دبلوماسية

فرنسا. كيف قام هولاند وماكرون بقتل ديغول

منذ هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تل أبيب، اتسم موقف فرنسا الرسمي بانحياز تام لصالح إسرائيل، رغم المجزرة المتواصلة في قطاع غزة. في هذا النص، يقوم دبلوماسي فرنسي سابق بتحليل تغيّر سياسة فرنسا في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، لا سيما تجاه القضية الفلسطينية، وتراجع دور باريس كفاعل دبلوماسي على الساحة العالمية. الأمر الذي يثير غضب دبلوماسيي وزارة الخارجية الفرنسية، بعد أن غيّب قصر الإليزيه صوتهم.

تظهر الصورة اثنين من الرجال أثناء مصافحة، حيث يقف أحدهما على اليمين وهو يرتدي ملابس سوداء، بينما الآخر يرتدي بدلة سوداء طويلة الأكمام. خلفهم تظهر أعلام، يبدو أنها تعود لدولة إسرائيل. تدل تعابير وجوههم على جدية اللقاء، ومن الواضح أنه حدث رسمي.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مصافحاً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد ندوة صحفية مشتركة في القدس، في 24 أكتوبر/تشرين الأول.
كريستوف إينا/وكالة فرانس برس.

لم يعد الوقت وقت الحديث عن انحدار فرنسا، بل عن هبوطها الى مرتبة دنيا، وربما اختفائها بالكامل من ساحة القضايا العالمية الكبرى. لقد تبيّن مجدداً، إثر الهجوم الذي شنته حركة حماس الإرهابية1 على إسرائيل، إقصاء فرنسا عن الشرق الأوسط. لم يعد بلدنا يلعب أي دور ملموس في المساعي الرامية للخروج من الأزمة لأنه لم يعد يعتبر نفسه معنياً بالنشاط في هذا الملف، وذلك منذ عدة سنوات. في مقال صادر عن صحيفة “لوموند” الفرنسية يحكي لنا جان بيار شانيولو – وهو رئيس مركز أبحاث فرنسي - كيف حاول مؤخراً أن يثير مع “دبلوماسي هام” في قصر الإليزيه موضوع النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فما كان من هذا الأخير إلا أن سأله بشيء من السخرية “أوَما زلت تهتم بهذه المسألة؟”. وعندما ندرك أن الدبلوماسي رفيع المستوي هذا هو في حقيقة الأمر عضو في الخليّة الدبلوماسية التابعة للرئاسة الفرنسية، ندرك حينها جسامة المشكلة.

بدءاً بالبلاغات التي تعرب عن الأسف والتعاطف مروراً بالإدارة المهنية البحتة لشؤون الرعايا الفرنسيين في محنتهم ومعاناتهم، عبر “مركز الأزمات” في وزارة الخارجية، إلى الموافقة على المبادرات الدبلوماسية الصغرى الآتية من الآخرين: ذاك هو، في نهاية المطاف، دور قوة أوروبية وسطى لم تعد تقبض على ناصية القضايا العالمية على الإطلاق.

بعد شيراك، صحراء مقفرة

يجدر التذكير بما كان لفرنسا في عهد جاك شيراك من دور محوري في حل الأزمات في الشرق الأوسط: إبّان عملية “عناقيد الغضب” التي شنتها إسرائيل على لبنان في نيسان/أبريل 1996، قرر الرئيس الفرنسي على الفور إرسال وزير خارجيته إلى المنطقة مبعوثاً بمهمة “الحصول على وقف القتال والسعي لتفاهمات تضمن أمن الأهالي على طرَفَيْ الحدود اللبنانية”. ورغم العراقيل التي وضعها الطرف الأمريكي في وجهها آنذاك، كانت مساهمة فرنسا مؤثرة في الخروج من الأزمة، كما شارك بلدنا بعدها في مراقبة وقف إطلاق النار. وفي صيف عام 2006، خلال النزاع الإسرائيلي اللبناني، كان مجدداً للمساهمة الفرنسية الدور الفاعل في التوصل الى القرار 1701 الذي تبناه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 11 آب/أغسطس 2006 والذي كان من شأنه وضع حدٍّ مؤقتٍ للنزاع.

وفي 2002/2003، نجح النشاط الدبلوماسي الفرنسي، بمساندة الغالبية العظمى من المجتمع الدولي، ولا سيما منه ألمانيا، بسحب الغطاء القانوني عن الحرب الأميركية على العراق، ولقد اتضح صواب الرؤية التنبؤية لجاك شيرك حول ما ستجره تلك الحرب من زعزعة شاملة لاستقرار المنطقة: إطلاق يد القوة الإيرانية في المنطقة في غياب قوة موازنة لها، وتأجيج أعمال العنف بين السنة والشيعة.

كيف وصلنا اليوم إلى هذه الكارثة الدبلوماسية الملفتة للنظر من حيث سرعتها، المتجلية بشكل خاص في الشرق الأوسط، والبادية مع ذلك في سائر المناطق؟ يمكننا تشخيص عدة أسباب لها، ومنها أجواء انعدام الثقة بفرنسا في المغرب العربي. لا بد أن نتذكّر كيف كان جاك شيراك يحظى بالمحبة والاحترام في البلدان المغاربية الثلاثة. أما اليوم فكل من المغرب (وكان نيكولا ساركوزي قد نجح في الحفاظ على شراكة متميزة مع هذا ابلد) والجزائر وتونس تنتظر بفارغ الصبر أن تُطوى أخيراً صفحة ماكرون.

وعودة بنا إلى الشرق الأوسط، فالتحرك المسرحي الذي قام به الرئيس ماكرون إثر الانفجار المأسوي في مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس لم يسفر عن أي نتيجة ترتجى. فالرئيس الفرنسي الذي كان يتصور نفسه المحرر الأعظم، الذي سيبادر بمعاهدة سياسية جديدة في لبنان لم يتوصل لأي نتيجة ملموسة في واقع الأمر، بل كشف عن جهله للعادات والتقاليد المرعية في بلد من المفترض أنه مقرب من فرنسا. وما زال لبنان الضحية المثلى للفوضى الأمنية السائدة في محيطه، يغوص يوماً بعد يوم في الأزمة.

هولاند، ماكرون، مثيلان لا يحرّكان ساكناً

تشاهد فرنسا، دونما حراك، ومنذ عدة سنوات، الاضطرابات الكبرى الجارية أمام أعينها في العالم. لم يعد صوتها مسموعاً، بل والأسوأ من ذلك، لم يعد أحد ينتظر هذا الصوت. لقد قتل فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون السياسة الخارجية الفرنسية التي كانت تسير في خطى ديغول، هذا هو واقع الحال.

قد يبدو من الغرابة بمكان الجمع بين فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، فالرجلان مختلفان على الصعيد الشخصي، إلا أن إيمانويل ماكرون، في مضمار السياسة الخارجية، كان الخَلَف الذي أكمل عمل السَّلف من حيث الفشل الذريع. فما هي العوامل المشتركة بينهما والتي فعلت فعلها؟

يجدر التنويه أولاً بالانعدام الكامل للخبرة في مجال العلاقات الدولية لدى وصول كل منهما الى سدة الرئاسة في حين أن السياسة الخارجية ليست مسألة إبداع. لا يكفي ابتلاع المذكرات، وإصدار البلاغات التقليدية وحضور مراسم القمم الدولية، للتأثير على مجريات الأمور في العالم. بل تتطلب السياسة الخارجية تمرّساً طويل المدى، يتم اكتسابه عبر الزيارات المختلفة الى بلدان العالم (على سبيل المثال، لم يقم فرانسوا هولاند بأي زيارة للصين قبل وصوله للحكم)، بما يسمح بنسج شبكة واسعة من العلاقات، والتعرف عن كثب على النظراء من رؤساء الدول، وإرهاف الحس، وتطويع السياسة الخارجية بحيث يصبح بالإمكان انتهاج سياسة جريئة، فريدة، طليعية، تحل المعضلة الأساسية ألا وهي: كيف يمكن لبلد متوسط الحجم، عدد السكان فيه قليل قياساً بسكان المعمورة، أن يؤثر على مجريات الأمور في العالم؟ والجواب هو: بانتهاجه سياسة عظمى في المجال الخارجي. فلنذّكر بقول ديغول: “لأننا بالضبط لم نعد قوة عظمى، فنحن بحاجة الى سياسة عظمى، فإن لم تتوفر لدينا السياسة العظمى هذه، وبما أننا لم نعد قوة عظمى، فلن نكون أي شيء على الإطلاق”.

ثمة عوامل أخرى لعبت دورها في هذه الاستمرارية بين الرئيسين الأخيرين فالدبلوماسيون إياهم ظلوا يديرون دفة الأمور، متأثرين بانتمائهم للحزب الاشتراكي والعديد منهم مقرب من جان إيف لو دريان، الذي شغل منصب وزير الدفاع والخارجية في ولاية هولاند، وتابع عمله في عهد إيمانويل ماكرون. ولقد استحوذت فئة قليلة من الدبلوماسيين، ممن لا يملكون خبرة فعلية في الشأن الخارجي، على مقاليد القيادة، واستدام نفوذ الوزير السابق جان إيف لو دريان عبر تعيين الدبلوماسي لويس فاسي، الذي تم فرضه كمدير مكتب وزيرة الخارجية كاترين كولونا رغم صغر سنه النسبي لمثل هذا المنصب، ليكون في الوقت نفسه برج مراقبة لقصر الإليزيه داخل الوزارة. بل وأكثر من ذلك، لقد ساهم الدور البائس الذي لعبه لست سنوات طوال الدبلوماسي فرانك باريس على رأس “الخلية الإفريقية” الى حد بعيد في تسريع الرفض المحلي لسياسة فرنسا الإفريقية.

وكلنا يذكر التهور الحربي لدى هولاند ولودريان في استعدادهما لقصف سوريا عندما تجاوز النظام السوري “الخط الأحمر” المتمثل باستخدام الأسلحة الكيماوية، قبل أن يبلغهما باراك أوباما بأن تدخلهما لن يكون ذا أهمية تذكر على أرض الواقع. وأسوأ ما في الأمر أن هذين المحاربين عن بعد لم يتمكنا من تزويد القوات الفرنسية بالقدرات الكفيلة بقيامها بمهامها، وهي المهام التي لم تحدد بوضوح أصلاً، والتي كان يعوزها العتاد المناسب. ويكاد المرء لا يصدق ما يسمعه عندما يأتيه تصريح إيمانويل ماكرون في 24 أيلول سبتمبر الماضي بأن علينا أن نتسامح - يا للشهامة! - مع فشل الجيش في عمليات سرفال وبرخان وفي الانسحاب الذليل من النيجر، في حين أن المسؤولية هي في المقام الأول مسؤولية سياسية، وأن مسبباتها من صنيعة شريكه وصنيعته. أما الجيش فلا غبار عليه، كان بالمستوى.

وختاماً ومن وجهة نظر المؤسسات، لقد عمل فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون على ترسيخ الانحراف الذي بدأ في عهد ساركوزي والذي يعتبر خللاَ جسيماً في إدارة دفة السياسة الخارجية، ألا وهو السلطة المطلقة الممنوحة للخلية الدبلوماسية التابعة لرئاسة الجمهورية وإخضاع دوائر الخارجية وخبراتها لها، بل وتهميشها. وكان ساركوزي على الأقل قد تنبه لضرورة تعيين مستشار دبلوماسي من ذوي الخبرة الواسعة ومستشار للشؤون الأفريقية من ذوي الكفاءة العالية.

ولكن عودةً بنا إلى موضوعنا الرئيسي الذي يشغل الساحة، وبحق.

بعيداً جداً عن الشرق الأوسط

لقد وَأَدَ فرنسوا هولاند بكل بساطة سياسة فرنسا العربية واضعا حداً للنفوذ الفرنسي القوي في هذه المنطقة. ولقد كان موقفه المتسم بالاختلال التام في التوازن، في 9 يوليو/تموز 2014 بصدد النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، قد طبع الأذهان، رغم محاولاته اللاحقة للعودة عنه. فإبان العملية الانتقامية الإسرائيلية التي اعتبرت غير متناسبة إطلاقاً في الحجم مع صواريخ حماس، لم ينبس هولاند ببنت شفة واحدة بشأن الضحايا الفلسطينيين الذين بلغوا 1500 مكتفياً بتأييد قوي ملفت للدولة العبرية. يتضح هنا مرة أخرى تأثير تلك النزعة المتأصلة في موالاة إسرائيل والتي ورثها من التحالف بين الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب العمالي الإسرائيلي، ويبدو أن فرنسوا هولاند لم يتنبّه الى كون الحزب العمالي قد اختفى من الوجود في إسرائيل وأن شهادة براءة الذمة التي يمنحها إنما تذهب الى شخصية مشبوهة، كبنيامين نتانياهو.

أما نيكولا ساركوزي فلم يقع في الفخ. ففي حين كان يُعتبر موالياً بشدة لإسرائيل في بداية ولايته، إلا أنه استطاع، مع اكتشافه شيئاً فشيئاً لخداع بنيامين نتانياهو واستحالة الوثوق به، أن يتوصل الى موقف أكثر توازناً. كما أن الملف الإسرائيلي الفلسطيني احتفظ بأولويته في عهده. ولقد قام كل من فرنسوا هولاند وإيمانويل ماكرون من ناحيتهما بدفن الملف دفناً كاملاً كما كانوا قد دفنوا سياسة فرنسا العربية التي بدأها الجنرال ديغول ورفع جاك شيراك رايتها عاليةً.

وتتمثل الاستراتيجية الجديدة التي تبناها هذان الرئيسان في اعتبار إسرائيل “دولة يهودية” تتمتع بصفة تمثيل المجموعات اليهودية أينما كانت في العالم، ومن ضمنها الطائفة اليهودية في فرنسا. ولقد تجلى المغزى التعيس لهذا الانزلاق في 16 يوليو/تموز 2017 عندما وجه إيمانويل ماكرون الى بنيامين نتانياهو دعوةً للمشاركة في إحياء ذكرى اعتقالات اليهود في “الفيل ديف”2، كما لو أن صفة اليهودي تطغى على صفة الفرنسي بالنسبة لهؤلاء الضحايا المساكين. ويكون إيمانويل ماكرون بذلك قد جعل من إسرائيل الممثل الرسمي للطائفة اليهودية الفرنسية، على عكس ما انتهجه جاك شيراك من سياسة، تميّز فيها بموقف فريد من نوعه تجاه هذه الطائفة عندما كانت مستهدفة، فكان أول من اعترف، منذ بداية ولايته الأولى لسبع سنوات، ب“مسؤولية الدولة الفرنسية” في ذلك العمل الشنيع، كما وفي تدابير الإبعاد والإفناء والقضاء على حوالي 76.000 من اليهود الذين كانوا يعيشون في بلادنا. ولقد فعل ذلك دون أي التباس في العلاقة بدولة إسرائيل، التي كان يحثها على احترام القانون الدولي شأنها شأن سائر الدول، مذكراً بذلك بكل صراحة عند الضرورة.

أما اليوم، ففرنسا دولة معزولة على الصعيد العالمي، فلا هي تستطيع أن تكون قوة رائدة في أوروبا، تحشد الأوروبيين وراءها، ولا هي قادرة على التأثير على مجلس الأمن للأمم المتحدة باتجاه تبني القرارات. بل أن نفوذها داخل الجمعية العامة قد انهار وبشكل منطقي للغاية، بحكم فقدانها لمساندة حلفاء الأمس من أفارقة ناطقين باللغة الفرنسية ودول عربية. وليس لإيمانويل ماكرون أي علاقة مميّزة مع أي رئيس دولة على الإطلاق، وقد غاب عن المشهد من ناحية أخرى ما كان يسمى بالثنائي الفرنسي-الألماني. لقد تم تحجيم نفوذ فرنسا على الساحة الدولية، فباتت تنحصر فيما تمثله كبلد على نطاق الكوكب، فهو ليس بالأمر الكبير. ما نشهده اليوم هو التراجع المتزامن لنفوذها السياسي ولرصيد التعاطف معها. وسيكون من الضروري العمل على إحياء هذا الرصيد، قبل أن نأمل قلب الموازين، والنهوض بالنفوذ السياسي.

1ملاحظة من هيئة التحرير: هذا التوصيف لا يعكس وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

2أي ما قام به نظام فيشي الفرنسي المتواطئ مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية من اعتقالات واسعة في صفوف اليهود في باريس ومنهم أطفال، تم تجميعهم في ملعب رياضي يحمل اسماً يتم اختصاره بأحرفه الأولى “فيل ديف”.