طريق مسدود أمام الجزائر بسبب جمود الرئيس تبون

بعد مرور سنة تقريبا على انتخابه المثير للجدل في ديسمبر/كانون الأول 2019، لم يستجب بعدُ الرئيس عبد المجيد تبون للأزمة السياسية والمالية التي تخنق بلاده كل يوم أكثر. لم يعد موقف “لا هذا ولا ذاك” قابلا للاحتمال بسبب نفاد احتياطي العملة الصعبة الذي يقود لا محالة إلى صندوق النقد الدولي. كما سيؤدي هذا الوضع -سواء انتهى الحجر الصحي أم لا- إلى عودة الحراك وقد يكون أقل هدوءًا مما كان عليه سابقا.

شيئا فشيئا، تختنق الجزائر. ففي غضون ست سنوات، فقدت البلاد 25% من قدرتها الشرائية والاتجاه في تسارع. في الثلاثي الأول من 2020 وحتى قبل أن يضرب الوباء البلاد بقوة، لم يتم إغلاق الحدود إلا في 17 مارس/آذارـ انهار النشاط في ميناء الجزائر الذي يعد بوابة الدخول الرئيسية للبلاد. تراجع استيراد الحاويات التي تحمل جميع أنواع البضائع، من المنتجات الغذائية إلى لوازم الرياضة، بأكثر من 38 %. بل إن الأمر أكثر سوءا لأن الزيادة في استيراد الحبوب والحديد ومواد البناء تخفي جزئيا انهيارا مقلقا للاستهلاك المحلي.

بمناسبة عيد الأضحى في نهاية يوليو/تموز، كان الباعة يلهثون عبثا باحثين عن زبائن، إذ لم يجد الكبش مقتنيا. وفي الأسواق، تصمد أسعار خضر وفواكه الموسم بالكاد، وهي التي انخفضت أكثر من المعتاد. لم يعد التضخم مصدرا للقلق حيث وصل إلى 2,2 % فقط في شهر يوليو/تموز. وهو أمر يسعد ربات البيوت اللواتي تعوّدن على تقلب الأسعار نحو الأعلى، غير أن قلة الطلب هي التي تفسر الاعتدال غير المعتاد للأسعار.

لم يعد -أو يكاد- مسؤولو البنوك العمومية والذين يشلهم الخوف من السجن يقدمون القروض منذ بداية الأزمة السياسية في فبراير/شباط 2019. وتراكمت متأخرات الدفع وتعكر نظام الآلة.

مؤامرة غامضة

يوما بعد يوم، عادت من جديد الطوابير التي لا نهاية لها وصارت معتادة في المدن ولكن ليس أمام محلات البقالة أو القصابة. يشكل الموظفون والمتقاعدون غالبية الحشود التي تتكدس أمام مكاتب “بريد الجزائر” منتظرين لساعات طويلة استلام جزء ضئيل من أرصدة حساباتهم. تحاول السلطات العمومية طمأنتهم: “هناك اضطرابات ولكن ليس هناك نقص”، هذا ما أكده وزير المالية أيمن عبد الرحمن لقناة الشروق الخاصة يوم 25 يوليو/تموز 2020. ولتبرير تمديد دفع الرواتب والمعاشات على طول الشهر، أراد الوزير الأول أن يكون أكثر دقة قائلا: “ليس هناك نقص في الأموال بل هناك تباطؤ في الاقتصاد بسبب وباء كوفيد-19”1.

ودون تردد، وضع الرئيس حدا لهذا الجدل يوم 12 أغسطس/آب من خلال خطاب مطوّل أرجع فيه الأمر إلى مؤامرة غامضة ومنددا “بعجوز ولد سنة 1911” عمل على ضخ أموال بريد الجزائر! لكن المدير العام لهذه المؤسسة اعترف بكل بساطة بأن البنك المركزي خفض تسبيقاته بنسبة 15 % في شهر يونيو/حزيران في وقت كانت فيه عمليات السحب تتزايد باضطراد: 564 مليار دينار جزائري (3.68 مليار أورو) في يونيو/حزيران، أكثر من 600 مليار دينار جزائري (3.91 مليار أورو) في يوليو/تموز. أي أنه تم سحب خلال هذين الشهرين سيولة أكبر من تلك المتاحة في البنوك الجزائرية (حوالي 900 مليار دينار جزائري في بداية السنة، أي 5,87 مليار أورو). نشهد إذن عمليا تهرّبا غير مسبوق من طرف مودعي الأموال، وهو ما يعكس فقدان ثقة الجزائريين في عملتهم وفي قادتهم وفي مستقبلهم. وتتعدد أسباب ذلك. فالعجز المالي العمومي مهول. كيف يمكن للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية تمويل العجز الضخم الذي يدور منذ عشر سنوات ومن ميزانية لأخرى حول 10 % من الناتج المحلي الإجمالي، والذي يعد رقما قياسيا عالميا أو يكاد؟ وستكون الأمور أكثر سوءا هذا العام. فمع آثار انخفاض أسعار المحروقات المتراكمة وتراجع الكميات المصدرة ووباء فيروس كورونا الذي يشل البلاد قد يصل العجز، إن لم يتجاوز، ضعف العشرية الماضية، أي حوالي 20 % من الناتج المحلي الإجمالي. هذا الناتج الذي يتراجع من جهته وينخفض في الحجم بنسبة 3 % وفقا للسلطات الجزائرية، وبأكثر من 5,2 % حسب تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بآفاق الاقتصاد العالمي الصادر في 2020.

تضاف إلى ذلك خسائر الشركات العمومية التي تجاوزت خلال السنة المالية الماضية 1100 مليار دينار جزائري (7.18 مليار أورو) حسب وزير المالية والتزامات الخزينة تجاه الخارج بسبب مشتريات الأسلحة مثلا أو المشاريع الكبرى كمسجد الجزائر الكبير.

بنك مركزي بدون حاكم

تفتقر التفسيرات الرسمية إلى الصراحة. قد تنخفض المداخيل البترولية (24 مليار دولار مقابل 73 مليار في 2012) هذه السنة مقارنة بالسنة الماضية بـ 10 مليارات دولار في أحسن الأحوال، وبـ15 مليار دولار في أسوئها.

ويترتب عن ذلك انخفاض بما لا يقل عن 1000 إلى 1500 مليار دينار جزائري (من 6,53 إلى 9,79 مليار يورو) من الكتلة النقدية والتي تُموَّه جزئيا بانخفاض متسارع نوعا ما لقيمة الدينار أمام الدولار واليورو، وذلك قصد تعويض النقص في الدينار. وهو ما سيؤدي إلى تضخيم طفيف في مداخيل الخزينة العمومية التي تستفيد من معظم الريع البترولي المدفوع بالدولار، ولكن ذلك لا يزيد في مداخيل الجزائريين الذين لا يصدرون شيئا أو تقريبا.

المشكلة الاقتصادية ليست جديدة، لكن السلطة الجديدة لم تفعل شيئا لمعالجتها خلال الأشهر الثمانية الأخيرة. لم يتم اتخاذ أي إجراء جاد لتخفيض الإنفاق العام ونمط عيش الإدارة أو بزيادة الضرائب المباشرة على غير الأجراء. كما نجد من بين المتغيبين بنك الجزائر وهو بدون محافظ منذ الربيع، ولا يؤدي دوره كبنك مركزي. على الرغم من وضعه القانوني المستقل فهو في ذيل السلطة التنفيذية ويقوم بتمويل الخزينة بمستوى يفوق المعقول. فقد تقرر في الآونة الأخيرة تقديم 1900 مليار دينار جزائري (11,75 مليار أورو) في شكل قروض بنكية لشركات في حالة احتضار. ولأن البنوك العمومية ليس لها موارد خاصة سيتم مرة أخرى اللجوء إلى الدولة، وبالتالي إلى طابعة النقود.

بالنسبة للسوق السوداء للعملات، لم يُبذَل أي جهد للحد منها. ومازال المستوردون -وهم في الواقع أباطرة تضخيم الفواتير في بلد يستورد كل شيء- يجمعون الأموال من خلال مصادرة الفرق الذي يتراوح بين 40 و50 % من السعر الرسمي والسعر الموازي. بالمقابل لا يمكن للطلبة ولا للمرضى ولا للسياح الوصول إلى العملات الأجنبية لبنك الجزائر، على عكس جيرانهم المغاربة والتونسيين مع أنهم أكثر فقرا.

يعود أصل هذا الجمود وغياب أي مشروع تعديل هيكلي سيادي يتم إجراؤه وإقراره في الجزائر، إلى غياب الإرادة السياسية. ومثل سلفه عبد العزيز بوتفليقة، لا يريد الرئيس عبد المجيد تبون تخفيض الإنفاق لأنه يدري لو قام بذلك فهو يهاجم أعداء خطرين: المصالح القائمة. في غياب الإرادة أو القدرة على مواجهتها بنجاح، يتم الالتفاف على العقبة، التي هي ضخمة بحق. فخفض الدعم (20 % من نفقات التسيير) من شأنه تشكيل خطر انفجار اجتماعي، كما حدث في 2011 خلال الربيع العربي. ويعد التخفيض الحتمي في الاعتمادات العسكرية، التي تثقل كاهل الميزانية مثل الجانب الاجتماعي، إن لم تكن أكثر، أكبر خطورة بالنسبة للنظام والإطارات السامية، الذين ضل بعضهم في طريق الفساد، كونهم قد تخلوا منذ فترة طويلة عن التقشف النضالي للبدايات.

ترك البلاد لصندوق النقد الدولي؟

يبدو الأمر كما لو أن المؤسسة الحاكمة سلمت ضمنيا أنها ستتخلى عن العمل القذر إلى صندوق النقد الدولي عندما تستنفد احتياطات الصرف (والتي ستكون أقل من 40 مليار دولار) في نهاية 2020. ولم لا؟ كون التدخل السابق لصندوق النقد الدولي سنة 1994 سمح لهذه المؤسسة الحاكمة بثراء غير مسبوق كان ثمنه تفقير عام للسكان.

نفس الجمود يوجد في الجانب السياسي. تأخر مشروع الدستور الجديد الذي كان يفترض أن يقدم للبلاد في 8 مارس. سيتم التصويت مبدئيا في أول نوفمبر، وتسبق التحضيرات الانتخابية مضمون الدستور الذي بكل تأكيد لن يغير شيئا أو لا شيء يذكر، بخصوص الحريات العامة أو آليات الوصول إلى السلطة.

أهذا ما كانت تنتظره البلاد؟ يمكن الشك في ذلك عند الاستماع إلى الحراك، تلك الحركة الشعبية التي كانت قوتين أساسيتين تعبر عن نفسها فيه ـ حتى تعليقه في مارس الماضي بسبب كوفيد-19: القبائل والإسلاميون. وهما مجموعتان تطمحان إلى المشاركة في الشأن العام وكلتاهما مقصية بسبب “خطوط حمراء” هي في الواقع منقضية منذ فترة طويلة.

الجيش، نقطة استفهام كبرى

امتنع الرئيس تبون عن معالجة القضايا الحقيقية وجعل النظام يعمل كما كان في السابق، مع احترام أكبر للطقوس المؤسساتية مقارنة بسلفه. يعين يوما 15 نائبا في مجلس أمة يطالب الرأي العام بإزالته، ويرأس شهريا مجلس وزراء غامض، وثرثار في الغالب، تاركا الغالبية البرلمانية المنتخبة عن طريق التزوير تواصل “طبختها” الصغيرة. بينما تستمر لعبة القط والفأر مع المعارضين الأصغر سنا والأكثر راديكالية. فهم يدخلون ويخرجون من السجون بانتظام وفق مقايضات غامضة بين مصالح الأمن ووزارة العدالة والرئاسة دون أن نميز جيدا من يفعل ماذا وعن ماذا يبحث هذا أو ذاك: إثارة الخوف، كسب ربح سياسي من عمليات الإفراج أو الاستمرار كما العادة.

لن يكون من السهل إقناع ناخبين محبطين يواجهون مشاغل مادية صارخة بشكل متزايد بالذهاب إلى صناديق الاقتراع يوم أول نوفمبر، وهو تاريخ رمزي2. ولن تسمح نتيجة هزيلة، كما كان الحال في الانتخابات الرئاسية لـ12 ديسمبر/كانون الأول 2019، بحل الانسداد السياسي الذي تعرفه البلاد.

يبقى الجيش المجهول الأكبر في اللعبة السياسية. ماذا يحدث في صفوفه؟ هناك 17 قادة جيش في السجن أو في حالة فرار في الخارج بتهمة الفساد أو الخيانة، كما تم تطهير قيادة الأركان وأجهزة المخابرات، في هذا الوقت يعرف سلك الدرك قائده الثالث في أقل من سنتين، في حين تم تغيير قيادات القوات البرية والطيران منذ يناير/كانون الثاني 2020.

يمس التطهير القادة الذين نصبهم منذ 2018 الفريق أحمد قايد صالح، الرجل القوي السابق في الجيش والذي توفي فجأة في 23 ديسمبر/كانون الثاني 2019. هل يقوم سلفه غير المعروف -الفريق سعيد شنقريحة- بتنصيب مقربيه كما كان ذلك الحال في مناسبات عديدة منذ الاستقلال؟ هل الرئيس هو صاحب المناورة؟ أم أن قائد الأركان يعمل على تقوية عضده؟ لا يعرف الرأي العام شيئا وهو يخشى البقية.

1خطاب أمام الندوة الوطنية الخاصة بمخطط الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي يوم 19 أغسطس/آب 2020.

2ـ أول نوفمبر 1954 هو تاريخ النداء الأول لجبهة التحرير الوطني إلى الشعب الجزائري المرتبط بيوم “جميع القديسين الأحمر” الذي شكل بداية حرب استقلال الجزائر.