ثمة مؤشرات باحتمال انتهاج خط سياسي جديد في تونس ومن هذه المؤشرات تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خلال قمة الفرنكوفونية الأخيرة بخصوص شجاعة الرئيس /السبسي/ الذي يكافح صعود الأفكار الظلامية وكذلك الصدى الذي لقيه في الإعلام السعودي والإماراتي خطابه يوم 24 أيلول/سبتمبر خلال الجمعية العامة ال 73 للأمم المتحدة بنيو يورك والذي ركز فيه على “القطيعة” مع النهضة.
ويترتب على هذا الخيار التخلي عن “التسوية التاريخية” التي أصبحت علامة مميزة للعملية الانتقالية التونسية وأيضا عن فكرة تقاسم السلطة لصالح اختيار ٱخر، ذو طابع بورقيبي، والذي يتمثل في تونس “مستنيرة” تحارب دون هوادة الإسلاموية التي يتم تصنيفها في خانة الظلامية.
لم يكن التوقيت المختار لهذا التحول محض صدفة حيث وجدت حركة النهضة نفسها اليوم - بعد أن تنشطت إثر الانتخابات البلدية في مايو الماضي- في موقف صعب نتيجة تقدم التحقيق حول الاغتيالات السياسية التي طالت وجهين من اليسار في 2013، هما شكري بلعيد ومحمد ابراهيمي.
ومن المحتمل أن ينتهز رئيس الدولة هذه الفرصة ـ حتى ولو لم يتم الربط بشكل واضح بين النهضة وهذه الاغتيالات ـ لتوجيه أصابع الاتهام لخصمه الذي كان أيضا حليفه في الماضي.
ولكن بإغرائه الإماراتيين والسعوديين، عن وعي أو غير وعي، بفكرة مساندة الخيار الذي يقدم نفسه على أنه حداثيوي، فإن الباجي قايد السبسي يدعو دول الخليج للتدخل في الحياة السياسية التونسية. وفي ذلك إعادة اعتبار متسرعة للنظام السياسي الماضي، بممارساته ورجالاته، والذي كان ينادي بمحاربة العدو “التاريخي”. نفسه فمن مارس/آذار 2011 إلى يومنا هذا، يكون الباجي قايد السبسي قد نقل البلاد من ثورة شكلت مدرسة إلى الخضوع لوصاية دول الخليج. وبالتأكيد ليس ذلك ما كان ينتظره التونسيون من هذه العملية الانتقالية التي بدأت تأخذ طابعا غريباً.
تحالف الأضداد
عندما أسس الباجي قايد السبسي “نداء تونس” في 2012 تم تحديد الهدف بوضوح. وهو أن يكون هو الشخص الذي يجمع حوله كل من يريد الدفاع عن الإرث الحداثوي للرئيس الحبيب بورقيبة ، وهو الإرث الذي يراه مهددا من طرف المشروع الإسلاموي للنهضة. كما كان يعتزم استعادة هيبة الدولة التي يتعين عليها حماية المواطنين. وهو ما طمأن آنذاك الكثير من التونسيين الذين كانوا يستهجنون حكم البلاد من قبل الترويكا (2011 ـ 2013)، ولكنه بالمقابل أثار تساؤلات حول إمكانية الاستمرارية في سياق الماضي والعمل في الوقت نفسه على بناء تونس ما بعد الثورة.
ومع ذلك فقايد السبسي يضع حزبه في سياق استمرارية عمليتين ناجحتين برأيه: المشروع البورقيبي الحداثوي الذي شارك فيه كوزير، وولايته الشخصية في عملية الانتقال السياسي ل2011 كوزير أول.
وبهذه التجارب الماضية قدم نفسه كمنقذ لتونس في وجه هيمنة حركة النهضة على الحياة السياسية للبلاد. ومن خلال تكراره مقولة أن الديمقراطية لا تقتصر على تنظيم الانتخابات بل يتوجب أيضا أن تمثل قدرة على الحكم، فهو يحاول ضرب مصداقية الأحزاب الثلاثة الفائزة في انتخابات 2011.
لا يمتلك حزب “نداء تونس”، الذي تضخم عدده عبر دمجه لدفعات من الغاضبين، برنامجا واضح الملامح. فالتركيبة غير المتجانسة للمنخرطين فيه لا تسمح له بتحديد مشروع يمكنه في نفس الوقت إرضاء الكوادر السابقة والمتعاطفين مع التجمع الدستوري الديمقراطي واليساريين المناهضين للإسلاموية أو حتى القوميين العرب. ومع ذلك فلقد اتفق كل هؤلاء على أن حزب قايد السبسي يعارض بشدة حزب النهضة وأنه ينوي أن يكون سدا منيعا أمامه مع العمل على استعادة هيبة الدولة.
أعطت الأزمة السياسية في 2013 الباجي قايد السبسي إمكانية الاستغناء نهائيا عن أي برنامج، حيث عبر جزء من المجتمع، الذي ضاق ذرعا بسوء الإدارة على يد حكومة علي العريّض، عن خيبته من الطبقة السياسية وعلى الخصوص من النهضة التي حُمِّلت مسؤولية انعدام الأمن. وقد زاد اغتيال قياديين من اليسار، شكري بلعيد ومحمد ابراهيمي، من حدة التوتر.
تَشَجَّع بعض التونسيين بحركة /تمرد/ المصرية المعارضة للرئيس محمد مرسي وأطلقوا حركة بنفس الاسم مطالبين باستقالة الحكومة. غير أن علي العريّض رفض التنحي مبرزا شرعيته الانتخابية. كان انسداد الأفق كليا حيث أصبحت الحكومة غير قادرة على العمل في حين شهدت صياغة الدستور شللا بسبب مناقشات إيديولوجية لا نهاية لها.
وفي الوقت الذي اقترحت فيه أربع مؤسسات مخرجا للأزمة عبر إعادة إطلاق حوار وطني باشر به الاتحاد التونسي العام للشغل، اقترح الباجي قايد السبسي على راشد الغنوشي لقاءً قصد إخراج البلاد من الأزمة عبر تليين المواقف الحادة لكوادر ومناضلي التنظيمَين.
تحالف مختل
وبقبول الطرفين هذا التقارب سمحت فكرة الحكم التوافقي بكسر الجمود وإعادة تحريك العملية الانتقالية. وكان لحركة النهضة، التي تراكمت أمامها المعوقات نظرا لسوء تسييرها السياسي، مصلحة كاملة في الانخراط في الميثاق الذي اقترحه قائد نداء تونس. فقد كان راشد الغنوشي يعلم أن التشكيلات الإسلامية المنبثقة من أيديولوجية الإخوان المسلمين ليست في وضع جيد على الساحة الإقليمية كما أظهرت ذلك إقالة محمد مرسي في مصر، وعزل قطر من طرف العربية السعودية والإمارات العربية. ولقد دفعت حالة الضعف لدى حركة النهضة بقائدها التاريخي إلى إدخال حزبه ضمن عملية انتقالية مع الباجي قايد السبسي.
حاول المرشد إقناع الكوادر والمناضلين بأن اندماج النهضة في اللعبة السياسية ضروري وأن الباجي قايد السبسي وحده القادر على حماية الحزب في ظرف متميز بتوترات كبرى. وأن لهذه “الحماية” ثمن إذ يتعين على النهضة بالضرورة تقديم تنازلات حتى تتجنب العودة إلى عهد القمع والسرية.
ولاقى هذا الاتفاق استهجانا قويا لدى جزء من المناضلين الذين كانوا يتساءلون إلى أي مدى ستصل التنازلات في هذه العلاقة غير المتوازنة تماما مع نداء تونس. وقد لاحظوا بمرارة أن حزبهم ليس بأي حال من الأحوال شريكا لنداء تونس في إطار خطة يتم التفاوض عليها بل أن سياسة البلاد تُملى عليهم من طرف الباجي قايد السبسي.
وفضلا عن التكلفة السياسية لهذا التنازل يرى متعاطفون مع الحركة أن حزبهم لم يعد له دور من يحمل مشروعاً محدداً يختلف عن مشروع نداء تونس.1.
كان من الصعب على راشد الغنوشي أن يشرح لقاعدته أن التشكيلة التي يرأسها منذ 1981 تبحث عن الاندماج في الأجواء وأنه عليها، لضمان البقاء، أن تتطور بهدوء دون أن تتخلى عن الإسلام كمرجع، نحو حزب مدني يطوي صفحة الإسلام السياسي ليتحول إلى “ديمقراطي مسلم” على شاكلة الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي عرفتها أوروبا.
عائلة الباجي قايد السبسي “تتخلى عنه”
شهد حزب نداء تونس تآكلا داخليا بسبب طموحات متنافسة انفجرت للعلن بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014. فباختياره لرئيس حكومة من خارج حزبه، وبتعيينه لابنه حافظ قايد السبسي على رأس نداء تونس، أعرب رئيس الدولة عن عدم ثقته في أتباعه، أولئك الذين ساندوه ودعموه. ابتداء من 2015 استقال 32 نائبا من نداء تونس من الكتلة الرئاسية في مجلس نواب الشعب وسرعان ما التحق بهم آخرون. بذلك فَقَدَ حزب نداء تونس الذي تعرض إلى نزيف حقيقي في صفوفه موقعه الأول في مجلس نواب الشعب لصالح منافسه وحليفه النهضة.
غير أن قايد السبسي لم يستسلم، فللرجل طموحان كبيران: ترسيخ سلطته الشخصية وإعادة تنظيم حزبه بمنحه تجانسا أكبر. وهكذا قرر خلال صيف 2016 تغيير رئيس الحكومة، حيث عوّض الحبيب الصيد الحازم بالأربعيني يوسف الشاهد. وكانت المهمة الأولى لهذا الأخير تنفيذ “ميثاق قرطاج” الذي يشكل نوعا من خريطة طريق بخصوص أولويات حكومته. وبموجب هذا الاتفاق الذي وقعته تسعة أحزاب سياسية وثلاث تنظيمات وطنية والذي فُرِض على النهضة، حقق الرئيس إجماعا بين القوى السياسية على أساس مشاركتها في الحياة السياسية وعلى الخصوص قبولها لقواعد اللعبة التي حددها.
ولكن على خلاف سلفه حاول يوسف الشاهد أن يكسب استقلالية عن رئيس الدولة عبر مشروع محاربة الفساد الذي حظي بشعبية في المرحلة الأولى. وبذلك فلقد زعزع كل من الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي اللذين خشيا من تلطيخ سمعة حزبيهما والمقربين منهما. وكان قايد السبسي يفكر في إقالة يوسف الشاهد وقد حاول أن يعيد حشد الرأي العام الحداثوي حوله، حيث كان قد صوت لصالحه بوضوح في 2014 قبل أن يخيب أمله. وهكذا رجع إلى سياسة الحبيب بورقيبة: حداثوي في القضايا المجتمعية ورافض بشدة للديمقراطية في نفس الوقت.
وقد قام في 2017 بإلغاء تعميم حظْر زواج التونسية المسلمة من غير المسلم وبعث من جديد نقاشا متكررا حول المساواة بين الجنسين في الميراث. وبعدها فوراً حاول توطيد سلطته بانتقاد عنيف للنظام البرلماني محمّلا إياه مسؤولية عدم نجاعة عمل الحكومة. كما طعن أيضا في المؤسسات المستقلة ودعا للعودة إلى نظام رئاسي قوي يتمتع بسلطات كاملة. وبالتالي فلقد رأى أنه من الضروري مراجعة دستور 2014 والتقليص من السلطات المضادة.
حرب أهلية داخل نداء تونس
أبرزت انتخابات البلدية في 6 مايو 2018 استياء المواطنين تجاه الحزبين الرئيسيين اللذين فرضا نفسيهما منذ عام 2014. فقد أحرزت القوائم المستقلة بقيادة جزء من المجتمع المدني احتفظ بإيمانه في السياسة، اختراقا حقيقيا أمام النهضة التي خسرت نصف ناخبيها مقارنة بانتخابات 2014 وكذلك نداء تونس الذي خسر الثلثين. أدت هزيمة نداء تونس الانتخابية إلى نشوب صراع الأشقاء داخل الحزب. وأراد قائده حافظ قايد السبسي توجيه اللوم إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد في حين نسبه هذا الأخير إلى إفلاس الحزب. وقد قال في 29 مايو 2018 في خطاب للتونسيين تم بثه على قنوات التلفزيون بأن “قادة النداء وعلى رأسهم حافظ قايد السبسي دمروا الحزب”.
تركزت المعركة المتعلقة بالتوازنات الداخلية في نداء تونس خلال صيف 2018 على مسألة إبقاء أو إبعاد يوسف الشاهد. في حين أن الباجي قايد السبسي الذي تظاهر بدعم ابنه لم يغفر أبدا لوزيره الأول الشاب حملته ضد الفساد وبصفة أوسع إرادته في الاستقلال عن جهاز الدولة. كما أحدث التحالف الممكن بين النواب ال69 للنهضة والائتلاف الوطني الذي تشكل حول الوزير الأول (والمُتَشكّل أساسا من منشقين عن حزب نداء تونس) تخوفا من بروز قطب سياسي قوي. فالنهضة التي استقوت بنجاحها ـ وإن كان نسبيا ـ في الانتخابات البلدية بدت أقل خجلا من 2014 ومقاومة بما يكفي للوقوف في وجه رئيس الدولة. أما يوسف الشاهد الذي تصدى لقرار الباجي قايد السبسي التضحية به فقد لعب ورقة الرأي العام والشعبية التي منحته إياها حربه ضد الفساد. لقد أعطى اعتقال بعض متنفذي الاقتصاد غير الرسمي المقربين من حافظ قايد السبسي مصداقية ليوسف الشاهد، وهو الرجل الذي لم يكن أحد يعرفه عندما تم تعيينه رئيسا للحكومة سنة2016.
تمسك الشاهد بالسلطة وذهب إلى حد ممارسة ضغوط على خصومه وإبعاد بصفة ممنهجة كل الذين يمكن اختيارهم لخلافته. ولكن طموحه في البقاء في منصبه والترشح للانتخابات الرئاسية في 2019 اصطدم بمعارضة النقابة القوية الاتحاد التونسي العام للشغل الذي لا يؤيد على الاطلاق الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنها يوسف الشاهد بناء على توصيات الجهات المانحة وخاصة صندوق النقد الدولي.
القطيعة المستحيلة بين النهضة ونداء تونس
في 24 سبتمبر/ أيلول قرر الباجي قايد السبسي الظهور مباشرة في قناة “الحوار” التونسية. ولما سئل عن الأزمة السياسية قال رئيس الدولة إن رحيل يوسف الشاهد وابنه حافظ قايد السبسي لن يغير شيئا في مجريات الأمور، وأزاح هكذا ببساطة النزاع الذي كان يبدو مركزيا خلال أشهر الصيف. فبالنسبة إليه يكمن المشكل الأساسي في كون النهضة اختارت كسر تحالفها مع نداء تونس. وقد كرر رئيس الدولة مرات عدة وبإصرار كلمة “القطيعة” بين التشكيلتين الرئيسيتين وهي طريقة لإظهار نهاية التحالف الذي يربطهما منذ 2013. ولكن بإعلانه عن هذه “القطيعة” التي تظاهر بأنه لم يكن المتسبب فيها، فلقد أعاد الأزمة التي تمر بها البلاد إلى سياق المواجهة التقليدية بين الحداثويين والإسلامويين.
وهكذا عاد من جديد السبسي الفاعل السياسي كما كان في 2011 و2012 عندما عمل على تجسيد استمرارية الدولة وروحها الحداثوية. فإذا كان يعترف بأن الوضع العام للبلاد أبعد ما يكون عن المطلوب، فهو يركز على مشكلة انعدام التوازن في نظام سياسي لا يعطيه وسائل ممارسة سلطته بإعادة تشكيل الساحة السياسية. فهو يرى بأن جهازا تنفيذيا برأسين لا يمكن أن يأتي إلا بنتائج عكسية حيث أنه لا يسمح لرئيس الدولة بإقالة وزيره الأول وإعادة تنظيم الحياة السياسية بكل حرية.
أما رئيس الحكومة الذي لم ينتخب فهو يحمل شرعية الثقة الممنوحة له من طرف مجلس نواب الشعب. ولكن في السياق الحالي، يقول الباجي قايد السبسي، أن المجلس منقسم والمشهد السياسي مشتت ورئيس الوزراء المنبثق من حزب نداء تونس يحظى بدعم حركة النهضة! إنها حسب رأيه فوضى يتعين تصحيحها وبالتالي من الضروري تعديل الدستور وتغيير القانون الانتخابي.
بطريقة ضمنية يطلب رئيس الدولة العودة إلى الممارسات السياسية التي طبعت الماضي في تنظيمه للعبة السياسية التونسية التي ظلت على الدوام رهينة الشقاق بين الحداثويين والإسلامويين. فبإبقائه على حد أدنى من التوتر مع راشد الغنوشي، يحتفظ الباجي قايد السبسي بأمل استرجاع دعم ناخبيه. وقد لا تكون هذه المناورة الأخيرة عقيمة. فعلى المستوى الداخلي، تجد النهضة نفسها اليوم في حالة ضعف، بعد أن كانت قد استعادت شيء من القوة إثر انتخابات البلدية في مايو الماضي، وذلك بسبب البحث عن الحقيقة في قضية اغتيال شكري بلعيد ومحمد ابراهيمي.
وقد أعلن محامو لجنة الدفاع في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 أن في حوزتهم وثائق تشير إلى وجود تنظيم سري على علاقة بالنهضة. ولايزال التحقيق في بداياته ولقد رفضت النهضة هذا الاتهام. غير أن وصمة العار ألصقت لا محال بالحزب الإسلاموي الذي لم يبق له خيار سوى أن يضع نفسه تحت مظلة الباجي قايد السبسي. ولا يمكن للنهضة أن تُعَوِل على دعم من الاتحاد التونسي العام للشغل ولا من الجيش. فالنهضة المعزولة أساساً على الصعيد الداخلي هي كذلك معزولة على الصعيدين الإقليمي والدولي. فغداة التدخل التلفزيوني للباجي قايد السبسي ركزت القنوات السعودية والاماراتية بقوة على “القطيعة” بين “الشيخين”.
1مونيكا ماركس، “تكلفة الإدماج: النهضة والانتقال السياسي في تونس” في استراتيجيات التكيف للحركات الإسلاموي