محمد بن زايد، أو المستقبل المستبد للشرق الأوسط

قد لا يحظى محمد بن زايد بنفس الشهرة التي يحظى بها نظيره السعودي محمد بن سلمان، لكن ولي عهد الإمارات فرض نفسه كأقوى شخصية سياسية في الشرق الأوسط، هدفها فرض رؤية مستبدة لمستقبل بلاده والمنطقة.

منذ نشأتها سنة 1971، بقيت الإمارات العربية المتحدة غالب الوقت خارج الصراعات العديدة التي شهدها العالم العربي. وأصبحت على مرّ السنين معجزة اقتصادية في المنطقة، بوصفها واحة من ناطحات السحاب والمراكز التجارية التي لا تحصى ولا تعد والمطارات المفروشة مرمرا.

لكن منذ سنة 2013، بات محمد بن زايد قلقا بشأن المستقبل. إذ أن ثورات الربيع العربي أطاحت بأكثر من حاكم مستبد، تاركة فراغا ملأه صعود التيارات الإسلامية، من فوز الإخوان المسلمين في انتخابات تونس ومصر، وانتشار الميليشيات الجهادية في ليبيا، مرورا باحتكار المجموعات الإسلامية للثورة السورية، ناهيك عن اتساع رقعة تنظيم الدولة الإسلامية الذي قطع في أقل من سنة حدود العراق ليستولي على منطقة بحجم بريطانيا.

في نفس الوقت، كان محمد بن زايد يراقب بهول تعبئة الجيوش في الشق الآخر من المنطقة. فقد اغتنمت الميليشيات الشيعية الموالية للقائد الإيراني قاسم سليماني -الذي قتل بداية هذا الشهر خلال قصف أمريكي- الفراغ الذي حل بعد سنة 2011 لنشر تأثيرها في سوريا والعراق واليمن. وهكذا بدا له الوضع بمثابة الوصفة المثالية لانتشار عنف مروع لم تكن السلطات الإقليمية تفعل الكثير لوقفه. بالعكس، كانت تركيا تساند بشدة حلفاءها الإسلاميين، وتزوّد آخرين بالسلاح. كذلك بالنسبة للجارة الثرية قطر. أما السعوديون، فكان تصرفهم متناقضا، خاصة بعائق القيادة المسنة والمريضة الموجودة على رأس المملكة.

إبعاد خطر الإخوان المسلمين

حتى الولايات المتحدة الأمريكية -التي اعتبرها محمد بن زايد دائما حليفه الأول- بدت تنظر إلى الإخوان المسلمين كإنتاج ثانوي غير محبب لكن حتمي لديمقراطية قيد الصنع. وكان بن زايد أنذر أكثر من مرة باراك أوباما -خلال مكالماتهما العديدة- من المخاطر التي كان يراها. لكن الرئيس الأمريكي السابق -رغم رحابة صدره كما ذكر لي ذلك بعض المسؤولين السابقين في البيت الأبيض- كان يميل للانسحاب من منطقة الشرق الأوسط أكثر من استعداده للغوص في أعماقها.

لكن سرعان ما كشف بن زايد عن خطة طموحة للغاية لإعادة رسم مستقبل المنطقة. إذ لم يلبث أن احتضن ولي العهد محمد بن سلمان ليجعل منه حليفه المقرّب، وساعدا معا الجيش المصري على الانقلاب على الرئيس الإسلامي المنتخب محمد مرسي في 2013. أما في ليبيا، فقد انضم بن زايد سنة 2015 إلى الحرب الأهلية، غير آبه بالحصار المفروض من قبل الأمم المتحدة ولا بالديبلوماسيين الأمريكيين. كما حارب حركة الشباب في الصومال واستفاد من الموانئ التجارية الإمارتية ليصبح وسيطا للطاقة في منطقة القرن الأفريقي، والتحق بالحرب السعودية على اليمن ليحارب الحوثيين الذين يتمتعون بمساندة طهران. وأخيرا -وعلى عكس الأعراف-، نظم في 2017 حملة مقاطعة شرسة ضد قطر. وقد فعل كل هذا ليتصدى لما كان يراه خطرا إسلاميا وشيكا.

لا يفرّق بن زايد كثيرا بين مختلف ألوان الطيف الإسلامي، بل ويؤكد أنها تتشارك في نفس الهدف، وهو إرساء خلافة يقوم فيها القرآن مقام الدستور. ويرى أن لمنطقة الشرق الأوسط خيارين لا ثالث لهما: إما سلطة أكثر عنفا أو كارثة حتمية، وهي توقعات تصب بلا شك في مصلحته. لكن تجربة السنوات الأخيرة جعلت بعض المراقبين الخبراء يحترمون حدس بن زايد بشأن مخاطر الإسلام السياسي في معناه الواسع، إذ يقول مثلا برت ماك غورك وهو مسؤول أمريكي سابق اشتغل لسنوات طويلة في منطقة الشرق الأوسط تحت ثلاث رئاسات مختلفة ويعرف بن زايد حق المعرفة: “ظننت أول الأمر أن في رؤياه غلوّا، لكنني اقتنعت بأنه كان أغلب الوقت محقا”.

موارد ضخمة للجهاد المعاكس

استثمر بن زايد جزءا كبيرا من موارده الضخمة فيما يمكن تلقيبه بالجهاد المعاكس. إذ رغم صغر حجم بلده الذي لا يصل عدد مواطنيه إلى المليون نسمة، يتربع بن زايد على عرش قيمته أكثر من ألفي مليار دولار من صناديق الثروة السيادية، ويقود أهم جيش في المنطقة -بعد إسرائيل- من ناحية السلاح والتدريب. أما على الصعيد الداخلي، فقد قمع بن زايد الإخوان المسلمين بشدة وأسس دولة تتمتع بأحدث وسائل الرقابة، ليرصد أي ميول إسلامي قد يراود أحدهم.

غيّر دور بن زايد القيادي في هذه الثورة المضادة -والتي لعب فيها دور مترنيش1 المعاصر- سمعة بلده. صحيح أن البنتاغون لا يزال يراه كحليف وفيّ وقدير -وخلال زيارتي لأبو ظبي في مايو/أيار الماضي، كنت في حضرة وزير الدفاع الأمريكي السابق جيم ماتيس، الذي شبّه الإمارات العربية المتحدة أمام حضور من الإماراتيين والمسؤولين الأجانب بمزيج من أثينا وأسبرطة. لكن بعض المسؤولين من إدارة أوباما اعتبروه فاعلا محتالا في المنطقة، دونالد ترامب إلى الحكم -وهو شريك أكثر مرونة بالنسبة لبن زايد- انتقد ديبلوماسيون وكذلك مجموعات كثيرة تدافع عن حقوق الإنسان الدور العسكري الذي لعبته الإمارات في ليبيا واليمن. وطال الأمر بعض المعجبين ببن زايد في الأوساط الديبلوماسية الذين وصفوه بالمتشدد وعابوا عليه خوضه صراعات لا يسعه أن يسيطر على تداعياتها.

إيماءات ديبلوماسية باتجاه إيران

رغم ذلك، يحافظ بن زايد على مكانته بصفته قائدا استثنائيا في منطقة الشرق الأوسطـ، نظرا لحيلته ولكونه علمانيا إلى حد ما، وصاحب خطة لمستقبل المنطقة، خاصة وأنه يتمتع بالموارد الكافية لتنفيذها. ورغم جميع عيوبه، فإن الحلول البديلة لا تبدو أفصل، بل على العكس. فقد كاد القصف الأمريكي الذي أودى بحياة سليماني وأبي المهندس -عقب الهجوم العنيف على السفارة الأمريكية في بغداد- أن يدفع بالمنطقة إلى حرب محققة، لا سيما بعد التهديدات التي رفعها خامنئي. لا يمكن الجزم بعد بما سيكون ردّ إيران، لكن يبدو أن بن زايد سيلعب دورا رئيسيا في المرحلة المقبلة. إذ رغم ما يعرف عنه كعدو لإيران، أظهر بن زايد قدرته على التصرف بديبلوماسية في الأشهر الأخيرة، كما يقال إن له قنواته الخلفية للتواصل مع السلطات الإيرانية.

وقد أظهر انشقاقه عن حملة “الضغوطات القصوى” لترامب إرادته الجديدة في شق طريق مستقل، وها هو نفس الرجل الذي كان ينتقد أوباما في محيطه الخاص يبدو اليوم قلقا أمام إمكانية دخول ترامب في حرب. وقد يكون مكان بن زايد الأفضل لمنع حرب قد تكون بلاده -التي تقع في الجهة المقابلة لإيران على بحر الخليج- أولى ضحاياها.

موروث الشيخ زايد

يقول محمد بن زايد أن عداءه للإسلاميين هو نتيجة قناعات أبيه التعددية. وقد جمع زايد -الذي توفي سنة 2004 عن عمر يناهز 86 سنة- بين التقاليد البدوية وفكر ليبيرالي بالمعنى المجتمعي. صحيح أن الإماراتيين متدينون جدا، لكن وجود البلد على طريق بحرية قديمة ساهم في ظهور إسلام متسامح نوع ما. وهذا الانفتاح هو الذي خوّل لزايد الوصول إلى الحكم ورسم مسيرة للإمارات العربية المتحدة تختلف عما شهدته البلدان المجاورة. فقد وضعه البريطانيون على رأس الاتحاد في 1966 بطلب من كبار عائلات أبو ظبي بعد أن ضاقوا ذرعا بأخيه شخبوط [بن سلطان آل نهيان] الذي كان يكنّ عداء للأجانب ونفورا من التقدم.

كانت الإمارات العربية المتحدة آنذاك فقيرة جدا، وكانت حتى العائلات الثرية تعيش في أكواخ من الطوب. لم يكن الطب الحديث متوفرا في الستينات، وكان جل السكان يجهلون القراءة والكتابة. أما نسبة الوفيات، فقد كانت تطال نصف الرضع، وكانت ثلث الأمهات يلقين حتفهن أثناء الولادة. وحتى اليوم، تجد من بين السكان الذين هم في مرحلة منتصف العمر من يروي لك كيف كان والداه يصيبون عنق الجمل بجرح بليغ ويجبرانه على شرب دم الناقة حتى لا يموت عطشا.

أكّد زايد على أهمية التعليم الحديث للنساء، في زمن كانت تجهل فيه تقريبا جميع النساء القراءة والكتابة. كما سمح لمسيحيين ببناء كنائس في أبو ظبي، متجاهلا القناعة السائدة بأن لا مكان في شبه الجزيرة العربية لدين آخر عدا الإسلام. وفي آخر خمسينات القرن الماضي، أسست عائلة من التبشيريين الأمريكيين مستشفى في مدينة العين، حيث أشرفت طبيبة أمريكية على ولادة ابن زايد الثالث: محمد.

خلال ترعرع محمد بن زايد، شهدت البلاد تغييرا جذريا لتنتقل من الفقر إلى ثراء يفوق الخيال مع اكتشاف النفط، بينما أصبح الإسلام السياسي شعار جيل بأسره.

تربية إسلامية

ما لم يعلمه زايد هو أن ابنه كان بدوره تحت تأثير هذا الفكر خلال تلك السنوات. ويبدو أن زايد سهّل الأمر دون قصد، بعد أن كلّف إسلاميا مصريا يدعى عز الدين إبراهيم بتعليم ابنه. لم يكن زايد يجهل ارتباط إبراهيم بالإخوان المسلمين، لكنه لم يكن يعتبر المنظمة خطرا آنذاك.

بلغ محمد بن زايد 18 سنة عام 1979، أي عندما اجتاح الاتحاد السوفياتي أفغانستان. عندما بدأ المجاهدون الأفغان مقاومتهم البطولية، سارع شباب مسلم من جميع أنحاء العالم إلى بيشاور [باكستان، قرب حدود أفغانستان] للالتحاق بهم. في نفس الوقت، أطاحت مظاهرات شعبية ضخمة بشاه إيران وعاد آية الله الخميني إلى وطنه [بعد سنوات من المنفى] لقيادة الثورة. كثيرون قرؤوا تسلسل هذه الأحداث كدليل على أن الدمى التي وضعتها القوى الغربية على رأس بلدان المنطقة قد ولى زمانها، وحان الوقت ليكون الإسلام دليل مرحلة جديدة تؤسس لمجتمع أفضل، وفيّ لقيمه الأصلية.

في 1991، عندما جمع جورج بوش الأب ائتلافا لطرد صدام حسين من الكويت، أثار تحمّس زايد للمشاركة في هذه العملية إعجاب البنتاغون. بعدها، شرعت قيادات عسكرية أمريكية في تدريب محمد بن زايد، الذي أصبح ضابط جيش وسرعان ما برز لكونه الأكثر طموحا وتأهيلا من أبناء زايد. فقد قال لي بروس ريدل، وهو مسؤول قديم في وكالة المخابرات المركزية يعمل اليوم كمحلل في مؤسسة بروكينغس: “كان عفويا وذا مستقبل واعد وقادرا على قيادة البلد. لذا قررت الولايات المتحدة الأمريكية الاهتمام به واحتضانه”.

يبدو أن السحر الأمريكي كان ناجعا، فقد صرفت الإمارات العربية المتحدة المليارات لشراء الطائرات الأمريكية الخاصة والأسلحة، ويؤكد زوار مكتب بن زايد أنه يحتفظ بأكوام من المجلات العسكرية المختصة. وفي مطلع التسعينات، أخبر بن زايد ريتشارد كلارك -الذي كان حينها مساعد وزير الخارجية- بأنه يرغب في اقتناء الطائرة الحربية F-16. سأله كلارك إن كان يعني النموذج الذي تبيعة الولايات المتحدة لحلفائها، لكن بن زايد أصرّ على أنه يريد النموذج الأخير الذي قرأ عنه في مجلة “Aviation Week” والذي يتمتع بجهاز رادار وأسلحة أكثر تطورا، فأخبره كلارك بأن هذا النموذج لم ينجز بعد لأن السلطات العسكرية لم تقم بعد بالأبحاث والتطويرات اللازمة. فما كان من بن زايد إلا أن عبر عن استعداده للدفع شخصيا كي يتم ذلك. وقد دامت النقاشات حول هذه الصفقة سنوات، وأغضب إصرار بن زايد بعض مسؤولي البنتاغون. يقول كلارك: “في نهاية الأمر، نجح بن زايد في الحصول على نموذج أفضل حتى من ذلك الذي تمتلكه القوات الأمريكية”. وفي العقود الموالية، حرص بن زايد على أن يفهم الأمريكيون أنهم في حال رفضوا مده بما يريد، فلن يتردد في التعاون مع غيرهم، بما فيهم الصينيين، الذين باعوا في السنوات الأخيرة طائرات بلا طيار للإمارات العربية المتحدة بثمن زهيد. لكن علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية تبقى إلى اليوم الأوثق على الإطلاق.

منعطف 11 سبتمبر/أيلول

غيرت أحداث 11 سبتمبر/أيلول حياة بن زايد، حيث أظهرت حجم الخطر الإسلامي ومدى إنكار العالم العربي له. وأخبرني بن زايد كيف استمع باندهاش في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من تلك السنة إلى حاكم عربي كان في زيارة لأبيه في أبو ظبي، وهو يصف تلك الهجمة بكونها عملا من الداخل ساهمت فيه وكالة المخابرات المركزية أو الموساد. بعد رحيل الزائر، سأل زايد ابنه عن رأيه في الموضوع فأجاب: “أبي، لدينا أدلّة”. وفي خريف تلك السنة، اعتقلت قوات الأمن الإمارتية حوالي 200 إمارتي و1600 أجنبي كانوا ينوون السفر لأفغانستان للالتحاق بتنظيم القاعدة، من بينهم ثلاثة أو أربعة أشخاص كانوا سينفذون عمليات انتحارية.

بعيد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، قام بن زايد بمراجعة جميع نقاط ضعف بلده أمام الخطر الإرهابي. تقول مرسيلا وهبا، التي عينت كسفيرة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية في الإمارات تلك السنة: “أظن أن أحداث 11 سبتمبر/أيلول جعلته يعيد النظر في الوضع الداخلي للبلاد لتقييم أهم المجالات، من التعليم حتى الاقتصاد. وقد عبرت السلطات الإمارتية تلك المرحلة بطريقة جد منهجية”. كوّن بن زايد فريقا يعد إخوته وأهم مستشاريه، وعملوا جاهدا -وفق وهبا- لسدّ جميع الثغرات. فقاموا بتسجيل جميع دكاكين الحوّالات [حيث يتم تحويل المال من بلد لآخر] التي يستعملها عادة الإرهابيون، ووضعوا أجهزة اتصال راديو قصيرة المدى على جميع سفن الداو التي كانت تجوب بحر الخليج، وشرعوا في البحث على أفضل طرق لمراقبة الشبكات الإماراتية للتجارة والتمويل المترامية الأطراف.

كان الهدف من كل هذا القبض على الإرهابيين الذين يعبرون من الإمارات، لكن الخطر الإرهابي في الداخل كان حقيقيا كذلك. ففي السنوات الموالية، نجحت السلطات الإمارتية في إفشال عدد من العمليات الإرهابية التي كانت تخطط لها مجموعات جهادية، لا سيما عملية تفجير ثلاث سيارات أمام نزل بخمسة نجوم سنة 2005.

في نفس الوقت، شن بن زايد حربا على الفكر الإسلامي. كان العديد من الإسلاميين في الإمارات ينتمون إلى جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي، التي أسست في السبعينات وكانت بمثابة الفرع المحلي لمنظمة الإخوان المسلمين. وكان من بينهم آلاف الأجانب، أغلبهم مصريون، استقبلهم البلد قبل عقود لسد احتياجاته ليد عاملة مثقفة وموظفي مكاتب. في بادئ الأمر، رحّبت العائلات الحاكمة ببروز حركة الإصلاح واعتبروها مجرد مجموعة دينية. لكن في التسعينات، جعل الإسلاميون من وزارتي التعليم والعدل “دولة داخل الدولة”، وفق العبارة التي استعملها الصحفي الإماراتي سلطان القاسمي، من خلال منهجهم في توزيع المنح الدراسية ودفعهم بالقضاة في اتجاه أكثر تدينا.

رؤية دينية متسامحة

أذن بن زايد بتسريح مدرسين إسلاميين وإعادة كتابة شاملة للمناهج الدراسية. وقد روى لي أغلب الإماراتيين الذين أعرفهم حكايات صادمة عن معلمين في الصفوف الإعدادية كانوا يمجدون الجهاد المسلح ويصفون لهم فساد الكفار. أما المناهج التي كانت من تحرير الإخوان، فقد كانت تتسم بالتعصب، حتى في مجالات مثل التاريخ والرياضيات، كأن يكتبوا مثلا: “لو فرضنا أنك قتلت ثلاثة يهود وأبقيت على اثنين، ما هو المجموع؟”

تقدم اليوم المعاهد الإمارتية دروسا في مادة الأخلاق مستقلة عن الدراسات الدينية، وهو أمر لم يكن لأحد أن يتخيله في ماض قريب. وقد فعل بن زايد الكثير ليحصر الدين في الدوائر الخاصة، كما أعطى منبرا لرجال دين محترمين ومعتدلين، من بينهم متصوفون مهمون مثل علي الجفري وعارف علي نايف وحمزة يوسف وعبد الله بن بيّه -وهو موريتاني المولد وأحد أكبر علماء السنّة المعاصرين ويترأس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي. كما اعتزمت الإمارات تصدير نموذجها الإسلامي الخاص من خلال برامج تدريب للأئمة في الخارج، ومن بينهم آلاف الأفغان.

كان أغلب عناصر حركة الإصلاح يعيشون في شمال الإمارات، وخاصة في رأس الخيمة التي تقع على مسافة أقل من ساعة بالسيارة، شمال دبي. تختلف رأس الخيمة عن مدن الجنوب الأكثر ثراء، إذ لا تعد ذلك الكم من ناطحات السحاب والمراكز التجارية، كما أنها غير عصرية. وكانت حركة إصلاح تعبّر نوعا ما من خلال اختيارها هذا المكان مركزا لها عن استنكارها للثقافة الرأسمالية الجامحة التي كانت تزدهر في المدن الإماراتية الكبرى. وكانت في كثير من بياناتها العامة تندد بوجود حانات ومومسات متاحة للجالية الأجنبية المتفاقمة. لكن في المدة الأخيرة، شرع الناطقون باسم الحركة في الترويج لثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانوا يفعلون ذلك بلا شك لجلب التعاطف الغربي مع قضيتهم.

رأى المستشرقون والديبلوماسيون في الغرب بقبول هذا النوع من الإسلاميين، وكانوا على يقين أن أفكارهم ستصبح أكثر اعتدالا بمجرد اندماجهم في الحياة السياسية. وكثيرا ما يقدم الحزب الإسلامي التونسي النهضة كمثال لما يمكن أن يحدث عندما يحظى الإسلاميون بفرصة لأخذ منعطف تقدمي. فحركة النهضة فرع من تنظيم الإخوان المسلمين، لكنها حكمت مع حزب مدني، وقد قلّل قادتها من بُعدها الإسلامي ليجعلوا منها حزبا أشبه بالنسخة العربية للمسيحيين الديمقراطيين في أوروبا.

استبداد ليبيرالي مجتمعيا

دخل بن زايد فعلا في نقاش مع إسلاميي الإمارات، وهو يؤكّد بأن التجربة برهنت استحالة منحهم أي ثقة. فبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، التقى بن زايد بعناصر من حركة إصلاح وحثهم على العودة إلى بيت الطاعة. وقد اقترح عليهم صفقة أول الأمر، مفادها أن بوسعهم مواصلة أعمالهم الخيرية، شرط البقاء بعيدا عن السياسة، فأجابوه بلائحة من المطالب. وقد انتهى المطاف إلى طريق مسدود بعد اجتماع سنة 2003 بدا فيه موقف بن زايد أكثر تشددا. حتى أنه -كما جاء في تسريب من ويكيليكس- صرّح أمام فريق أمريكي جاء في زيارة سنة 2004: “نحن في حرب ثقافية مع الإخوان المسلمين في هذا البلد”. كما أنه أخبر مجموعة من الديبلوماسيين الذين جاؤوا في زيارة للإمارات سنة 2009 أن الفكر الإسلامي استهوى أحد أبنائه، فتوخى طريقة الرد ذاتها التي استعملها زايد معه، إذ أرسل نجله إلى أثيوبيا مع بعثة الصليب الأحمر، حتى يرى أن لغير المسلمين أيضا قيم أخلاقية.

لم يكتف بن زايد بقمع الإخوان، بل كان يعمل على مشروع أكثر طموحا وهو بناء دولة ستهين الحركات الإسلامية جمعاء، من خلال نجاحها حيث أخفقت تلك الحركات. لن يبني بن زايد ديمقراطية غير ليبيرالية (بالمعنى المجتمعي للكلمة) كما في تركيا، بل قرر إرساء عكس ذلك، أي حكما مفردا مطلقا (أو أوتوقراطية) ذا بعد مجتمعي ليبيرالي، على نموذج ما فعله لين كوان يو في سنغافورة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. كانت نقطة الانطلاق إصلاح الوظيفة العمومية في أبو ظبي، والتي كانت تشكو من نفس المعضلات التي تشهدها الدول العربية الأخرى، من عدم النجاعة ودور شبكة العلاقات الشخصية والعائلية في الحصول على المناصب المنشودة. ويعود هذا البعد إلى جزء من الموروث الناصري في الخمسينات والذي تم نسخه في بلدان أخرى.

جمع بن زايد مجموعة من الشباب الموهوبين وأذن لهم بقلب البيروقراطية رأسا على عقب. وفي السنوات الموالية، قام هؤلاء بإعادة هيكلة الوظيفة العمومية، حيث طُرد عشرات آلاف الموظفين وتم توظيف آخرين. وقد تراجع عدد العاملين في حكومة أبو ظبي بين 2005 و2008 من 000 64 إلى 7000 شخص. وفي الأثناء، شرع بن زايد في استغلال احتياطات رأس المال الهائلة لإمارة أبو ظبي لبناء اقتصاد لا يعتمد على النفط. وقد نجح بفضل صندوق ثروة سيادية جديد يدعى “مبادلة” في جلب شركات مصنعة وخلق مواطن شغل ساهمت في تدريب السكان المحليين. وصقل بن زايد صورته التقدمية من خلال توظيف نساء في مكتبه، ناهيك عن أن 86% من العاملين في مركز الطيران والفضاء في العين هم عاملات.

في زياراتي الأولى للإمارات العربية المتحدة سنة 2007، سمعت الكثير يشتكون من التداعيات الاجتماعية للتغيير المفاجئ الذي شهدته البلاد من الفقر إلى ثروة هائلة، فكانوا يتحدثون عن فتور السكان وانهيارات عصبية ومشاكل عزلة واضطرابات شتى. في إحدى زياراتي الأخيرة، سمعت على الأقل عشر قصص عن شباب خامل عادوا من مخيمات التدريب نشيطين ومستعدين لتحمل المسؤولية والقيام بالمهام اليومية بأنفسهم. كما أن هذا البرنامج شجع على اختلاط أشخاص من مختلف الإمارات والطبقات الاجتماعية، وهو أمر كان يحدث نادرا في الماضي.

تداعيات حرب اليمن

دمرت الحرب اليمن، لكن أثرها لم يكن هينا أيضا على الإمارات، إذ قتل أكثر من 100 إمارتي في المعارك. وقد يبدو هذا العدد ضئيلا جدا مقارنة بالكم الهائل من القتلى اليمنيين، لكنه من ناحية الخسائر البشرية يجعل هذه الحرب الأغلى ثمنا في تاريخ الإمارات. لكن في نفس الوقت، يُرجّح أن وجود أبناء أو أقارب بن زايد وأغلب أمراء الإمارات الست الأخرى في الجبهة -وإصابة بعضهم بجروح بليغة- ساعد السكان في تقبل هذه الحرب. وقد التقيت سريعا زايد بن حمدان -ابن أخ محمد بن زايد وصهره- وهو اليوم يجلس في كرسي متحرك بعد أن أصيب في عموده الفقري بعد سقوط المروحية التي كان على متنها في اليمن سنة 2007.

في 2009، اتخذ بن زايد قرارا سيعزز من قدرته على ممارسة نفوذه خارج حدود بلده، إذ استضاف اللواء مايكل هندمارش -الزعيم المتقاعد لقيادة العمليات الخاصة في أستراليا- ليساعده على إعادة هيكلة الجيش الإماراتي. وكان بن زايد قبل ذلك قد طلب من هندمارش أن يساعده على إيجاد ضابط إماراتي لهذه المهمة، لكن يبدو في الأخير أن هندمارش قد راقه فاختاره لهذا الدور.

لن يقبل أي بلد آخر من الشرق الأوسط بتسمية شخص غير عربي مسؤولا على جوهرة المملكة. لكن مع حلول سنة 2009، أصبح بن زايد يمسك بالدولة بقبضة محكمة. كما أن الإمارات الست الأخرى تضررت من الأزمة المالية -خاصة دبي- وفقدت من استقلاليتها عن أبو ظبي التي تظل أكبر وأغنى إمارة في الاتحاد. وقد منح بن زايد هندمارش -الذي لقّب الأمير بـ“الزعيم”- دعمه التام وكل المال الذي يحتاجه، الأمر الذي أثلج صدر هندمارش بعد سنين من العقبات البيروقراطية في الجيش الأسترالي. ولم تثر الإمارات ضجة كبيرة حول دور هندمارش، مراعاة للحساسيات العربية، لكنه حافظ على مركزه وكان دوره أساسيا في جعل القوات الخاصة الإماراتية اليوم من بين الأفضل في العالم.

امتعض بن زايد كثيرا من حديث إدارة بوش عن الترويج للديمقراطية وتداعياتها، لا سيما من فكرة إنشاء أحزاب طائفية في العراق والفوز الانتخابي لحماس في غزة. وفي 2009، شعر بن زايد كذلك بأجندة ترويج للحرية في خطاب أوباما البارز في القاهرة، لا سيما عندما تحدث الرئيس الأمريكي السابق عن “بداية جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمسلمين حول العالم”. وقد أخبر ديبلوماسيا أمريكيا أنه يخشى أن يكون هذا الخطاب “رفع من مستوى التوقعات في العالم العربي”.

المساهمة في الانقلاب المصري

ثم كان الربيع العربي. وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد ساندت الرئيس المصري حسني مبارك -وحكاما مستبدين من طينته- طيلة عقود، وعاملت الإخوان المسلمين كمتعصبين خطرين. رغم ذلك، قبلت إدارة أوباما بانتخاب الرئيس الإسلامي محمد مرسي في 2012 -على عكس بن زايد. وفي بداية سنة 2013، دعمت الإمارات حركة “تمرّد” الشعبية المتفاقمة ضد مرسي. وقد تلت ذلك مظاهرات واسعة في 30 يونيو/ حزيران، تلاها الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز الذي خول لعبد الفتاح السيسي الوصول إلى السلطة. ووعدت الإمارات العربية المتحدة وحلفاؤها من بلدان الخليج بدفع المليارات لدعم الحكومة الجديدة.

لم يتحدث المسؤولون الإماراتيون عن دورهم فيما حصل، لكن الديبلوماسيين الذين تحدثت إليهم متأكدون من أن الإمارات كانت قد تحدثت إلى السيسي قبل الانقلاب وبينت شروط دعمها له. وقال ديبلوماسي سابق إن “أسبابا عدة تدل على أنه [أي بن زايد] خطط للانقلاب. وهو إنجاز كبير بالنسبة لبلد صغير من منطقة الخليج أن يطيح بحاكم مصري لوضع الرجل الذي يريد”.

قد يكون بن زايد قد منع مصر من أن تصبح جمهورية إسلامية -أو هكذا يرى الأمر. لكن قساوة السيسي كانت واضحة منذ البداية (ويمكننا الجزم أن هذا الأمر لا يزعج كثيرا بن زايد، إن لم نقل بتاتا). في منتصف شهر أغسطس-آب 2013، قتل الجيش المصري قرابة ألف شخص خلال اعتصامين مساندين للإخوان في القاهرة بحسب تقارير هيومن رايتس ووتش. وكانت الحكومة في نفس الوقت تقمع معارضين مدنيين، علاوة على كون السيسي أكثر استبداد من مبارك. تسبب هذا الانقلاب في بروز توترات بين دولة الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تراوح بصعوبة بين معارضة السيسي لكونه رئيسا غير ديمقراطي وبين التعامل معه (لم يعبّر ترامب عن هذا التحفظ فيما بعد، إذ كان يمازح السيسي بتلقيبه بـ“ديكتاتوره المفضّل”).

تحييد أوباما لبن زايد

بعد وصول السيسي إلى الحكم بقليل، أي في أكتوبر/تشرين الأول 2013، كان بن زايد يشاهد قناة السي أن أن الأمريكية عندما علم للمرة الأولى بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت في نقاش سري مع إيران للوصول إلى اتفاق نووي، إذ لم يخبره أصدقاؤه الأمريكيون بشيء من هذا القبيل. أخبرني أحد كبار مستشاري بن زايد أن ذلك الخبر “كان ضربة كبيرة بالنسبة له”، لا لمعارضته لفكرة النقاش مع إيران (ففي نهاية الأمر، صادقت الإمارات على الاتفاق النووي الأول الذي بات رسميا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني)، بل لاستنكاره كون أوباما لم يكلّف نفسه استشارة أو حتى إعلام حليف طويل الأمد بنقاش بهذه الأهمية -خاصة وأن النقاشات كانت تدور في بلد مجاور، أي في سلطنة عمان. إذ أن للإمارات الكثير على المحك، بعد أن أجبرت تجار دبي على وقف معاملاتهم المربحة مع إيران للامتثال للعقوبات. ويواصل المستشار قائلا: “لقد شعر سموّ الأمير بأن الإمارات قدمت تضحيات لكن تم تحييدها”.

شكّلت الأوضاع المصرية والنقاشات مع إيران نقطة تحول في العلاقة التي تجمع بن زايد بالولايات المتحدة الأمريكية. لم يبرز ذلك في الإبان إذ واصل التحدث وتقديم النصائح لأوباما بانتظام، وأنذره بأن الدواء الذي وصفوه له في سوريا -أي المعارضة الإسلامية- قد يكون أسوأ من المرض ذاته (أي طغيان بشار الأسد). كما حثّ أوباما على التحدث مع الروس للعمل معا في سوريا، وهو اقتراح عقلاني وواقعي كان يمكن أن ينهي الحرب أسرع، وإن كان ذلك عن طريق إقصاء أمل المعارضة في الانتصار. لكن وراء واجهة الاستشارات الروتينية، كان شعور بن زايد تجاه أوباما قد تغير، بل وما لبثت أن أصبحت العلاقة سامة، خاصة أمام الطريقة التي كان يتحدث بها بن زايد عن إدارة أوباما أمام ضيوفه، أو هكذا أخبرني مسؤولون أمريكيون قدامى. كما تحدث أوباما بدوره باحتقار خلال مقابلة صحفية له مع جريدة “ذي أتلانتيك”سنة 2016 عن حكام الخليج، واصفا إياهم بالـ“سائقين المجانين غير القادرين على إخماد الحرائق بأنفسهم” إذ ينتظرون دائما نجدة الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد جدت آخر حلقة في هذه السلسلة بعد شهر من انتخاب دونالد ترامب، عندما ألغى بن زايد غداءه مع أوباما ليذهب إلى نيويورك ويلتقي بفريق الرئيس الجديد. بعدها بقليل، استقبل بن زايد وسيطا روسيا في فندق إماراتي فخم في السيشال، رفقة ايريك برينس -مؤسس “بلاك ووتر”، وقد جعله هذا اللقاء محل انتباه روبرت مولر خلال تحقيقه حول علاقة إدارة ترامب بروسيا. ويذكر تقرير مولر هذا اللقاء باقتضاب، ويبدو أن لا علاقة له بترامب. لكن حتى إن لم يتواطأ مع الروس، فإن تصرّف بن زايد مع حلفائه الأمريكيين قد تغير. فهو الآن يخطط لنفسه ولم يعد ينتظر مباركتهم.

قاعدة عسكرية سرية في ليبيا

مثّل عزل مرسي الفوز الأول للثورة المضادة التي يقودها بن زايد، ويبدو أنه جعله يثق جدا بما يمكنه فعله دون العقبات الأمريكية. لذا، ما لبثت ليبيا -حيث كان الجهاديون متفشين- أن شدت انتباهه، وشرع في دعم الجنرال السابق خليفة حفتر عسكريا، ذلك المستبد الذي يشارك بن زايد بغضه للإسلاميين. في قمة كامب ديفيد لمايو/أيار 2015، عاب أوباما -بطريقة غير مباشرة- على بن زايد كما على أمير قطر حربهما غير المباشرة من خلال دعمهما لميليشيات متنافسة. لكن في نهاية سنة 2016، كانت الإمارات قد أسست قاعدة جوية سرية في شرق ليبيا تنطلق منها الطائرات لقصف أعداء حفتر في بنغازي.

طبعا، تم كل هذا في خرق تام للحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على الأسلحة، ما استشاط غضب واشنطن. وقد قتل الآلاف في المعارك الليبية، كما لم ينجح حفتر في الاستيلاء على طرابلس. وقد أخبرتني ديبلوماسية أمريكية سابقة معجبة ببن زايد بأن طريقة تصرفه في الأزمة الليبية تبين مخاطر سياسته المبالغ فيها: “إنهم يسعون لتنظيم وتفرقة الأحزاب التي لا يحبونها، لكنهم سيفهمون في آخر المطاف أنه لا يمكنهم التصرف هكذا”.

بابتعاده عن إدارة أوباما، بات بن زايد يبحث عن حليف قوي، فوجده في محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي. وإن بدا التحالف طبيعيا بالنسبة لمن ينظر للأمر من الخارج -فهما حاكمان مستبدان في الخليج يشتركان في الاسم-، فإن هذه العلاقة تبلورت رغم خلاف تاريخي. فالمملكة العربية السعودية هي -كما كان يصفها الصحفي المغتال جمال خاشقجي- “الأب والأم للإسلام السياسي”، وهو أمر يوافق عليه محمد بن زايد حتما. فجذور الدولة السعودية تعود إلى تحالف يعود للقرن 18 بين قادته السياسيين والوهابية. وهي نموذج مثالي للتطرف المموّل من الدولة والذي يصبح تنظيم الإخوان المسلمين مقارنة به معتدلا جدا.

ترعرع بن زايد خلال فترة كان معظم الإماراتيين يشعرون فيها بأنهم مهددون من قبل جارهم الكبير، حيث تواصلت الصراعات المسلحة على الحدود حتى الخمسينات. وفي 2005، وفق إحدى رسائل ويكيليكس، أخبر بن زايد السفير الأمريكي جيمس جيفري أن همه الأكبر هو الوهابية. لم يكن بن زايد يعتبر العائلة المالكة السعودية ذات نفوذ، لكنه كان يخشى أن يكون البديل الوحيد بالنسبة لمجتمع محافظ مثل المجتمع السعودي نظاما دينيا وهابيا أقرب إلى تنظيم الدولة الإسلامية. ويذكر جفري قول بن زايد: “أي شخص سيأتي مكان آل سعود سيكون كابوسا، لذا يجب مساعدتهم على مساعدة أنفسهم”.

عرّاب بن سلمان

لم يلبث بن زايد أن تعلق بنظيره السعودي -الذي كان متعطشا للقيام بإصلاحات- إذ كان يرى في هذه الطريقة أنسب حل لقطع صلة المملكة العربية السعودية بالإسلام المتطرف. ويبدو أنه لعب إلى حد ما دور العرّاب مع بن سلمان، وحث إدارة أوباما على دعمه. لكنه لا يبدو قادرا على وضع حد لأسوأ نزوات ولي العهد السعودي. فعندما شنت المملكة العربية السعودية حملة عسكرية على المقاتلين الحوثيين في اليمن في مارس/آذار 2005 بمعية الإمارات العربية المتحدة، ظن الكثيرون أن المعركة لن تدوم أكثر من بضعة أشهر، لكنها تواصلت في نهاية الأمر قرابة خمس سنوات، وأصبحت كارثة صدمت الضمير العالمي، بعد أن هُدمت بنايات تاريخية، وقُتل آلاف المدينيين، وشهد اليمن -الذي يعدّ أفقر بلد عربي- المجاعة والأوباء. وهكذا بات الهدف الأول لهذه الحرب -أي هزيمة الحوثيين المدعومين من إيران- منسيا.

طبعا، تتقاسم الإمارات مسؤولية هذه المأساة مع السعودية، رغم أنها لم تكن وراء القصف الذي ألحق الكثير من الدمار في شمال اليمن، إذ حدّد بن زايد دور بلده في الجنوب، حيث حاول جاهدا الوصول إلى اتفاقيات سياسية لإنهاء الحرب بأسرع وقت، واعتمد على الوحدات التي دربها هندمارش لتدريب القوات العسكرية المحلية. وقد أخبرني مسؤول عسكري أمريكي سام سابق أن بين 95 و100% من النجاحات العسكرية في هذه الحرب تعود للإمارات.

بيّن بن زايد من خلال إعلانه عن انسحاب القوات الإماراتية من اليمن في يونيو/حزيران الماضي أن لشراكته الجديدة مع المملكة العربية السعودية حدودا، كما بدأ يرسم لمسار أكثر ديبلوماسية مع إيران. وقد هدد ترامب -بعد سلسلة من الهجمات على سفن في بحر الخليج وإسقاط طائرة أمريكية بلا طيار- بشن حرب ضروس على إيران في ذلك الشهر، لكنه تراجع فجأة بعد ذلك. ويبدو أن بن زايد استشعر أن إيران بدأت تعتبر ترامب نمرا من ورق، ما قد يضع الإمارات موضع خطر أمام العدوان الإيراني. فبعدها بقليل، أصدرت الإمارات بيانات تصالحية وأرسلت بعثة إلى إيران في شهر يوليو/تموز الماضي. وقد يتبين هذا النموذج من سياسة الحوار أساسيا بعد اغتيال سليماني، بينما يبذل جيران إيران قصارى جهدهم لتفادي الحرب.

رأى بعض ناقدي بن زايد في هذه الإيماءات الديبلوماسية التي طرأت في شهر يوليو/تموز مرونة غير متوقعة أو حتى شيئا من “التهاون”، لكن ذلك لا يمنع بن زايد أن يتصرف بطريقة غليظة وإيديولوجية مثل أعدائه. فقد تحولت مقاطعة قطر التي بدأت في يونيو/حزيران 2017 إلى قضية شخصية، قاد فيها الطرفان حملات إعلامية تشويهية، بل وأدت حتى إلى مناوشات بالوكالة في الصومال. وقد قوض هذا الصراع هدف بن زايد المنشود بالحفاظ على جبهة موحدة ضد استراتيجية إيران في المنطقة. وصرح مسؤول عسكري أمريكي سام سابق بأنه في حال فشلت الإمارات في حلّ هذه المعضلة، “سوف يطلق أحدهم شاحنة باتجاه هذه الفجوة”. وفي أسوأ الحياة، جعلت الأزمة القطرية حملة بن زايد ضد الإسلام السياسي تبدو وكأنها عملية انتقامية، هدفها الأساسي إذلال أعدائه.

عن التسامح... أو الكيل بمكيالين

يوجد نصب برونزي خارج مكتب بن زايد الرئيسي في أبو ظبي كتبت عليه كلمة “تسامح” بالانكليزية. وقد فعلت الإمارات الكثير للترويج لالتزامها بالتعددية. ففي 2016، أطلقت الحكومة وزارة التسامح، كما لقب عام 2019 بعام التسامح، انطلق بزيارة جد مرتقبة للبابا فرانسوا، وكانت المرة الأولى التي يزور فيها بابا الفاتيكان شبه الجزيرة العربية. لكن هذا التسامح لا يشمل لا الإسلاميين ولا أي شخص قد يتعاطف معهم. وقد قمعت الإمارات الإسلاميين بعنف أشد منذ 2011، إذ اعتقلت وسجنت أعدادا هائلة منهم لأسباب تافهة.

في 2012، أغلقت السلطات الإماراتية مكاتب المعهد الوطني الديمقراطي -وهو مؤسسة أمريكية- الموجودة في دبي، وغيرها من المنظمات الأجنبية التي تدعم المؤسسات الديمقراطية. وفي 2014، وصفت الحكومة رسميا منظمة الإخوان المسلمين بأنها جماعة إرهابية، ولاحقت قضائيا محاميا -على الأقل- دافع على الإسلاميين بل وحتى -في بعض الأحيان- معارضين مدنيين لها.

قبل أغلب الإماراتيين الذين تحدثوا معي عن قساوة القمع الذي شنه بن زايد على الإسلاميين أن يتكلموا في الموضوع شرط عدم التصريح بأسمائهم والتواصل عبر برمجيات مشفرة. إذ يمكن في الإمارات -على عكس ما يحدث في البلدان الغربية- أن تستعمل الحكومة الكاميرات الشخصية، ما يمنح السلطات قدرة هائلة على مراقبة كل ما يحدث في جميع أنحاء البلاد. وتبين مؤخرا أن برمجية مراسلة تدعى “تو توك” اعتُمدت على نطاق واسع في الإمارات منذ السنة الماضية وهي في الحقيقة أداة تجسس للمخابرات الإماراتية. ويسارع المسؤولون الإماراتيون في الدفاع عن هذه الممارسات بحجة أن هجوما إرهابيا أو صاروخا إيرانيا واحدا سيدفع بالعمالة الأجنبية إلى الفرار وسيسيء إلى دور الإمارات باعتبارها مركز تجارة وتنقل ثقيل في المنطقة. وقد تسبب هجوم قام به ناشط يبدو أنه كان متأثرا بفكر تنظيم الدولة الإسلامية -حيث طعن أستاذا وقتله سنة 2014 في أبو ظبي- في جعل هذا الخطر ملموسا أكثر.

مجتمع تحت الرقابة

لكن الإمارات العربية المتحدة لا تبحث فقط عن الإرهابيين، بل تطارد كذلك المنافسين السياسيين من خلال برنامج ذكاء سيبراني ذي عدوانية متزايدة يدعى مشروع رايفن، وهو من تأسيس عملاء سابقين في المخابرات الأمريكية. وكان من بين المستهدفين من هذا المشروع أربعة صحفيين غربيين -من بينهم ثلاثة أمريكيين- وفق تحقيق قامت به وكالة رويترز السنة الماضية.

كما تنذر رسائل تنشر عبر الشبكات الاجتماعية بأن التعبير عن الدعم لقطر يعتبر جريمة جنائية يعاقب عليها بالغرامة أو حتى بالسجن. ويصرّح عبد الخالق عبد الله -وهو عالم سياسي إماراتي سبق واعتقل بسبب انتقاده للحكومة: “بصراحة، من الصعب جدا التفوه أي انتقادات، أو التكلم بصراحة”، مضيفا أن هذا الأمر ليس حكرا على الإمارات بل متواجد في كامل العالم العربي. والرقابة التي يمارسها الأشخاص على أنفسهم تفوق تلك التي تمارسها الدولة في الإمارات، فحتى الشباب اقتنعوا بأن عليهم أن يكونوا أكثر يقظة ضد أعداء الخارج. وقد عبّر شاب في العشرين عن شكوكه حيال خطر الإخوان المسلمين، وإمكانية مبالغة السلطة فيه لتبرير تشددها -وهي شكوك لن يتجرأ أبدا على التفوه بها أمام الملأ.

قد تكون هذه النقطة هي اللغز الأساسي لفترة حكم بن زايد، فهو حاكم مستبد لكنه ليبيرالي بالمعنى المجتمعي، وقد تتغير نظرة المرء للإمارات بتغير المكان الذي يقف فيه، فقد تبدو الإمارات من منظور ثقافة حقوق الإنسان الغربية كمستعمرة استعبادية ورأسمالية مدقعة يرغب حاكموها في قمع أي صوت مناهض. لكن بالمقارنة مع سوريا أو مصر، تكاد الإمارات تبدو كنموذج ليبيرالي مجتمعي. ويبدو أن الشباب العربي يفضل النظرة الأخيرة، فقد أظهرت الإحصائيات أن أغلبهم يفضل العيش في الإمارات من أي مكان آخر -بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا. وقد يعود ذلك إلى الحنين الذي يميز المجتمعات في مصر والعراق، بينما يهتم سكان الإمارات خاصة بالمستقبل، ولا سيما الصحفيين منهم.

لقد سبق وواجه ديبلوماسيون أجانب بن زايد بشأن افتقار بلده للديمقراطية، وكانت إجابته شيئا من هذا القبيل: “نحن لسنا في كاليفورنيا هنا”، وأصرّ بأن نقص المستوى التعليمي وسيطرة المواقف الدينية المتخلفة تجعل بالنسبة له من الحكم الاستبدادي ضرورة. لكن في حال نجح في مهمته بتربية الرعاع واستئصال الإسلام السياسي، قد يصبح دور عائلة آل نهيان “الملكي” صعب التبرير.

1كليمنس فينزل مترنيش (1773-1859) سياسي نمساوي سعى إلى الحفاظ على مجتمع النظام القديم في أوروبا في مواجهة الاضطرابات الناجمة عن الثورة الفرنسية، والتوفيق بين مصالح الموقف النمساوي وفكرة توازن القوى.