“حريّة دائمة!” تحت هذا الشعار الرنّان والسخيف في آن واحد، أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في أكتوبر/تشرين الأول 2001 حربه “ضد الإرهاب” باجتياح أفغانستان. وكان قد فسّر هذا الخيار أمام الكونغرس الأمريكي قائلا:
إنهم يكرهون ما يرون في هذا المجلس، هذه الحكومة المنتخبة ديمقراطيا. فحكامهم يختارون أنفسهم. إنهم يكرهون حرياتنا، حريتنا الدينية، حريتنا في التعبير، حريتنا في الانتخاب والتجمع، حريّتنا في الاختلاف مع بعضنا البعض.
ضمير الغائب “هم” يعود على “الإرهابيين” الذين وعد الرئيس الأمريكي بمطاردتهم حتى أحلك مناطق هذا الكوكب. وقد اعترف أن هذه الحرب ستكون طويلة، وسيكون مسرحها العالم بأسره، لكن الخير سينتصر قريبا، وسيُقضى على الشر، وستنير الحريّة بلكنة أمريكية شعوبا مفتونة وسعيدة.
لم يكن لمن نصّبوا أنفسهم “مجتمعا دوليا” – تلك العبارة التي تشير في الحقيقة إلى الحكومات الغربية- من خيار سوى تزكية هذا المعجم العسكري. عدد من السياسيين وكتاب الرأي ومن نصّبوا أنفسهم “خبراء” في الإرهاب والمفكرين استعمل الصدمة التي تسببت فيها هجمات 11 سبتمبر/أيلول لتعبئة الرأي العام ضد عدو جديد -الإرهاب- والذي كثيرا ما يتم خلطه بالإسلاموية، أو حتى بالمسلمين.
حثّت “الانتصارات” الأولى في كابول على التفاؤل، إن لم نقل على العمى. وقد كتب برنار هنري ليفي1 -الذي لا يفوّت فرصة لإساءة التقدير في ديسمبر/كانون الأول: “لقد انتصر الأمريكيون في هذه الحرب التي خلفت في المجمل بضع المئات أو ربما ألف ضحية من المدنيين.. من يستطيع أن يفعل أفضل من ذلك؟ كم من حرب تحريرية في الماضي كانت محدودة الضحايا مثل هذه؟”
استبدال تاريخ 14 يوليو/تموز بـ11 سبتمبر/أيلول
غيره تغنّى بـ“مقاومة” ضرورية، كتلك التي وقفت في وجه النازية. فقد صرّح الكاتب فيليب سولرس بنشوة خلال مقابلة صحفية2:
نعم نعم، أعرف أنه لا يزال الكثير من العمل للقيام به هناك، إن كان في كابول أو في رام الله أو في بغداد. [...] لكن في الأخير، سيتم القضاء على الشر، وهذا أمر بديهي. لقد تأخرنا كثيرا في نظري. لم كل هذا التلكؤ؟ هذا التباطؤ؟ هذه التساؤلات المزعومة؟ هذه المناورات الأممية التي لا تخدع أحدا؟ يجب أن نضرب، أن نواصل الضرب. ما حصل في 11 سبتمبر/أيلول يقضي بذلك. هذا التاريخ هو الأفق الذي لا يمكن تجاوزه في عصرنا هذا. انتهى 14 يوليو/تموز، إنه عصر 11 سبتمبر/أيلول. لنأمل أن الفرنسيين -الذين طالما تأخروا في وعيهم التاريخي- سيقتنعون بذلك وأنهم سينضمون إلى هذه الديانة الجديدة.
هذه “الديانة الجديدة” هي “الحرب على الإرهاب”. لكن عن ماذا كنا نتحدث تحديدا؟ وفق الجنرال البروسي (الألماني) كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831)، فإن “الحرب هي امتداد للسياسة بطرق أخرى”. وقد أكّد أن “السؤال الأول والأوسع استراتيجيا هو التقييم الصحيح لنوع الحرب التي سنخوضها”، وتحديد الأهداف التي ستقود إلى الانتصار. بيد أن القضاء على “الإرهاب” -وهو شكل من أشكال العنف شهدته الإنسانية على مدى تاريخها بمظاهر مختلفة، وقد استعمله عدد من الفاعلين ذوي القناعات المتناقضة- لا يعني شيئا. فحتى الحروب الصليبية التي تم شنها ضد الإسلام كانت تحمل هدفا واضحا، وهو “تحرير قبر المسيح”، لا هداية العالم بأسره.
تظهر هذه الضبابية في المفاهيم والرؤى عندما ننظر إلى قاعدة بيانات الإرهاب العامة Global Terrorism Database التابعة لجامعة ماريلاند. توثّق هذه البيانات جميع “الهجمات الإرهابية” التي حصلت في العالم3 وتعطي معلومات مهمة حول أهم الأماكن التي تعاني من عدم الاستقرار -حتى وإن لم يكن مفاجئا أن تكون هذه الأماكن هي اليمن وأفغانستان والعراق. لكن نجد في هذا التقرير هجمات مثل تلك التي يقوم بها المتعصبون البيض في الولايات المتحدة الأمريكية، أو هجوما انتحاريا من تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان، ناهيك عن أعمال ما بقي من المجموعات المسلحة في كولومبيا وهجوم معاد للسامية في أوروبا. كلها تجتمع تحت مسمى واحد وفي خليط مبهم.
ساهم هذا الخلط الذي ينتج عن تعدد الأعداء وضبابية الأهداف، في الفشل المتكرر للـ“حرب على الإرهاب”، رغم أنه صبّ في مصلحة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الذي ندّد به قديما الرئيس دوايت أيزنهاور. وكما ورد في كتاب “حرب العشرين سنة” (La Guerre de vingt ans، 2021) لمارك هيكر وإيلي تننبوم، فإن
التعريف الواسع للخطر الإرهابي الذي تبنته إدارة بوش -والذي يشمل تنظيم القاعدة، ولكن كذلك عددا كبيرا من المجموعات المسلحة ومن “الدول المارقة”، من حزب الله إلى كوريا الشمالية- كان سيؤدي حتما إلى ما يمكن اعتباره اليوم إحدى الأخطاء الجسيمة لهذه السنوات الأولى.
لكن إلى ماذا يرمز هذا “الخطأ”؟ أولا وقبل كل شيء، فهو يرمز إلى كبرياء عالم غربي رقم هاتفه هو رقم البيت الأبيض -وفق العبارة الجميلة للفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري-، فهو المكان الوحيد الذي تؤخذ فيه “القرارات الغربية”. صحيح أن فرنسا عبّرت عن اعتراضها على اجتياح العراق في 2003، لكن سرعان ما تراجع هذا الموقف لتصطف باريس في نفس الطابور. وقد أعلن الرئيس المُنتخب آنذاك نيكولا ساركوزي أمام الكونغرس الأمريكي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2007:
ستبقى فرنسا في أفغانستان طالما استوجب الأمر ذلك، لأن القضية في هذا البلد هي قضية مستقبل قيمنا ومستقبل الحلف الأطلسي. وأعلن ذلك رسميا أمامكم: لا مجال للفشل.
الغرب “زارع الفتن الذي يخال نفسه غيثا نافعا”
أما عن خلفه الاشتراكي فرانسوا هولاند، فقد وسّع مجال الحرب إلى مالي ومنطقة الساحل، إحياء لتقليد المغامرات الاستعمارية للاشتراكية الفرنسية، وقد باء ذلك بنفس الفشل.
فالعالم بأسره -وليس فقط الإرهابيون أو الإسلامويون أو غيرهم من العفاريت المخيفة- يعارض هذا الغرب الذي يصفه ريجيس دوبري بالـ:
أبوي والأناني، نصّب نفسه قائدا لسفينة الإنسانية، وكلّف نفسه بتصحيح المسار. إنه الأب الجلاّد صاحب العقاب، العالم الأول الذي لا يتحاور مع الثالث -ولا الرابع-، بل يناجي نفسه ويذلّ جميع من لا يتكلم لغته. إنه زارع الفتن الذي يخال نفسه غيثا نافعا، والذي يضرب عرض الحائط بتلك القيم التي كان يتشدق بها، إن كان ذلك في مصلحته“4.
خلال العشرين سنة الأخيرة، خسر الغرب كذلك معركة الشرعية والحق. من منفى غوانتنامو إلى سجن أبو غريب، من التدخل غير القانوني في العراق إلى الانتخابات المزورة في أفغانستان، من مساندة الديكتاتورية المصرية إلى ازدراء حقوق الفلسطينيين، بات الواقع الملموس يشوّه نقاء تلك المبادئ المعلنة، من قانون دولي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والدفاع عن حقوق الإنسان.
إن الهزيمة الأمريكية النكراء في أفغانستان -وهي كذلك هزيمة بالنسبة لعدد من البلدان الأوروبية حتى وإن لم تكن من أصحاب القرار كما رأينا ذلك خلال عمليات إجلاء كابول-، تعني فشلا ذريعا آخر يُضاف إلى المحاولات الغربية العديدة لإعادة الهيمنة على العالم، في إنكار تام لجميع الاضطرابات التي شهدها العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لا سيما انهيار المنظومة الاستعمارية. فقد تغير الوقت، وولّت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حينما كانت لندن وباريس تقرّران كيف ستقسمان الشرق الأوسط وكيف ستفرضان هيمنتهما على شعوب ممانعة، دون تساؤلات ودون أن تواجها مقاومة لا يمكن التغلب عنها. إن رفض الهيمنة الأجنبية أصبح القاعدة، حتى وإن تزيّنت هذه الهيمنة بخطابات “الديمقراطية” و“حقوق الإنسان”.
في المقابل، نرى بروز قوى أخرى، كما يظهر ذلك في المشهد الأفغاني. باكستان والصين وروسيا وقطر وتركيا والهند تساهم في تقرير مستقبل البلاد، مثلها مثل الولايات المتحدة، وأكثر مما يفعل الاتحاد الأوروبي. لا شك أن الولايات المتحدة ستبقى لعقود أخرى قوة أساسية، لكنها لم تعد اليوم تملك الوسائل الكافية لتسيير العالم، ناهيك عن تقرير مصير بلدان مثل أفغانستان والعراق، حتى وإن كانت قادرة -كما رأينا- على تدميرها.
إن الحرب على الإرهاب هي آخر وهم لهذا الغرب الذي يرفض القبول بوضع العالم الجديد ويرغب في تحويل مجرى التاريخ. إنها مهمة خيالية طبعا، لكن السعي لتحقيقها لن يؤدي إلا إلى تفاقم الفوضى العالمية، وإلى تغذية فكرة “صراع الحضارات” وزعزعة استقرار عدد من المجتمعات، بما فيها الغربية، من خلال تقسيمها وفق معايير دينية.