اقتصاد

في الحجار، تتلاشى طموحات الجزائر في مجال صناعة الحديد والصلب

مع هدم أول الفرنين العاليين في مُركّب الحجار بولاية عنابة، يندثر حلم الجزائر المستقلة الرائد خلال السبعينيات في إرساء صناعة مزدهرة للحديد والصلب، كرمز للحداثة ولحلم بمستقبل واعد.

مركّب الحجار للحديد والصلب، 1971.
© Jean Cabot/Le monde en images, CCDMD

مرّ الخبر مرور الكرام أو كاد. يومًا بعد يوم منذ 19 مايو/أيار 2022، يتوالى فريقان من العمال عملية هدم الفرن العالي رقم 1 (HF1)، وهو الجزء المحوري لمركّب الحجار للحديد والصلب الذي يقع على بعد حوالي خمسة عشر كيلومترًا من عنّابة، الميناء الكبير في شرق الجزائر. وهي على الأكثر طريقة للتعجيل بالأمر، ذلك أن عمال المناجم في حقل الحديد المجاور الذين يُضربون بانتظار عن العمل، صاروا يزوّدونه بشكلٍ غير منتظم منذ شهور. وستحلّ الخردة المسترَدّة محلّ الخام المفقود لبعض الوقت.

هكذا ودون مجد ينتهي المطاف بمصنعٍ كان يشكّل أحد أكبر طموحات الجزائر المستقلة الفتية، وذلك تحت ضربات المطارق الثاقبة وعديمة الذاكرة. كانت المرحلة آنذاك للالتزام والإيمان بمستقبل يتشكّل من مصانع ومن فرص عمل للملايين من منسيي الاستعمار.

مشروع سياسي استعماري

كان المشروع سياسيا منذ بدايته في 1958. فقد كان الجنرال ديغول، الذي عاد لتوّه إلى السلطة، يحلم بتشجيع بروز قوة ثالثة افتراضية ضد متمردي جبهة التحرير الوطني، فرسَم لها قاعدة اقتصادية من خلال “مخطط قسنطينة” الذي تم إطلاقه بعد عام. ويتشكّل الجزء المحوري منه والأكثر إثارة من مشروع لصبّ الفولاذ في عين المكان، بعيداً كل البعد عن الميثاق الاستعماري الذي يحصر المقاطعات الجزائرية الثلاث في دورها المتواضع كمزوّد للنبيذ والمعادن-ومنها حديد الونزة-، تم تصديرها منذ أكثر من قرن باحتكار من فرنسا.

لم يتقبّل صناعيو الصلب الفرنسيين الذين طُلب منهم تمويل هذا المشروع فكرة خسارة سوقهم الجزائرية، وخاصة أن يدفعوا حساب ذلك. وتأخّرت المفاوضات حتى سنة 1960، التي كانت سنة إنشاء شركة بونة (الاسم الفرنسي لعنّابة) للحديد والصلب ذات الـ32 مساهماً (وهي شركات الصلب الفرنسية)، والتي كانت أيضا سنة بداية المفاوضات بين باريس والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

انطلقت الأشغال أخيراً في السنة الموالية بناءً على خطة أولية كلاسيكية آنذاك: فرن عال، يُنتج انطلاقاً من فحم حجري مستورَد ومن حديد الونزة حوالي 400 ألف طن من الحديد الزهر، وهي كمية اعتبرها القوميون الجزائريون جدّ متواضعة. ولكن في 1963، توقفت الورشة تاركة جبلا من الخرسانة وبعض المباني. وفي الأخير، تعهدت الدولة الفرنسية بالتمويل انطلاقاً من الأموال العمومية، لإنهاء الورشة تحت الإشراف التقني لشركة “سوفريسيد”، وهي شركة هندسية فرنسية أيضا. بعد ذلك بست سنوات، في يونيو/حزيران 1969، تم إشعال النار في المنشأة وتجاوز إنتاجها على الفور قدرتها القصوى النظرية.

ولكون مصنع الصلب وماكينة الدرفلة، اللذان يُعتبران المنفذ الطبيعي للحديد الزهر المنتج، لم يكتملا بعد، يتم تصدير سبائك1 الحديد الخام الناتج عن الانصهار الأول بأسعار مرتفعة.

جوهرة الحداثة في الجزائر المستقلة

يُعتبر مركب الحجار، الذي يلعب دورا رئيسيا -مع شركة “سوناطراك” التي تتكفل بالمحروقات- في التصنيع الذي دافع عنه رئيس الجمهورية هواري بومدين بمساعدة وزير مفرط النشاط وهو بلعيد عبد السلام، يُعتبر رمزاً للحداثة ولطموحات الجزائر الجديدة. ففي 1964، حلّت مكان شركة بونة للحديد والصلب الشركة الوطنية للحديد والصلب التي قادها ببراعة محمد الياسين، أحد الجزائريين القلائل المتخرجين من المدرسة المتعددة التقنيات. أسفر الأمر عن مغامرة إنسانية رائعة2 جلبت الطلبة الشباب العائدين من الجامعات من مختلف بقاع العالم، ومجاهدين كانوا قد توقفوا عن الدراسة للالتحاق بجيش التحرير أو أجانب باحثين عن الالتزام أو حتى عن تغيير الجو. وهم على الخصوص جزائريون وأيضا فرنسيون وسوفيات وألمان وبلغار، جميعهم من الشباب وغالبا ما كانوا مدججين بشهادات معتبرة. بغض النظر عن تنوعهم، سيتم الاندماج وسيقوم فريق متماسك بالتكفل بالإنجاز في أقل من 20 سنة لقطاع صناعي مهم: الحديد والصلب. توالت عمليات التدشين بوتيرة سريعة: مصنع لأنابيب التلحيم الحلزوني لخطوط الأنابيب الموجهة للصناعة البترولية في 1969، وآخر بدون تلحيم في 1977 يوفّر أيضا أنابيب تحتاجها وزارة الري، ومصنعان للدرفلة في 1980 لتشكيل الصفائح المسطحة وتزويد الصناعة الميكانيكية المحلية التي كانت تتطور بسرعة.

في نفس السنة دخل فرن الصهر العالي الثاني (HF2)، الذي يتجاوز الفرن السابق بثلاثة أضعاف، في الإنتاج، كما تم إنجاز ثلاثة مصانع للصلب. في المجموع، رصد مرسوم صادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 1977، 26 وحدة تابعة لـ“المؤسسة الاشتراكية للحديد والصلب” والتي لا علاقة لها بالشكل الضيق لشركة بونة للحديد والصلب. بل أصبحت حتى مدرسة لتكوين المسيّرين والإطارات لفائدة الشركات العمومية الأخرى.

كانت آثار المركب على منطقة عنابة مدهشة: مرّ 40 ألف عامل من الشركة الوطنية للحديد والصلب، 20 ألفا منهم بالحجار. وقد تحوّلت المنطقة إثر ذلك، واكتشف سكان الريف القادمون من معسكرات التجميع للجيش الفرنسي أو من الحدود التونسية حياة جديدة أكثر حداثة وأكثر انفتاحا.

يكتب رزقي حسين، مسيّر الشركة الوطنية للحديد والصلب من 1977 إلى 1983، في كتاب صاغه بعد نصف قرن من ذلك الفاعلون لهذا التحول البشري والاجتماعي3 الذي صدم الأوساط التقليدية والدينية إلى درجة أن أعيان مدينة جيجل رفضوا لأكثر من ثلاثين عاما تطوير مصنع حديد وصلب جديد عندهم: “من القرية الأولى إلى ولادة مدينة، ومن حالة الفلاحين إلى بروز البروليتاريا، كان الحجار في قلب ثورة في أساليب الحياة والعمل”.

إعادة هيكلة في شكل انحدار صناعي

غداة وفاة الرئيس هواري بومدين، وانطلاقا من الثمانينيات، فقدت الشركات الوطنية حاميها. تم إطلاق عملية “إعادة هيكلة واسعة للشركات العمومية” من طرف رجل قوي جديد، هو عبد الحميد الإبراهيمي، وزير التخطيط ثم رئيس الوزراء. وقد أظهر الأخير حماساً منقطع النظير لـ“تفكيك الوحوش الرباعية التي تشكّل حقيقة دُولاً داخل الدولة، والقادرة على صد أية محاولة خارجية للدفع أو الإصلاح أو مجرد المراقبة، ولكنها أيضا غير قادرة على النجاعة الاقتصادية”، كما أوجز ذلك الدليل السنوي لشمال إفريقيا (Annuaire de l’Afrique du Nord) في طبعة 1984 (رقم 23 ص 797).

حُسم الأمر. فمن وراء الذريعة المالية، تخلّت السلطة العمومية عن استراتيجية التصنيع فيما يُشبه في الواقع عملية تصفية الحسابات، فالسياسيون الذين أداروا الدولة والمجتمع منذ قبل الاستقلال كانوا يخشون منافسةَ أولئك الذين لم يكونوا يُسمَّون بعد بـ“التكنوقراط”، والذين صاروا يبنون واقعاً جديداً بعيداً عن متناولهم. فالتنافس على السلطة يسكن قادة البلاد. ومثل “الشركات الوطنية” الكبيرة الأخرى، تم تقزيم الحجار وتقسيمه إلى ما لا يقل عن 18 شركة منها سيدار “التي هي بحكم الواقع الوريث المادي والمعنوي للشركة الوطنية للحديد والصلب، لروحها ومهارتها” (الدليل السنوي لشمال إفريقيا 1984، ص 271).

لكن بعد 1982، لم يتم مرافقة إعادة الهيكلة العضوية بإعادة هيكلة مالية ضرورية. فطوال التسعينيات، لم يكن لشركة “سيدار” رأس مال اجتماعي ولا رأس مال متداول. والأسوأ من ذلك أنه تم في فبراير/شباط 1996 سجن كل قيادة أركان الشركة - بمن فيهم الرئيس المدير العام مسعود شطيح - بتهمة “سوء التسيير”، وهي إدانة وهمية تخفي بشكل سيء نزوات الوزير الأول آنذاك، أحمد أويحيى، الذي كان يبحث عن كبش فداء لتجاوز مرحلة صعبة، والذي هو مسجون الآن بدوره! ومن بين المسيرّين الأحد عشر الذين قضوا أربع سنوات في السجن، ثلاثة منهم فقط هم على قيد الحياة. وقد اتهموا ببيع حديد التسليح الموجه للبناء بثمن زهيد، وهي منافسة لا تناسب المستثمرين الإماراتيين والقطريين والأتراك الذين انطلقوا في هذا المجال.

تم استغلال الركود الذي مرّ به مُركّب الحديد والصلب من قبل بلطجية أدانهم رئيس الوزراء، عبد العزيز جراد، تحت تسمية “عصابة عنابة”. وهي تتشكل من مزيج غير طبيعي من موظفين محليين فاسدين، ونقابيين مرتشين ومحتالين وقحين. وقد صرخ رئيس الوزراء خلال زيارته إلى الحجار في 13 سبتمبر/ أيلول 2020: “لن تذهب الأموال بعد الآن إلى جيوب عصابة عنابة”. بالعودة إلى ماضيهم، يشهد قدماء الشركة الوطنية للحديد والصلب بضياع الفرصة باختفاء الشركة. فعِوض صناعة حديثة متكاملة وقادرة على إمداد باقي القطاع الصناعي بالمنتجات النبيلة، لم تعد الجزائر تنتج سوى الأسلاك الحديدية وحديد التسليح الموجه للبناء والأشغال العمومية، بعيداً عن أحلام روادها.

1السبائك في مفردات صناعة الصلب هي كتل من الحديد الصب الخام المصبوب في الهواء الطلق تزن بعض عشرات الكيلوغرامات والناتج عن الفرن العالي.

2انظر “المغامرة البشرية والصناعية للحديد والصلب الجزائري 1964 ـ 1982”، L’aventure humaine et industrielle de la sidérurgie algérienne 1964-1982, Mémoires SNS, Éditions du Croquant, 2021.

3نفس المصدر أعلاه.