرًا) وأكثرُ كُلفةً (3 مليارات دولار تقريبًاً عِوَضًاً عن 1.3 مليار دولار) من قرضِ “اتِّفاقُ الاستعدادِ الائتمانيّ”، ومع قائِمةِ تَوصياتٍ تكادُ تكونُ نفسَها. بُناءً على التُّرتيباتِ الجَديدة، سيُمنَحُ القرضُ على دُفعَتَينِ في السَّنة، تشكِّلان فرصةً لمُراقبةِ تطوُّرِ الإصلاحاتِ الّتي وعَدَت بها حكومةُ حبيب السيِّد، وقد حرِصَ هذا الأخيرُعلى عدمِ التصريحِ بها للرأيِ العام. وقد رسَمَ ميتسوشيرو فوروساوا (Mitushiro Furusawa)، وهو مُساعِد كريستين لاغارد، صورةً مُحبِطةً للوضعِ الإقتصاديّ في الجُمهوريةِ التّونسيّة ، بعدَ خمسةِ أشهُرٍ من انتِهاءِ مُهلةِ “اتِّفاقُ الاستعدادِ الائتمانيّ”، والّذي لم ينجُم عنهُ تحسُّنٌ ملحوظ: “ما زالت هناكَ صُعوباتٌ كثيرة: الحركةُ الاقتصاديَّةُ ضَعيفة، سوقُ العمَلِ راكِد، التَوتُّراتُ الاجتماعيّةُ مُستمِرّة، آليّةُ المصاريفَ العامّةِ في تدَهوُر، والتَّوازُناتُ الخارجيَّةُ في حالةِ اختلالٍ حاد”1. يمكننا أن نُضيفَ إلى هذا التَّشخيصِ خُروجَ 2600 شركةٍ من البلدِ بين2011 و2015، وانخفاضَ تطوُّرِ الصِّناعة، وتفقُّرَ جزءٍ كبيرٍ من السُكّان. وِفقًاً لمنظَّمةِ الدِّفاعِ عن المُستَهلِك، سيُعاني 60 % من الموظَّفين من نقصِ السُيولةِ ابتداءً من الثّامِنِ من الشَّهرِ الحالي"2.
تبذيرٌ ومديونيّةٌ في ازدياد
لا يكفي الإرهابُ وتزعزُعُ الوضعِ الإقليميّ، رَغمَ جِدّيةِ المسألتَين، لتفسيرِ وضعٍ مُحبطٍ كهذا، لاسيَّما وأن قروضًا أخرى، تضافُ إلى قروضِ صندوقِ النّقدِ الدَّوليّ، لا تقِلُّ سخاءً عن تلك الآتيةِ من مجموعة البنكِ الدوليّ والاتِّحاد الأوروبيّ، والولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيّة، واليابان، ناهيكَ عن القروضِ العديدةِ النّاتجةِ عن أشكالِ الدَّعمِ الثُّنائيّ. يُقابِلُ ذلكَ ارتفاعُ مَديونيّةِ البلدِ، يبدأ بارتفاعٍ في مديونيّةِ الدَّولة، ممّا لا يُشكِّلُ مدعاةً للفَخر. في عامِ 2016، وَصلَ الدَّينُ الخارجيّ المتوجَّبُ دفعُه بالعُملةِ الأجنَبيةِ إلى ما يُقاربُ الـ30 مليار دولار، أي 70% من النّاتجِ المحلّيِّ الإجماليّ (مُقابل 48% عام 2010)، كما يتوجَّبُ تسديدُ 5 ملياراتِ دينار (أي 2.17 مليار يورو) هذه السنة، و8 ملياراتِ دينار (3.4 مليار يورو) العامَ القادِم. باتت تونِس قابَ قَوسَينِ أو أدنى من مأزقٍ ماليٍّ تُستخدَمُ فيهِ معظمُ القروضِ الجديدةِ لتسديدِ ديونٍ قديمة. لم يعُد اللّجوءُ إلى صُندوقِ النَّقدِ الدَّوليّ إجراء استثنائيًا، كما حصل عامي 1964 و 1986، لا بل أضحى مُزمِنًا، وذلكَ في جوٍّ عامٍّ من عدمِ الاكتراث.
كيف وصلنا إلى هذهِ الحالة؟ كان حسين ديماسي، وزيرُ الماليّة في الترويكا (2012-2013) الخاضِعةِ آنذاك لهيمَنةِ النَّهضة، قد اعترفَ بالأسبابِ في رسالةِ الاستِقالةِ الّتي قدَّمَها منذُ أربعِ سنوات: “تضاعفَت الانحرافاتُ الهادِفةُ بشكلٍ أساسيٍّ إلى الإغواءِ في إطارِ التَّحضيرِ للانتخابات، في حينِ أنَّه كانَ من الأنسَبِ تلبيةُ تطلُّعاتِ الثَّورةِ وإعطاءِ الفئاتِ المُتواضِعةِ انتباهًا مستدامًا، من خلالِ استحداثِ أكبرِ عددٍ من الوظائفَ المُنتِجة، وتطويرُ المناطقَ النّائيةِ وإعادةُ إحياءِ الاقتصاد، والمحافَظةُ على توازُنِ الماليّةِ العامّة”3.
تبدّلت الحكوماتُ فيما بَعد، إلّا أنَّ السِّياسةَ الاقتصاديّةَ والماليّة، الغائِبةَ تقريباً عن النقاش العام، لم تَتغيَّر. لم تُستخدَم الموارِدُ الخارجيّةُ للاستثمارِ في تحديثِ الاقتصاد، إنَّما لنفخِ الوظائفَ العامَّةِ المُتضخِّمةِ أساسًا. وانهارَ الاستثمارُ العامّ الّذي كان من المفروضِ أن يزدادَ وأن يَذهبَ أوّلاً إلى مناطِقَ الغربِ التونسيِّ الفقيرة، والّتي انطلَقَت منها ثورةُ كانون الأوّل/ديسمبر 2010. فرواتبُ المُوَظَّفين تستأثِرُ بثلاثةِ أضعافِ المبالغَ المُخصَّصةِ للاستثمارِ العامِ، الّذي انحسرَت حصَّتُهُ إلى الحدِّ الأدنى. منَ الواضِحِ أنَّ الخللَ في التَّوازُنِ لم يعُد مُحتَملاً، وأنّه يتمُّ تبذيرُ الدَّينِ الّذي لا يُدِرُّ الدَّخلَ الضَّروريَّ لتسديدِه.
تفادي الحلولِ الآتيةِ منَ الخارج
شَهِدَت تونس تحدِّيًا مُشابِهًا في القرنِ التاسِع عشر، وكانت عاقِبتُهُ وَخيمة. إذ كان حاكمُها محمَّد الصّادِق باي قد اقترَضَ دَينَينِ منَ البُنوكِ الأجنبيّة لتحديثِ جَيشِه وإنجازِ مشاريعَ كبيرة. إلّا أنَّهُ على الأرجَحِ كانَ شديدَ التَّفاؤل، فقد فاقَت خِدمةُ الدَّينِ إجمالي إيراداتِ خزينةِ الباي من الضَّرائِب. في الأوَّل من تمّوز/ يوليو 1867، أعلن الباي أنَّه يُحجِم عن دفعِ خدمةِ الدَّينِ ورأسِ المالِ على حدٍّ سَواء، بسببِ نقصِ المَوارِد. وبعد أن باءت بالفَشلِ مُحاولَتان لتَمكينِ القَرضَين، عُيِّنت لجنةٌ ماليّةٌ دَوليّةٌ لإعادةِ تنظيمِ الماليّةِ التونسيّة، وذلكَ من خلالِ اعتمادِ كلِّ الإجراءاتِ اللّازِمةِ لتأمين جِبايةِ الضَّرائبَ وتطبيقِ كُلفةٍ لخدَماتِ الدَّولة. بمعنى آخَر، عُنِيَت تلك اللَّجنةُ بتطبيقِ الإصلاحاتِ اللّازِمةِ على النِّظامِ الماليِّ للدَّولة، لاسيَّما فيما يخصُّ المُحاسبة، أي بإدارةِ صُندوقِ الخَزينة. وأضحى العرشُ تحتَ الرِّقابةِ الأوروبيّة ـ قَبلَ أن يتقلَّصَ إلى وِصايةِ الجمهوريِّة ]الفرنسيّة[الثالثة4 .
تغيَّرت الأزمِنة، وأضحت سيطرةُ القُوى العُظمى أقلَّ وضوحًا، إلّا أنّه لم يعُد هناكَ أمامَ تونس كثيرٌ من الوقتِ لكَي تتَفادَى وضعًا تُلزَم فيهِ بتطبيقِ قراراتٍ تمَّ اتِّخاذُها في الخارجِ لحلِّ مشاكلِها، و لكي تُثبِتَ أنَّ الانتقالَ ليسَ سياسيًا وحسب، وإنَّما هوَ أيضًا اقتصاديٌّ واجتماعيّ. ولكَي يكونَ الرأيُ العامُّ على بيِّنةٍ من وضعِه، باتَ منَ الضّروريّ طرحُ النِّقاشِ في ثلاثِ مواضيعَ اقتصاديَّةٍ وسياسيةٍ كُبرى تحرصُ الطبقةُ السياسيةُ على تَفادي طرحِها، في حينِ أنَّ السلطةَ لا تقترِحُ مشروعًا كبيرًاً كافيًاً لاستنهاضِ الشَّعب.
ثلاثُة مواضيعَ يجبُ طرحُها للنِّقاشِ العام
أوّلاً: هل الإيراداتُ التي يقترحُها صندوقُ النَّقدِ الدَّوليّ، والتي قَبِلَت بها الحكومةُ والبنكُ المركزيّ، تناسبُ وضعَ البلاد؟ يبدو وكأنَّ الفريقَ التونسيَّ يصلُ إلى المفاوضاتِ في واشنطن دونَ اقتراحاتٍ بديلة، معنيٌّ بقيمةِ الشّيكِ دونَ أيِّ غَرضٍ آخر، ومستعدٌ لقبولِ دونَ نقاشٍ التّوصياتِ المرفقة، والّتي هي نفسُها تقريباً أيمنا كان. خلالَ فترةِ “الاستعدادِ الائتمانيّ” (accord de confirmation, AC) 2013-2015، تمَّ تجاهلُ هذه التوصياتِ، أو تمَّ تبنيها على الورقِ في وقت متأخِّر، دونما الذهابِ إلى تنفيذِها. تتكرَّر تلك التوصياتُ حرفيًّا في قرضِ “تسهيل الصُندوقِ المُمدَّد” (2016-2020). فهل سيُكتَبُ لها النجاحُ هذه المرّة؟
ثانيًا، تبدو الأمورُ وكأنَّ تونس تفضِّلُ على العُمومِ الاستِدانةَ من الخارجِ على قبولِ الاستثماراتِ الأجنبيّةِ في الصِّناعةِ والإنتاج. إلّا أنَّ الاستثمارَ الأجنبيَّ يوفِّرُ فرصَ عملٍ وإيراداتٍ للخزينة، ولا يتوجَّبُ تسديدُه كما هو حالُ القروض، ثم أنَّ عاملَ المُجازَفةِ يقعُ على عاتقِ المُستثمِر. هل يشكِّلُ ذلك خطرًا على الاستقلالِ الوطنيّ أكبرَ منَ الاستدانة؟ يتعيَّنُ على اليساريّينَ والوطنيّينَ الإدلاءُ بموقفِهم تجاهَ هذه المسألةِ الجَوهريّة، علمًا بأنَّ ظروفَ البلدِ تجعلُ رفضَ الاقتراحين كِليهما أمرًا مُستحيلاً، الَّلهُمَّ إلّا على المنابرَ الانتخابيّة.
أخيرًا، ما هيَ الشَّركاتُ الّتي يجبُ أن تحظى بأولويّةِ المساعدةِ منَ الدَّولةِ والبُنوك؟ حتّى اليَوم، تم تفضيلُ الرّيعّيَةِ منها على المُجدِّدة، والدّليلُ على ذلكَ فضيحةُ القروضِ غيرِ المُسدَّدةِ الّتي يجرجِرُها النِّظامُ الماليُّ منذُ عقودٍ، والّتي انسحبَت على ثلاثةِ أنظِمةٍ، منَ الحبيبِ بورقيبة حتّى الرئيسِ الحاليّ باجي قائِد السيبسي، مرورًا بزينِ الدّين بن علي، والتي لم يستطع أحدٌ من هذهِ الأنظمةِ استيفاءها. تستحوذُ هذه القروضُ على 16% من الإيراداتِ البنكيّة، يؤولُ معظمُها لكبار مَلّاكي المنتجعاتِ السّياحيّةِ على السّاحل، والّذينَ يتمسَّكونَ بمنظومةِ “لا هذا ولا ذاك”: لا لتسديدِ الدّيونِ ودفعِ الفوائد، ولا لتسليمِ أملاكِهم كي يُصارَ إلى بيعِها. هل سيقبلُ صُندوقُ البنكِ المركزيّ هذه الفضيحةَ لمدّةٍ أطوَل، علماً بأنَّهُ باتَ مستقلّاً عن الحكومةِ بضغطٍ من البنكِ الدَّوليّ؟ فالتطرُّق أخيرًا إلى هذا الملفِّ قد يثبتُ استقلاليةً ما تجاهَ أولئكَ الّذين كانَ يطلقُ عليهِم إبّان الوصايةِ الفرنسيّةِ لقبَ “ذوي الوَزن” (les prépondérants). وقد يؤدّي ذلك أيضًا إلى تحريرِ مواردَ هامَّةٍ لمساعدةِ العديدِ من الشبّانِ التونسيّينَ الموهوبينَ والرّاغبينَ في تغييرِ اقتصادٍ نخرَه العفن5 يحتاجُ لطاقتِهم أكثرَ من حاجتِه لصُندوقِ النَّقدِ الدَّوليّ، من أجلِ المضيِّ قِدمًا.
عن الفرنسية ترجمة هناء جابر
1« Tunisie-FMI : La feuille de route économique, contre 2,9 milliards $ », African Manager, 26 mai 2016.
2Mourad Hattab, «Dégradation du niveau de vie des Tunisiens. Pauvreté et endettement en hausse», Maghreb émergent,27 décembre 2015.
3“Hassine Dimassi, ministre des Finances : pourquoi j’ai démissionné”, Leaders, 27 juillet 2012.
4Histoire générale de la Tunisie -Tome III, Les temps modernes,Tunis, Sud éditions; p. 410-411
5Meriem Kebiri, «Une économie Naphtaline dans un pays de Jasmin», Leaders, 23 mai 2016.