الأزمة الأوكرانية

ارتفاع أسعار المنتجات الفلاحية يزيد من هشاشة البلدان العربية

بدأ ارتفاع أسعار المنتجات الفلاحية قبل الأزمة الأوكرانية وتواصل معها، ما يضع بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في موضع لا تُحسد عليه، وقد يؤدي إلى إثارة تحركات اجتماعية شبيهة بتلك التي شهدتها المنطقة في فترة 2008-2009.

مخبزة في تونس العاصمة، 11 مارس/آذار 2022.
أنيس ميلي/وكالة فرانس برس.

“تنتظرنا أيام صعبة”، هكذا يصف -وبواقعية- عدد من المسئولين العرب الوضع. فلم يكن ينقص الموسم الزراعي 2021-2022 سوى حرب في شرق أوروبا، ليصبح من أقل المواسم الزراعية استقرارًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالتقلبات الجوية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا وفرنسا، وإعادة تكوين قطيع الخنازير في الصين، وضرائب التصدير في روسيا، والمضاربة الوقحة حول ثمن شحن المواد الغذائية على السفن، وغلاء الأسعار في القارة الأوروبية.. جميع هذه العوامل والأحداث التي جدّت قبل حتى بداية الحرب على أوكرانيا، والمستقلة عن بعضها البعض، أدت إلى نفس النتيجة، وهي ارتفاع الأسعار. وقد لوحظ ذلك قبل يوم الخميس 24 فبراير/شباط 2022، تاريخ اجتياح المدرعات الروسية لأوكرانيا.

تحوّل سعر القمح الذي كان حوالي 220 دولار للطن الواحد منذ أقل من سنة، إلى 330 دولار في غضون ساعات، قبل أن ينزل السعر بحوالي 20 دولار ثم يرتفع مجددا، في سباق مجنون. وهكذا تسبب قرع طبول الحرب في ارتفاع هائل لأسعار مواد ضرورية لتغذية الإنسان، وذلك خلال بضع ساعات:

القمح + 30 %
الشعير + 30 %
الذرة + 30 %
وجبة فول الصويا + 40 %
زيت الصويا + 50 %

المصدر: أغريتال.

ثِقَل الواردات

صحيح أن الصدمة عالمية، لكن تأثيرها أكبر في البلدان العربية، حيث المدن -ولا سيما العواصم- تعجّ بالسكان وبالمخاطر بالنسبة للسلطات القائمة -جمهورية كانت أم ملكية-، وهي تقتات من منتجات فلاحية تأتي من وراء البحار. إذ تتجاوز نسبة الواردات 60% من الإمداد العام في مصر والجزائر، و40% في المغرب، وقرابة 25% في تركيا. أما الكميات المستوردة، فهي معتبَرة، إذ تتجاوز 13 مليون طن بالنسبة لموسم 2021-22 في مصر، وسبعة ملايين في الجزائر وإيران، وحوالي 5 ملايين في المغرب الذي طاله جفاف تاريخي سيدفع نحو ارتفاع نسق الواردات. أما سوريا -التي كانت فيما مضى مخزنا للحبوب-، فقد تلقت خلال السنة الماضية 1,5 مليون طن من الخارج، وبالأساس من حاميها الروسي. وأما الجارة اللبنانية، فقد اشترت من عند أوكرانيا 89% من مجموع 650 ألف طن التي تستوردها سنويًا.

من جهته، يسعى اليمن المنكوب إلى البقاء على قيد الحياة بفضل إعانات برنامج التغذية العالمي المجانية، والذي اقتنى سنة 2021 70% من إمداداته في منطقة البحر الأسود. ويجب التنويه هنا إلى ثِقَل الواردات الغذائية في ميزان مدفوعات الدول المستوردة، إذ تصل إلى نسبة 24% في الجزائر، وأقل بضعفين في المغرب، وأكثر بقليل في مصر. وقد جدت سابقة لا تنبئ بخير في 2007-2008، حيث أسفرت المحاصيل الكارثية في أستراليا وروسيا عن ارتفاع في الأسعار، انجرّت عنه تحرّكات اجتماعية قياسية في 40 بلدًا تقريبًا، يرى فيها بعض المحلّلين مهد الربيع العربي لسنة 2011.

بالنسبة للدول العربية -التي تستورد كلها الحبوب-، تطرح الأزمة الحالية ثلاثة رهانات على أصعدة مختلفة، وهي توفر المنتوج، والأسعار، ووسائل الدفع.

يتعلّق العنصر المجهول حاليًا بما يُسمى على متن سفن شحن الحبوب “منطقة البحر الأسود”، والتي تجمع بالنسبة للمختصين بين روسيا وأوكرانيا. إذ تُنتج موسكو 85 مليون طن من الحبوب (قمح، شعير، ذرة...) وتصدّر منها بين 30 و35 مليون. أما كييف، فيصل إنتاجها إلى حدود الثلاثين مليون طن، وصادراتها في حدود العشرين. ما يعني أن هذه المنطقة تمثّل بمفردها ثلث الصادرات العالمية. فيما مضى -كما في سنة 1985-، كان الاتحاد السوفياتي يستورد 55 مليون طن من الحبوب، أساسًا من الولايات المتحدة الأمريكية...

قد تمنع عوائق عديدة الشحنات المطلوبة من الوصول إلى محطات الزبائن، من بينها محاصرة الأسطول الروسي لميناء أوديسا، كونها نقطة الانطلاق الرئيسية للحبوب الأوكرانية، أو وجود ألغام في القناة. أما التهديد الآخر، فهو الافتقار إلى سفن الشحن المتاحة لوجهات محددة، بالنظر إلى الأعمال العدائية التي تخيف عادة أصحاب السفن. وبالفعل، فقد أعلنت العديد من شركات الشحن الكبرى أنها تتنازل عن خدمة الموانئ الروسية. كما سيكون من الصعب أيضًا تركيز المحاصيل في أوديسا نظرًا للفوضى التي تطال البلاد منذ 24 فبراير/شباط وتتسبب في شلّ حركة النقل والإنتاج. فهل سيتمكن المزارعون الأوكرانيون من زرع حبوب موسم الحصاد القادم في الوقت المناسب؟

مصر، أكثر البلدان عُرضة للمخاطر

إن أكثر البلدان العربية عُرضة لخطر عدم توفر المنتوجات هي بلا شك مصر، إذ تستورد القاهرة -حسب أرقام وزيرها الأول- قرابة 80% من قمحها من “منطقة البحر الأسود”، لكونها المزود الأقرب. يلبي مخزون مصر من القمح احتياجاتها حتى يونيو/حزيران 2022، وسيكون من الضروري بعد ذلك الاعتماد أوّلا على الإنتاج المحلي الذي سيزيد بمقدار مليوني طن، وفقًا لوزير المالية محمد معيط (بلومبرغ، 6 مارس/آذار).

أما الجزائر، فقد ظلت -على الرغم من علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية مع موسكو- وفيّة حتى الآن لمورديها الفرنسيين والكنديين. فمحاولاتها شراء القمح الروسي لا تزال في بداياتها، إذ لم يتقدم الديوان الجزائري المهني للحبوب سوى بطلب واحد بحجم 300 ألف طن، وكان ذلك بمثابة الانتقام بعد الخلاف المؤقت الذي شاب في خريف 2021 علاقة الرئيسين إيمانويل ماكرون وعبد المجيد تبون. يتنبأ وزير الفلاحة محمد عبد الحفيظ هني قائلا: “لن تتأثر الجزائر بالتغيرات التي جدت على المستوى العالمي”، لكنه يدعو مواطنيه إلى “زيادة الإنتاج الوطني الذي لا عوض عنه..”. وقد بدأ الوسطاء بعرض عقود بيع حيث يكون مصدر الحبوب “اختياريًا”، أي أنه مجهول من قبل المشتري الذي لا حيلة له سوى التحلي بالثقة..

من الواضح أن انعدام ضمانات توفر المنتوج سيؤثر على الأسعار، خاصة وأن هناك رغبة عامة في الاحتفاظ بالمخزون “في المنزل”، بالنسبة للرعاة كما للرعايا. ولطمأنة رعاياهم، يؤكّد الوزراء أن لديهم مخزونًا كافيًا. لكن ذلك لا يمنع المصدرين من الاحتفاظ بمخزونهم، لأن تقلب الأسعار يجعل تأجيل قرار البيع مربحًا، لتحقيق أقصى استفادة من الارتفاع. أما المستوردون، فهم -مثل الأسر- يشكّكون في الخطابات الرسمية، وينتابهم القلق بشأن النقص المستقبلي، فيحمون أنفسهم عن طريق تراكم المخزونات والاحتياطيات الأخرى. فقد فرض الكرملين على سبيل المثال ضرائب على صادراته من الحبوب اعتبارًا من صيف 2021 لصالح سوقه المحلي. ويستجيب المستوردون هنا للقلق الذي يحوم حول موضوع الأمن الغذائي، ويسعون إلى الشراء بأي ثمن. والنتيجة هي ارتفاع الأسعار، ولا أحد لا يعرف متى سينتهي ذلك بعد التضاعف الذي شهدته في أقل من عام. وبحسب وكالة “رويترز”، فقد وقّعت الجزائر مؤخرًا عقدًا بسعر 625/630 دولارًا للطن، ما يفوق الأسعار الحالية -400 دولار- بأكثر من 50%.

من سيقدر على الدفع؟

هل تستطيع الدول العربية الدفع؟ هذا هو السؤال. باستثناء مملكات النفط، كانت جميع دول المنطقة تسجل عجزا في ميزان المدفوعات الحالي، حتى قبل موجة ارتفاع الأسعار التي شهدتها الأسواق. إذ يبلغ هذا العجز نسبة 6% من الناتج الداخلي الخام في تونس، و4% في الجزائر، و5% في مصر، وتقريبا 3% في إيران وتركيا والمغرب.. فكيف السبيل لمواجهة هذا الوضع؟ تستفيد البلدان المصدرة للنفط من الريبة الكبيرة التي تتسبب فيها الحرب في شرق أوروبا. تقترب الأسعار من الذروة المسجلة في 2010-2013 بسبب النمو الاستثنائي للصين. ووفق تصريحات وزير الطاقة السابق والرئيس التنفيذي لشركة سوناطراك الوطنية عبد المجيد عطار في صحيفة “المجاهد” اليومية الجزائرية بتاريخ 6 مارس/آذار 2022، في حال التهدئة والتفاوض، “ستستقر أسعار النفط والغاز حول السعر المرجعي. لكن إن استمر الصراع أو ساء، فسيكون هناك خطر كبير لانقطاع الإمدادات في أوروبا..”. وفي تلك الحالة، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالحجم الذي سيبلغه ارتفاع الأسعار. تبقى آمال الدول الأخرى معلّقة بلفتة من صندوق النقد الدولي حتى يمنح قروضًا إضافية كما فعل عند انتشار وباء كوفيد-19، وسيتم ذلك طبعًا على حساب تفاقم الدين الخارجي بالعملات الأجنبية، والذي يجب تسديده يومًا ما.

شرعت العديد من الدول العربية في إصلاح منظومة الدعم لاستهلاك المنتجات الغذائية الأساسية مثل الخبز أو السميد أو الزيت أو الحليب، ما أدى إلى زيادة أسعار البيع بالتفصيل، علمَا وأن كل ذلك يتم تحت مظلة صندوق النقد الدولي. طبعًا، من المستبعد إضافة تضخم آخر للتضخم الحالي، وقد تم تأجيل هذه الإصلاحات لوقت أفضل، من الجزائر إلى مصر. قد تقترح بلدان أخرى -مثل دول الخليج المنتجة للنفط- العودة إلى المقايضة -الحبوب مقابل المحروقات-، لتكون تلك بداية تراجع عولمة الاقتصاد العالمي. فالأمر لا يقتصر فقط على غذاء البشر، بل يشمل غذاء الماشية التي تحتاج هي الأخرى إلى منتوجات مستوردة. هنا أيضًا، يُعدّ خطر حدوث نقص كبير واردًا، مما قد يؤدي إلى مذابح مبكرة وواسعة النطاق، ستتسبب في إفلاس ملايين المربّين وتحرمهم من مصادر رزقهم. تبقى عقبة أخيرة، وهي كيف الدفع؟ تم فصل البنوك الروسية عن نظام “سويفت” الذي يربط 11 ألف بنك حول العالم، ويقوم بأتمتة جهاز الدفع وجعله يكاد يكون فوريًا. وبصرف النظر عن مؤسستين ماليتين روسيتين متخصصتين في دفوعات المحروقات تم استثناؤهما من العقوبات، قد لا تجد البنوك العربية مجيبًا. قد يتم وضع دوائر تمويل أخرى، لكنها ستكون بالتأكيد أكثر تكلفة وأكثر عشوائية.

إن المحنة التي تنتظر المستوردين العرب، وخاصة أولئك الذين يعتمدون على الأسواق الخارجية في كلا مجالي الغذاء والطاقة، لم يسبق لها مثيل على مرّ العصور. كيف سيتعاملون معها؟ ماذا سيفعل المجتمع الدولي؟ كل هذه الأسئلة تبقى بلا إجابة في الوقت الحالي.