الإحصائيات في مصر السيسي، بين التزيين والتزوير

لا تعكس البيانات الاجتماعية والاقتصادية الرسمية في مصر صورة موثوقة لواقع الحياة في البلاد، بل وتتضمن العديد من العيوب. ومع ذلك، يتم في غالب الأحيان اعتمادها من دون أي رؤية نقدية من قبل الفاعلين الخارجيين.

سبتمبر/أيلول 2016. كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، في لقاء مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

حتى الآن، نجحت مصر بصفة جيدة للغاية في مواجهة جائحة كوفيد-19. هذا ما تؤكده على الأقل الأرقام الرسمية. فقد سجلت البلاد أقل من 360 ألف حالة حتى أوائل ديسمبر/كانون الأول 2021، ما يجعلها في وضعية ممتازة وفقًا للمعايير الدولية. وإذا قيس الوضع على أساس نصيب إصابة الفرد مقابل عدد السكان، فإن الوباء لم يسفر إلا عن جزء قليل من الضحايا مقارنة بالأعداد التي سجلتها الولايات المتحدة أو البلدان الأوروبية. المشكلة هنا هي أن كل شيء يوحي بأن هذه الأرقام التي قدمتها إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي كاذبة، ليس فقط لكون عديد شهود عيان أشاروا إلى أن إصابات كوفيد لا يتم تسجيلها على النحو الصحيح، كما يتم التبليغ عن أسباب الوفاة بصفة خاطئة، بل أيضا لكون التحقيقات الأولى في ارتفاع عدد الوفيات بيّنت بأن عدد الوفيات الناجمة عن كوفيد قد يكون أكبر بـ13 مرة من ذلك الذي تعلن عنه السلطات.

في هذا الصدد، يجب القيام بفحص أدق للإحصاءات الحكومية الأخرى. فعلا، فإن الأمر يطال العديد من البيانات الاجتماعية والاقتصادية الرسمية التي يصعب التوفيق بينها وبين الواقع. يتضح ذلك جليا عند فحص أرقام البطالة، إذ يبلغ معدل البطالة في مصر 10,45٪ (2020)، وهي نسبة منخفضة وفقًا للمعايير الإقليمية، بل هي أقل حتى من معدلات البطالة في دول صناعية مثل إسبانيا وإيطاليا.

تكمن المشكلة في هذه الأرقام الرسمية في كونها تستند إلى معدل مشاركة منخفض جدا، إذ يبدو أن عددا كبيرا من المصريين لا يسجلون أنفسهم كعاطلين، خاصة لضعف أملهم في العثور على وظيفة في سوق العمل الرسمي. لذا، فإن الرقم الرسمي لا يعكس بأي حال من الأحوال البطالة الحقيقية في البلاد، والتي قد تصل نسبتها إلى أكثر من الضعف، وفقا لخبراء سوق العمل.

التقليل في أرقام معدلات الفقر

ومن المرجح أن يكون معدل الفقر الرسمي البالغ 29.7% قد تم تزيينه هو أيضاً. وقد ورد في تقرير وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية المتعلق بتنفيذ استراتيجية التنمية المستدامة أن معدل الفقر “انخفض في عام 2020 لأول مرة منذ 20 عاما”1، وهو تأكيد مضلل لسببين. أولهما كون فترة جمع البيانات ليست 2020 بل 2019، والفرق مهم لأن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للسكان قد تدهورت بشكل أساسي بسبب بداية جائحة كورونا. وثانيهما هو أنه وفقا للبنك الدولي، لا يمكن مقارنة الأرقام الحالية مع أرقام السنوات السابقة، إذ يتم إعادة تحديد تعريف عتبة الفقر مع كل تحقيق.

كما تظهر تناقضات عند تفحص إحصاءات ميزانية الدولة المصرية. صحيح أن وثائق الميزانية متاحة عموما للجمهور، غير أن المعلومات المقدمة غالبا ما تكون غير مكتملة، ولا يتم إدراج جميع الإيرادات والنفقات في القائمة. وينطبق الأمر نفسه على الدين العام، إذ يشير تقرير الشفافية الضريبية لعام 2021 الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية، إلى أن ديون الشركات التابعة للدولة لا تظهر. أما بالنسبة لديون مصر الخارجية، فقد أكدت مؤخرا المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بأن الأرقام المقدمة ليست ثابتة ولا متسقة. فمن خلال بناء التزامات طارئة على الخصوص، يمكن أن تحصل الحكومة على أداة جيدة لإخفاء المستوى الحقيقي لديون البلاد. ولا يتم نشر أي معلومات مفصلة عن هذا النوع من الضمانات العامة.

في مقارنة على الصعيد الدولي، ووفقًا لآخر جرد للبيانات المفتوحة (Open Data Inventory, ODIN)، لا تتميز مصر بتوافر بياناتها، وهي تحتل المرتبة 153 في هذا المجال من أصل 187 دولة، وتبدو القاهرة في حاجة لقانون حول حرية المعلومات لتحقيق شفافية أكبر. لكن تأثير قانون كهذا سيبقى موضع جدل في حال تزوير مسبق للأرقام، حيث يصعب إثبات التلاعب في عملية جمع البيانات والإنتاج الإحصائي، إذ تشير الدراسات2 إلى أن الديكتاتوريات تتلاعب بالأرقام في حساب الناتج المحلي الإجمالي على سبيل المثال.

قد يكون الرقم الحقيقي في الدول الاستبدادية أقل بمقدار الثلث من المبلغ المعلن عنه في الإحصاءات الرسمية.

وكالات دولة تحت التأثير

لا توجد دراسات حتى الآن بخصوص الناتج المحلي الإجمالي لمصر، لكن هناك تباين واضح بين الخطاب الرسمي والواقع. تشير الحكومة مرارًا وتكرارًا إلى القطاع الخاص على أنه “محرك النمو الاقتصادي”، بينما يُظهر مؤشر مديري المشتريات -الذي يتم جمعه بشكل مستقل- أن الأنشطة الاقتصادية في القطاع الخاص غير النفطي في تراجع مستمر منذ سنوات.

لذلك، فإن المشكلة الأهم إلى حد بعيد لا تكمن في توافر الإحصاءات وإمكانية الوصول إليها، بل في الافتقار إلى الاستقلالية في جمع البيانات وإنتاج الإحصاءات. ففي مصر، يتكفل عموما الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (CAPMAS بالاختصار باللغة الإنكليزية) بتجميع هذه البيانات. وعلى الرغم من التأكيدات المتكررة على استقلاليته المهنية، يبدو أن هذا الجهاز يفتقر إلى الحياد والموضوعية، بسبب تداخله المعقد مع جهاز الأمن المصري، إذ ينحدر رئيسه -مثل جميع من سبقه- من الجيش. وقد كشفت حادثة وقعت مؤخرا عن صدام بين أجهزة نزيهة ورئاسة الجمهورية، إذ حاول مسؤولو الدولة منع نشر التحقيق عن الفقر لسنة 2017/2018 والذي يؤكد أن معدل الفقر الوطني قد ارتفع ليتجاوز 32٪3.

وينطبق الوضع نفسه على الجهاز المركزي للمحاسبات (Central Auditing Organization -CAO) الذي لا ينتج إحصاءات، ولكنه يتحقق من أرقام الموازنة العامة، وبالتالي من إنتاج البيانات من قِبَل وزارة المالية. فضلا عن كون الجهاز نفسه لا يعمل بطريقة شفافة تمامًا، فهو أيضًا لا يعمل بشكل مستقل عن الرئيس والجيش. ويتضح ذلك جليا من خلال تعيين الرئيس السيسي لرئيس جديد عام 2016، بعد أن حُكم على الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات -الذي انتقد علنًا الفساد في مصر- بالسجن لمدة خمس سنوات، وقد تم ذلك سنة 2018 خلال محاكمة ذات دوافع سياسية. أما الشخص الذي خلفه في هذا المنصب، فهو قاض سام في مكتب المدعي العام لأمن الدولة الشهير، والذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “أداة قمعية” مركزية.

انعدام أية استقلالية في عملية الإنتاج الإحصائي ومراقبتها في النظم الاستبدادية ليس مفاجئا. وقد أظهرت البحوث منذ سنوات بأن هناك علاقة بين المؤسسات السياسية من جهة، وسهولة الوصول إليها ونوعية المتغيرات الاقتصادية من جهة أخرى. وهذا صحيح بشكل خاص في بلد مثل مصر، حيث يسيطر الجيش على جزء كبير من الاقتصاد، وليست هناك أية مصلحة للقادة السياسيين في عهد الرئيس السيسي في نشر بيانات موضوعية.

تواطؤ صندوق النقد الدولي

غير أن الجهات الفاعلة الدولية تتمادى في تجاهل نتائج هذه الأبحاث. ويتحمل صندوق النقد الدولي مسؤولية خاصة في هذا الصدد، حيث رافق بشكل وثيق السياسات الاقتصادية والاجتماعية المصرية في العديد من البرامج منذ عام 2016. وليس من قبيل المصادفة أن يتم إدراج الإحصاءات الرسمية المصرية بشكل غير نقدي في “التقارير القطرية” للصندوق.

تكمن المشكلة الحقيقية في أنه من خلال تبني الإحصاءات الحكومية من دون نقد، فإن صندوق النقد الدولي أو منظمة الصحة العالمية أو المنظمات الدولية الأخرى تقوم بـ“تبييض” هذه البيانات. ولم يعد ينظر إلى هذه الإحصاءات على أنها مصرية، بل على أنها أرقام صادرة عن منظمات دولية. ويتعين على البلدان المانحة والمستثمرين الدوليين -فضلا عن الأكاديميين ومراكز التفكير- أن تأخذ ذلك في الاعتبار. وعليه، فلا يمكن إجراء تقييم واقعي للوضع في مصر إلا من خلال البحوث الميدانية. وبما أن القادة المصريين يدركون ذلك تمامًا، فهم يصعّبون عمدا الوصول إلى الميدان على الأكاديميين والصحفيين.