قصد إيجاد حل لـ“خللها الديمغرافي”، اختارت الكويت إعادة أولئك الذين صنعوا الإمارة خلال عقود إلى بلدانهم الأصلية. فاعتبارا من يناير/كانون الثاني 2020، لن يتم تجديد تصريح الإقامة للعمال المهاجرين الذين يفوق سنهم 65 عاما، وهو قرار يعكس العداوة تجاه العمال الوافدين التي تتجلى في تصريحات عنيفة كتلك التي أطلقتها النائبة صفاء الهاشم قائلة: “يجب على الأجانب المقيمين في الكويت دفع ضريبة على الهواء الذي يتنفسونه”.
وتثير هذه العودة القسرية إلى البلاد تساؤلات حول “الحياة ما بعد الخليج” لملايين العمال، وهم في الأغلبية من إفريقيا وجنوب آسيا. فإذا كان في دول الخليج أنظمة معاشات سخية، فهي مخصصة حصريا لمواطنيها. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، يحق للمواطنين الذين عملوا لمدة عشرين سنة على الأقل لصالح الحكومة أن يحصلوا على التقاعد ابتداء من سن 49. يستنكر جينو زكريا أومين، مؤلف كتب أكاديمية حول تدفقات الهجرة بين الهند والخليج، وهو باحث ما بعد الدكتوراه لدى ميغرينتر (Migrinter)، المخبر الفرنسي المتخصص في دراسة الهجرات الدولية: “على دول الخليج التي تفضل اليد العاملة التي تأتي من جنوب آسيا لحيادها السياسي وصرامتها في العمل، أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية في مساعدة هؤلاء العمال عندما يعودون إلى بلدانهم الأصلية في سن الخمسين أو الستين”. ووفق الباحث، فقد أظهرت أزمة كوفيد-19 أن العمال الأجانب يعاملون بصيغة “يرمى بعد الاستعمال” مع أنهم يشكلون العمود الفقري لاقتصاديات المنطقة.
يروي عثمان ثونديان بتأثر، وهو يقف بين شجرتي مطاط في قرية صغيرة جنوب الهند، عن السبع عشر سنة التي قضاها في صنع و خياطة الأرائك في مدينة جدة الساحلية. وبالرغم أنه لم يُمنح الحق في التقاعد بعد عمله 13 ساعة يوميا وراتب شهري يتراوح بين 200 و400 دولار، فهو ممتن: “لن أنسى أبدا أن كل ما لدينا في قريتنا هو نتاج الهجرة إلى الخليج. أنا بسيط التعليم، وفي الهند، لم تكن لدي أية فرصة للحصول على وظيفة براتب لائق، فاخترت الهجرة. لقد سمح لي مال الخليج ببناء منزل والاستثمار في مزرعة لشجر المطاط”. يقول ذلك باعتزاز. كثيرون مثل عثمان لا يثقون في أنظمة التقاعد المركزية ويختارون تأمين تقاعدهم من خلال دعم أسري واستثمارات شخصية.
سرقة مستحقات نهاية الخدمة
يتكلم صناع القرار في الخليج بصوت واحد في هذه القضية: ليس للمنطقة أي التزام تجاه العمال الأجانب بعد انتهاء عقد عملهم لأنهم يحصلون على مستحقات نهاية الخدمة، وهي متناسبة مع السنوات التي قضوها في الشركة التي شغَّلتهم. هذا المبلغ موحد ولا يُقارن، وفق المدافعين عن حقوق العمال، بالمزايا الاجتماعية التي يمنحها نظام التقاعد. وفضلا عن ذلك، فإن تكليف الشركات بمسؤولية دفع منحة المغادرة في منطقة باتت مشهورة بـ"استغلالها الممنهج" لليد العاملة الأجنبية، يطرح تساؤلا.
فخلال أزمة كوفيد-19، برزت إلى الفضاء العام الوضعية الهشة للعمال المهاجرين الذين يعيشون في دبي، وهي ملتقى تجاري للمنطقة. ففي ضواحي هذه المدينة الكبرى الغنية، لم يبق لبعضهم الذين كانوا بلا عمل ولا موارد مالية للإسكان، خيار غير نصب خيمهم على مقصورات شاحنات متواجدة على قطعة أرض خالية. ولكن بغض النظر عن الوضع الطارئ الفوري، فإن ما يقلق العمال المهاجرين الذين هم في سن التقاعد هو خطر حرمانهم منمستحقات نهاية الخدمة. فقد سبقت هذه الظاهرة الوباء واستفحلت مع الأزمة، وقد سهلت ذلك موجات تسريح للعمال وعمليات إجلاء غامضة.
يجد هؤلاء العمال محاصرين بين أرباب عمل فاسدين واستحالة البقاء في عين المكان لمحاولة الدفاع عن حقوقهم من خلال إجراءات قانونية مجهولة المصير ومكلفة، ولذلك، يستسلم كثير منهم. يقول أنوراغ ديفكوطا، وهو محام نيبالي متخصص في الدفاع عن حقوق الإنسان: “في الشركات الصغيرة والمتوسطة في الخليج، أجبر أرباب الأعمال كثيرا منهم خلال أزمة كورونا على التوقيع على استقالة طوعية، ما يجعلهم يتنازلون عن منحة المغادرة”. وبعد عودتهم إلى منحدرات جبال الهمالايا دون مستحقاتهم، يُحرم هؤلاء العمال من الوصول إلى محاكم الخليج بسبب عدم وجود آليات العدالة عبر الأوطان. يذكر أنوراغ بأن “الملاذ القانوني الوحيد الناجع هو الدبلوماسية”. وهو يأسف لـ“عدم مبالاة سفارات الدول المصدرة للعمالة بمواطنيها التي انقطعت بهم السبل”.
أطلقت مؤخرا مجموعة من المنظمات غير الحكومية والنقابات نداء للمطالبة بردود فعل وبوعي جماعي بحجم هذه الظاهرة. وأشار بيانهم بأنه “على الدول أن تعيد التأكيد مرة أخرى بأن سرقة الأجور أمر غير مقبول وأنه عليها اتخاذ إجراءات إدارية ومدنية وجنائية لمحاسبة أرباب العمل المسؤولين عنها.”.
الوصول المستحيل للمواطنة
على الرغم من التبعية الهيكلية لاقتصادات الخليج للعمالة الأجنبية، لا يزال ينظر إلى هذه الأخيرة على أنها قابلة للاستبدال والاستغلال بلا هوادة من خلال تنظيمات محلية مصممة لجعل الحصول على الجنسية أمرا مستحيلا. يجيب بعض المسؤولين السياسيين أن الاندماج الثقافي لملايين المواطنين الجدد يشكل تحديا ليست المجتمعات الخليجية مستعدة له. يعلق علي الطراح، وهو عالم اجتماع وسفير كويتي سابق لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو): “فكر أنه في الإمارات العربية المتحدة، يوجد مليون مواطن وأكثر من 8 ملايين أجنبي، فكيف سيمكنك مراقبة مجتمعك؟ ولكنني أخشى أن يأتي يوم تجبر فيه القوانين الدولية دول الخليج على منح الجنسية للعمال الأجانب”.
ولكن بغض النظر عن مسألة التجانس الثقافي، يجد هذا الموقف جذوره في العقد الاجتماعي الذي يضفي على الجنسية بعدا اقتصاديا. وبالفعل، ففي مقابل حكم مطلق، تَعِدُ العائلات المالكة في الخليج مواطنيها بإعادة توزيع الريع البترولي والغازي من خلال مساعدات الحكومة والوظائف في الخدمة العمومية ذات الأجور السخية. فمنح المواطنة قد يعيد النظر في الوضع الانتقالي للعمالة الأجنبية التي تشكل اليوم حجر الزاوية للنموذج الاقتصادي الذي ترتكز عليه المنطقة منذ نصف قرن.
بعد الجائحة، ستكون الحياة اليومية لعمال الخليج مماثلة لما كانت عليه سابقا لأن الإصلاحات التي يتم إجراؤها تتعارض مع أي حقوق اجتماعية على المدى الطويل. فإذا كانت قطر قد خطت خطوة في الاتجاه الصحيح وفق منظمة العفو الدولية -إذ منحت الإمارة للعمال الأجانب الحق في حرية تغيير صاحب العمل وفرضت حدا أدنى للأجور بـ270 دولار شهريا-، فإن المنظمة تحذر من كون تنفيذ إعلان حسن النوايا هذا لا يزال غير مؤكد. وفضلا عن ذلك، تتفق منظمات الدفاع عن المهاجرين على أن جائحة كوفيد-19 قد حولت الأنظار نحو الحاجة إلى توفير فرص عمل للسكان المحليين وتنويع الاقتصاد المحلي لتحضير ما بعد النفط.
“إنها جالية مهملة”
إذا كان العمال المهاجرون منسيين من قبل أنظمة التقاعد في بلدان الخليج، فهم منسيون أيضا من السياسات العمومية لبلدانهم الأصلية على الرغم من أن تحويلاتهم تؤمن حياة الملايين من الأسر وتدعم قطاعات كاملة من الاقتصاد المحلي (هكذا تمثل الهجرة الاقتصادية أكثر من ربع الناتج المحلي الخام لنيبال). وفق أنوراغ ديفكوطا، فإن العمال المهاجرين النيباليين المحرومين من المنح الاجتماعية المستدامة في الخليج، مقصيون أيضا من نظام الضمان الاجتماعي للدولة:“هنا تكمن الفجوة الحقيقية”.
فهناك “بين- بين” غير مريح لأولئك العمال الذين أجبروا على التقاعد قبل الأوان خلال الوباء، والذين سُرقت منهم مستحقات نهاية الخدمة. يتأسف جينو زكريا أومان، الذي يذكر بأن البطالة والفقر هي الأسباب التي تدفع هؤلاء الرجال إلى الهجرة: “مصير عمالنا في قطاع البناء في الخليج ليس جزءا من الحديث العام هنا في الهند، إنها جالية مهملة”. يعترف أشرف تيفارمانيل، وهو هندي يعمل في العربية السعودية منذ أكتوبر/تشرين الأول 1990: “في كل عام، أفكر في التوقف والعودة إلى الهند ولكن ذلك مستحيل. كيف يمكن دفع الفواتير، والمنزل إلخ... أنا مجبر إذا على البقاء للعمل هنا”.
وسّعت مؤخرا حكومة الفلبين التي غالبا ما يُستشهد بها كمثال في تسيير تصدير العمالة، نظام الحماية الاجتماعية لمواطنيها الذين يعيشون في الخارج. توضح إيلين سانا، المديرة التنفيذية لمركز الدفاع عن المهاجرين، وهي مجموعة للدفاع عن الفيليبينيين المغتربين: “على كل فيليبيني، سواء كان يعمل في التراب الوطني أم لا، التسجيل والمساهمة في الضمان الاجتماعي”. وإن لم تكن الآلية مثالية -ففي الخارج يرفض أرباب العمل التكفل بمساهمة 12% من الراتب الشهري ويرفضون مسؤولية تمويل الحماية الاجتماعية للعامل- فهي تسمح مع ذلك بتشكيل معاش متواضع. وفي أماكن أخرى ليس للمهاجرين سوى منحة مستحقات نهاية الخدمة لتمويل أيام الشيخوخة.
بعد أن قضى أكثر من 30 سنة في بناء بلدان الخليج، أولا في الإمارات العربية المتحدة ثم في قطر، يستعد أشرف للمغادرة من المرقد الذي يتشاركه مع أربعين من الزملاء الموظفين في قطاع البناء بالدوحة، وهو قلق بشأن المستقبل: “بعد عامين أو ثلاثة، سأتقاعد وأعود إلى الهند. من ذا الذي سيتكفل بحاجيات عائلتي؟ كما يتعين علي أيضا أن أتعلم كيفية العيش مع زوجتي، لأنه خلال أكثر من 25 سنة من الزواج لم تكن لنا سوى لقاءات عابرة. كيف لي أن أتحاور معها يوميا، فالأمر يختلف عن الاتصال بها من قطر؟”. هكذا يعترف الرجل الخمسيني بنوع من الحرج. فبأمل توفير حياة أفضل لأبنائه، ضحى أشرف بحياته. ثلاثة عقود من العمل الشاق ستنتهي برحلة نحو “حياة ما بعد الخليج” يخشاها.