من الجلي أن عبد الفتاح السيسي - المتعوّد على المشاريع الفخمة والخطابات الانتصارية - يجد صعوبة في استعادة مكانة مصر في مجتمع الأمم وتأمين مستقبل وطني يستند إلى اقتصاد آخذ في التوسع. وبعد عشر سنوات من وصوله إلى السلطة في يوليو/تموز 2013، تأكّدت الشكوك، فقد أزاح الخليج القاهرة دبلوماسيا وماليا، بينما تواجه البلاد انهيارا يذكّر بكوارث أيام الخديوي والباشوات. فكيف وصل الوضع إلى ما هو عليه؟
وصل الرئيس المصري الذي أتى من المخابرات العسكرية إلى السلطة بفضل ثورة 2011. فقد تمت ترقيته أولا إلى رتبة مشير من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى حكم البلاد بعد سقوط حسني مبارك، ثم عُيّن وزيراً للدفاع من قبل محمد مرسي، الرئيس الإخواني الذي لم يدم طويلا في الرئاسة. اعتقد الأخير – وقد كان استراتيجيّا غير موفق - أنه بمقدوره التوافق مع الجيش، قبل أن يقوم هذا الأخير بتنحيته خلال انقلاب صيف 2013.
يحتفظ العسكر بذكرى سيئة جدّا عن نهاية عهد مبارك وترقية قلّة من المقرَّبين من ابن الرئيس، جمال مبارك، الذين استأثروا بالاقتصاد على حساب العسكر، ولم يعودوا يُخفون طموحاتهم السياسية. وبعد كظم غيظهم لعدة سنوات، صار العسكر يشعرون - وكانوا محقين في ذلك - أن ساعتهم قد حانت. فلهم إذا المناصب والثروة.
السراب العقاري
شاركوا في اللعبة فخسروها على ثلاثة أدوار. يحلم السيسي، المفتون بنموذج دول الخليج، بالعقارات والتمويل لتحديث مصر. وهو يفضّل المشاريع الضخمة مثل توسيع قناة السويس أو بناء عاصمة جديدة وسط الصحراء، ويعلن عن بروز مدن جديدة أخرى، ويطمح في بناء أكبر متحف في العالم عند سفح الأهرامات (المتحف المصري الكبير). ومن المفروض أن تسدد أموال أمراء الخليج والائتمانات الصينية تكاليف هذه المنشآت، لفائدة كبرى الشركات العسكرية المكلَّفة بالأشغال الكبرى. في نفس الوقت، تضع تلك الشركات العسكرية أيديها على مشاريع خاصة مربحة جدا، وتوسّع إمبراطوريتها بشتى الوسائل. بالكاد تدفع هذه الشركات - المعفاة من الضرائب - أجور اليد العاملة، المكوَّنة في الغالب من مجنَّدي الخدمة العسكرية، ويستخدمون بنوك الدولة التي لا يمكنها أن ترفض لهم طلبا، بل ويستنجدون بالخزينة العمومية التي يتم استغلالها بلا حدود، دون إهمال العمليات البوليسية لتخويف أرباب الأعمال “قليلي الفهم”. ذلك أن الجيش المصري يفتقر إلى نظام تقاعد قوي، قادر على ضمان أسلوب حياة لائق للجنرالات والعقداء الذين يغادرون الحياة العسكرية كل عام. لذا يتوجب إيجاد مناصب ووظائف تكوّن مصدر دخل سهل لهم، قصد تجنب تذمّر جهاز يمكن أن يتحوّل بسرعة إلى تهديد. لكن سيناريو الإنشاءات الفخمة أظهر ضعفه. وأصبحت تحويلات ملايين العمال المصريين في الخليج وأوروبا، ومداخيل قناة السويس والسياح غير كافية لكي تُعيّش مصر.
يجب إيجاد حلّ آخر. لكن ما هو؟ يفتقر القطاع الخاص - الذي استنزفه العسكر من خلال منافسة غير عادلة - إلى الديناميكية. ولن تكون الآفاق الغازيّة التي فتحها اكتشاف حقل كبير في شرق البحر الأبيض المتوسط سنة 2015 (حقل الزهور الذي تُقدَّر احتياطياته بـ 850 مليار متر مكعب) مهمة إلا على المدى الطويل بسبب صعوبات الاستغلال، وكان على البلاد أن تقتصد في استهلاك الطاقة داخليًا للاستفادة بشكل أكبر من صادراتها.
يظل المستثمرون الأجانب حذرين، وتطالب الآن دول الخليج - التي دفعت بالفعل كثيرا من الأموال لضمان الإقصاء النهائي لجماعة الإخوان المسلمين - بعائد على الاستثمار. وكون أن القطاع الإنتاجي بقي مهملا لفترة طويلة جدًا بسبب المنطق الريعي (المحروقات، السياحة، مداخيل القناة)، فإن الصادرات متواضعة، وهي بالكاد تفوق صادرات الجارة تونس. لذا كانت النتيجة انهياراً فعلياً للجنيه المصري مقابل العملات الصعبة، مما يجعل تمويل الاقتصاد غير ممكن. وبالتالي دخلت مصر في دائرة غير فاضلة.
في كانون الأول /ديسمبر 2016، قدّم صندوق النقد الدولي مخرجا: قروض بـ12 مليار دولار مقابل تخفيض حاد في دعم الوقود والمواد الغذائية وحزمة من الإصلاحات الهيكلية التي سبق وأُعلن عنها في الماضي، لكنها بقيت مجرّد نوايا خوفاً من آثارها الاجتماعية المزعزعة. والأهم من ذلك، فإن الاتفاقية تمهّد الطريق لأموال جديدة. تشكّل سندات الخزينة ذات الأجل القصير للغاية (من شهر إلى 6 أشهر، وبشكل استثنائي حتى سنة واحدة) مخاطرة محدودة للمدخرين العرب والأوروبيين والأمريكيين، بسبب قصر مدتها ومعدلات فائدة هي من بين الأعلى في العالم (ما بين 15 و17%). زجّ السيسي بنفسه في هذه الإمكانية الخطيرة. وفي غضون أشهر قليلة، تدفق ما بين 20 إلى 30 مليار دولار إلى الخزائن، بينما تدهورت حياة المصريين اليومية، خاصة الطبقة الوسطى، نتيجة للتأثير المزدوج لارتفاع أسعار المنتجات المستوردة والتقليص الحاد في نفقات الدعم. غير أنّ مصر واصلت لمدة عامين ونصف تقريبا خلق الوهم، مظهرة معدل نمو مشرف بحوالي 5%. ثم جاءت في 2021 جائحة كوفيد - 19 لتوجه ضربة أولى إلى اثنين من أهم مصادرها من العملة الصعبة - السياح، الذين اختفوا، والملاحة في قناة السويس التي انخفضت بشكل كبير. ولكن الأسوأ كان قادما.
تحفظات صندوق النقد الدولي
في فبراير/شباط 2022، اجتاحت روسيا أوكرانيا. وفي غضون أيام قليلة فرّ “المال الساخن” من مصر لفائدة الدولار، وأصبحت الثغرة في احتياطات الصرف وميزان المدفوعات لا تطاق. وفي آذار/مارس، قام البنك المركزي بتقنين تسليم العملة الخضراء، إذ لم يعد كافيا أن تمتلك الجنيه المصري لشرائها، بل يتعين الحصول على الضوء الأخضر من السلطات النقدية. وهكذا تراكمت البضائع التي تنتظر التسوية على مستوى الموانئ، لتصل إلى أكثر من 10 مليارات دولار من البضائع المعطلة.
لجأت القاهرة إلى صندوق النقد الدولي الذي كان أكثر شراسة هذه المرة من 2013. طلب المصريون 9 مليارات دولار، فعرض الصندوق 3 (بالكاد أكثر مما يقترحه على تونس التي يقل عدد سكانها عشر مرات). كما طالب بإصلاحات أكثر صرامة من المرة السابقة، بما في ذلك توقف تدخل البنك المركزي في سوق الصرف الأجنبي لدعم الجنيه. كما واصل الصندوق الدعوة إلى خصخصة القطاع العام. وقد حذّر الصندوق في ربيع 2021 من أن الأمر يجب أن يشمل “كل القطاعات، بما في ذلك الشركات العسكرية”. أصبحت المسألة بالنسبة للسيسي سياسية. كيف يمكن إرضاء صندوق النقد الدولي دون تنفير مؤيديه العسكريين؟ كيف يمكن الحصول على محاسبة شفافة تُقدَّم للمشترين المحتملين من شركات يديرها الجيش - والتي قد تُطرح في السوق -؟ كيف يمكن تجنب استيلاء دول الخليج التي ازدادت ثراء نتيجة لآثار حرب أوكرانيا على سعر المحروقات، وعلى البلاد، على حساب سيادة يجعل العسكر من أنفسهم ضامنيها الأوائل؟
أمام هذه المعضلة التي تفتقر إلى أي حلّ، ضاعف الرئيس من عمليات صرف الأنظار، وانتقد في ديسمبر/كانون الأول 2021 التسيير “غير المجدي منذ 40 سنة” لـ 943 شركة عمومية وأيضا لهيئات الضبط الـ 52، ودعا جميع المصريين للمشاركة في مسار الإصلاح القادم.
في 4 يناير/كانون الثاني 2023، وتطبيقا للاتفاق مع صندوق النقد الدولي، توقف البنك المركزي عن دعم الجنيه الذي انهار بشكل حاد في الأيام الموالية. اقتربت الأسعار من تلك المعمول بها في السوق السوداء (من 30 إلى 31 جنيه للدولار الواحد)، ويهدد غياب الثقة في السلطات بسقوط العملة الوطنية إلى الهاوية.
انتقادات أكثر فأكثر علانية
حرّرت الأزمة الانتقادات التي صارت مسموعة أكثر، كونها أصبحت غير معتادة في بلد يُقمع فيه كل شكل من المعارضة بشدة. وبعد الترقب الذي أثاره الخطاب المبتهج حول الدورة الـ27 لمؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022 التي نظمت بشرم الشيخ في نوفمبر/ تشرين الثاني، وهو حدث، وفقا لأقوال السلطات، من شأنه أن يشكل الذروة بالنسبة لمصر ويجلب رؤوس الأموال، استيقظت البلاد على خيبة.
غيّر عبد الفتاح السيسي النغمة بشكل ملحوظ. انتقل خطابه من الانتصارية إلى الدفاعية الشديدة: الصعوبات التي تواجهها البلاد ما هي إلا نتيجة لعوامل خارجية فقط، أزمة الكوفيد والحرب في أوكرانيا. صار الرئيس الحليم يهدّد ويحذّر من أنه على المصريين الكف عن “الثرثرة”، وهي عبارة لقيت استهجانا حيث اعتبرت مهينة للشعب المصري. كما استُهجن الحث على استهلاك أرجل الدجاج (وهي طريقة لدعوة المصريين إلى الاكتفاء بالقليل) التي لم تُقدر منافعها الغذائية حتى الآن، وانتشر التهكم بشكل واسع على الشبكات الاجتماعية.
بعد عشر سنوات من السلطة، يواجه الرئيس المشير حقيقة نظامه وهو شبه محاصر. من المستحيل الاستمرار في تسمين الهرم الأعلى للعسكر إذا كانت هناك نية في إعادة الاقتصاد إلى سكة التنمية، ولو بطريقة متواضعة. يجب عليه الاختيار، ما قد يكلفه غاليا.