تونس ساحة للصراع الخليجي

ترتبط أزمة العالم العربي جزئياً ببعض دول الخليج، ومن بينها الإمارات العربية المتحدة، وإن كان البعض ما يزال يستخف بدورها الأساسي في تلك الأزمة. تنتهج الإمارات سياسة خارجية تتسم بالمبادرة في عدة بلدان، ويبدو دورها في المسرح التونسي مجهولاً، رغم أن قادة هذه المملكة الفيدرالية يشنون على أرض تونس معركة مدعومة ضد قطر والإسلام السياسي و ضد الديمقراطية بالتالي.

.سبتمبر 2015، باجي قائد السبسي يقدم عزاءه لنائب الرئيس الإماراتي محمد بن راشد آل مكتوم بعد وفاة ولده
DR

تحاول المملكة العربية السعودية منذ عام 1995 الإطاحة بالعشيرة التي تحكم في الدوحة، حيث أنها تراها مبالغة في الاستقلال عن هيمنة الرياض السياسية، وحتى معادية لسياساتها أحياناً. فإن إطلاق محطة الجزيرة، وفتح الحدود والموجات الصوتية أمام العديد من الثوار العرب، وبشكل خاص دعمها لإيران وحزب الله في ظروف معينة، أمور جعلت من قطر متحدياً يغفو إلى جانب المملكة العربية السعودية.

توجه الإمارات العربية انتقادات حادة لقطر بدورها. مساحة البلدين متواضعة إن قورنت بالقوى الإقليمية أي إيران والسعودية، ولكن القادة القبليين الذين يديرون الأنظمة السلطوية في كل منهما طموحون، يناصب بعضهم العداء للبعض لأسباب شخصية وسياسية وتاريخية.

حجة الديمقراطية

منذ اندلاع الربيع العربي في بداية عام 2011، دعمت الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما حدوث تغيير في المنطقة. تركيا وقطر، حليفتي واشنطن المقربتين من الإخوان المسلمين ومن عدة تيارات ثورية عربية، تبنتا الموقف ذاته. أما السعودية والإمارات العربية المتحدة فقد اختارتا الطريق المعاكس (إلا في سوريا وليبيا، وذلك لأسباب مختلفة). فالرياض كما أبو ظبي، تحبذ سيادة النظام والاستقرار على الديمقراطية. لا يبرر حكام هذين البلدين موقفهما بانتقاد أيديولوجي للنظام السياسي. بل على العكس، فهم يعلنون غالباً تأييدهم للديمقراطية، ولكنهم يقولون في الوقت ذاته أن شعوبهم غير جاهزة لها. هذه الحجة الصالحة للاستخدام في أي وقت ولأي أمة، تضاف إلى سبب واقعي يصرح عنه نادراً : الدفاع عن مصالح العشائر الحاكمة التي قد تخاطر بفقدان امتيازاتها إن قامت الديمقراطية في المنطقة ونجح معارضوها بصناديق الاقتراع.

القطريون والأتراك ليسوا أكثر ديمقراطية من السعوديين الإماراتيين، ولكنهم يرون في الديمقراطية أفضل طريقة لإيصال حلفائهم إلى الحكم، وبالتالي أداة يمكن أن تخدم مصالحهم. ولهذا يتظاهرون بدعم إقامة دول حقوق في العالم العربي، وهو ما لا يثير استياء حلفاءهم الغربيين. وبالتالي فإن التحالف القطري التركي استفاد بشكل غير مباشر من طرح فكرة الديمقراطية في 2011.

ولكن الحروب المتعددة التي أعلنت في العالم العربي، وصعوباتها الاقتصادية، أدت بالكثير من العواصم الغربي إلى إعادة النظر في أولوياتها، فتوصلت إلى أن أمن الغرب أولى من دمقرطة البلدان العربية. التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتصاعد اليمين والشعوبية إجمالاً، ثم وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2017، كلها أمور سرّعت هذه العملية.

هكذا وجد الأتراك والقطريون أنفسهم في الهامش، بعد أن كانتا حتى عام 2016 رأس حربة السياسة الغربية المؤيدة لدمقرطة العالم لعربي. أما من كانوا على الهامش سابقاً، وهم في هذه الحالة السعوديون والإماراتيون (الذين أصبح لهم دور في تنصيب القادة السياسيين في واشنطن، والذين تسعى فرنسا وبريطانيا إلى كسب ودهم) فقد دفع بهم فجأة إلى واجهة المشهد، واليوم يبدو أن كفة الاستقرار ترجح، على حساب الديمقراطية.

السابقة الليبية

فيما ركزت العربية السعودية الجزء الأعظم من جهودها على محيطها الجغرافي المباشر (سوريا وتنظيم الدولة الإسلامية شمالاً، إيران شرقاً، واليمن جنوباً ومصر غرباً) مضى الإماراتيون أبعد من ذلك. فقد سمح لهم الربيع العربي في الواقع وضع سياسية خارجية جديدة مبادرة وطموحة تذكر بالسياسة التي اتبعتها قطر قبل عقدين من الزمن. فمنذ 2011 تتحامل الإمارات على قطر وحلفائها الرئيسيين، أي تركيا وأحزاب الإسلام السياسي. إلا أن تركيا تبقى قوة كبرى في المنطقة تتحاشى أبو ظبي المواجهة المباشرة معها. والحلقة الأضعف في هذا التحالف، أي الإسلام السياسي، يدفع ضريبة حرب لا اسم معلن لها، خصوصاً في شمال أفريقيا.

ولكن هناك ضحية جانبية لهذه المعركة: الديمقراطية. لقد نجح النظام في المغرب كما في الجزائر بتعزيز سلطته إلى يومنا الحاضر وبتجنب تدخلات هذين البلدين. إلا أن المبارزة بين الخصمين أدت إلى إقامة الديكتاتورية في مصر وإلى تفتيت ليبيا. لم يبق سوى تونس.

في ليبيا شاركت كل من الإمارات وقطر الحرب ضد الجماهرية عام 2011 بصورة جدية، وذلك بتعاونهما مع حلف شمال الأطلسي لإسقاط النظام. لقد كانت تونس ممراً إجبارياً إلى طرابلس، وقد استخدمها البلدانلتمرير الأسلحة والذخائر. ولكن تزايد قوة الإخوان المسلمين في مصر، وانتصار حزب النهضة في تونس في تشرين الأول/أكتوبر عام 2011، وموت معمر القذافي في الشهر ذاته، وانتصار حزب العدالة والتنمية في المغرب في الشهر الذي تلاه، أمور كان لها معنيان: قطر كانت تتقدم في شمال أفريقيا، ومعمر القذافي، العدو المشترك الذي أجبر أبوظبي والدوحة على العمل في صف واحد، قد اختفى.

في نهاية عام 2011، بلغت المنافسة بين البلدين الشقيقين الخصمين أشدها. مصر وليبيا كانتا رهانين هامين: فانتصار أحدهما كان يعني خسارة الآخر. وكان للرأس الأفريقي التونسي قيمة رمزية لكونه مهد ثورات الربيع العربي، ولكونه أيضاً عنصراً مفتاحياً في الملف الليبي.

تونس رهينة الإمارات

إذن يمكن اختصار سياسة الإمارات في تونس بثلاث نقاط كبرى: إيقاف قطر أولاً، ثم حزب النهضة المنحدر من الإسلام السياسي. أما النقطة الثالثة فهي الملف الليبي: لقد استثمرت الإمارات هناك اقتصادياً وسياسياً وعسكرياُ في وجه الدوحة وأنقرة والإسلام السياسي.

وهكذا، منذ الأسابيع الأولى من عام 2011 شنت الإمبراطورية الإعلامية الإماراتية (والسعودية) جملة ضد حزب النهضة وتأثير قطر وتركيا في تونس.. هذه الحملة التي استهدفت التونسيين تشبه تلك التي استخدمها الروس ـ والإماراتيون ـ لاحقاً للتأثير على الانتخابات الأمريكية في عام 2016، والتي تعرف باسم "الأخبار الكاذبة". شنت وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي المقربة من قطر حملة مضادة. ولكن نظراً إلى أن الأمارة الصغيرة كانت تحاول تجنب غضب الرياض (حتى عام 2017) كانت الرد ضعيفاً ونادراً ما تجاوز الحلقات التي كسبتها قطر سابقاً.

لا تقتصر هذه الحملات والحملات المضادة على تونس. بل تمتد إلى سائر العالم العربي وشبكات مراكز الدراسات ووسائل الإعلام ذات النفوذ الكبير في واشنطن ولندن، وبدرجة أقل إلى أوروبا. لقد تمكن الإماراتيون والسعوديون والقطريون من تكوين شبكات دعم قوية وفعالة في أقل من عقد واحد. ما نتج عنه تأسيس فريقين. وهكذا أصبح انتقاد قطر بالنسبة للدائرة المقربة من الدوحة بمثابة عمل مضاد للديمقراطية وتشجيع الديكتاتورية. وذم الإمارات يعني للمقربين من أبو ظبي اتخاذ موقف مؤيد لقطر ومعاد للاستقرار. الدفاع عن مكانة الإسلام السياسي أصبح رديفاً لتشجيع الديمقراطية في نظر المعسكر القطري، وحثاً على الإرهاب في نظر المعسكر الإماراتي. هذه المنهجية (التي أخذت عن تلك التي تستخدمها إسرائيل حين تتهم كل من يعاديها بمعاداة السامية) كان لها فعالية كبيرة في إفقاد مصداقية الجهات المختلفة. وفي تونس، أسهمت في إفقاد شرعية العديد من الجهات السياسة.

ويبدو أن قطر قد مولت منذ عام 2011 حزب النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه الرئيس السابق منصف المرزوقي. وهناك عدة مصادر محلية ودولية تفيد بأن الإمارات قد مولت حزب نداء تونس بين عامي 2013 و2014. كان هدف العون الإماراتي إزاحة حزب النهضة عن السلطة. سيناريو كهذا كان سيعني نصراً إضافياً للإمارات. نظراً إلى أن حزب النهضة حل في المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية عام 2014، فإن إقصاءه عن السلطة كان سيؤدي إلى تعطيل الشؤون السياسية بشكل تام وبالتالي إلى إفلاس معلن للانتقال الديمقراطي والنموذج التونسي.

من يحمل دلالة كبيرة أول زيارة رسمية لوزير الخارجية الإماراتي منذ عام 2011 كانت في بداية 2015 أي بعد عدة أشهر من تنصيب الرئيس الباجي قائد السبسي، مؤسس حزب نداء تونس.

إلا أن الأخير قد فضل أن يتحالف مع رشيد الغنوشي، قائد حزب النهضة، لتشكيل ما سمي بحكومة توافقية. لم ترض الإمارات عن هذا، ولم تتوانى عن إجراء ضغوطات عن طريق رفض تأشيرات السفر للمواطنين التونسيين، وعدم تجديد تصاريح الإقامة الخاصة بالتونسيين الذين يعملون في الإمارات، وإلغاء مشاريع استثمارية وعدت بها سابقة، وحملة إعلامية، إلخ. آخر وسيلة ضغط إلى تاريخه كانت منع النساء التونسيات من استخدام مطار دبي كمحطة عبور، الساري منذ ديسمبر 2017.

التأثير على الناخبين التونسيين

مع اقتراب الانتخابات البلدية في أيار/ مايو 2018، تنتشر من جديد الإشاعات التي تتهم الإمارات بدعم أحزاب سياسية تونسية معينة ، وتشير الإشاعات أولا إلى حزب مشروع تونس، المنشق عن نداء تونس، وآفاق تونس، وهو حزب ليبرالي ممثل في البرلمان. تبقى هذه الاتهامات غير مدعومة بدلائل ملموسة، إلا أن الحزبين يشنان حملات دورية على حزب النهضة وقطر وتركيا. وحاول الحزبان تأجيل الانتخابات أكثر من مرة، ويقول قادتهما أنهم يؤيدون نظاماً رئاسياً قوياً في تونس.

تأتي هذه الإشاعات بعد “تسريبات” أخرى ـ لم يتحقق من صحتها بعد، وهي عبارة عن مجموعة من الوثائق يفترض أنها من الإمارات. “كشفت عنها” وسائل إعلام مدعومة من قطر، تناقلتها على الإثر وسائل إعلام قريبة من حزب النهضة. اتخذت الإمارات موقفاً دفاعياً من هذا، ولكن يبدو أن لهم علاقة بسلسلة من الاتهامات وجهت مؤخراً إلى النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية. بعبارة أخرى، أزمة الخليج التي بدأت في يونيو 2017 لهاأثر محسوسفي تونس.

على سبيل المثال،هذه الوثيقة التي نشرتها مواقع قطرية في صيف 2017، التي تحمل توقيع مركز الإمارات للسياسات وهو مركز أبحاث مقرب من دوائر السلطة في أبو ظبي، يقترح استراتيجية إماراتية تجاه تونس. ووفق ما ورد فيها فهي تعتمد على حملة إعلامية، وقلقلة اجتماعية ودعم لأحزاب سياسية معينة. لكن لا يمكن العثور على هذه الوثيقة على الموقع الالكتروني لمركز الإمارات للسياسات، الذي لم يصدر أي تكذيب رسمي، وإن كانت مديرته العامة تنفي صحة هذه الوثيقة. مع ذلك، انتهز المقربون من النهضة والمؤتمر هذه الفرصة للحديث عن المؤامرة لاتهام معارضيهم ـ الواردين في هذه الوثيقةـ بارتهانهم للإمارات.

بعدها ببضعة أسابيع، عقد الناطق الرسمي باسم جيش خليفة حفتر (وهو حليف مقرب من الإمارات) مؤتمراً صحفياً، اتهم فيه قطر بتمويل جماعات إرهابية في ليبيا بواسطة بنوك تونسية، داعماً اتهاماته بوثائق. تبنّى المعسكر المعادي لقطر هذه القضية على الفور لتوجيه أصابع الاتهام إلى النهضة والمؤتمر، حيث أن الوقائع التي ذكرها حفتر، حدثت وفق أقواله خلال حقبة ائتلاف الترويكا، أي حين كان الحزبان يسيطران على هياكل معينة في الدولة.

لقد نجت تونس إلى يومنا من مصير بلدان أخرى، تدور فيها حرب بالوكالة بين قطر والإمارات. لا نظير في المنطقة للديمقراطية التي رأت النور في تونس، وهناك تطور هائل على هذا الصعيد. لكن الأزمة الاقتصادية أدت إلى هز هذه الديمقراطية، واتهامات القادرة السياسيين المتبادلة باللاشرعية وبالارتهان لقوى أجنبية تزيد في إضعافها.

إن النزاع بين الإمارات وقطر يفاقم هذا الوضع وإن لم يسهم فيه بشكل مباشر. ونظراً إلى أن السياق الدولي لا يؤيد الديمقراطية بالضرورة، تجد تونس نفسها وحيدة في وجه تدخلات البلدين بشؤونها. حيث أن حملاتهما الإعلامية تنفث سموماً في المناخ العام. في عشية انتخابات أيار/ مايو، يسود، شيئاً فشيئاً، جو ينذر بنهاية حكم.