غزة 2023 -2024

أي مجال للتفكير بعد غزة؟

حجم الإبادة والتطهير العرقي في غزة وتواطؤ أغلب الحكومات الغربية مع إسرائيل رفع الحجاب عن الشرخ بين “الشمال الكبير” و“الجنوب العالمي”. وإذ تطرح هذه الهوة سؤال الانتماء إلى نفس الإنسانية، يبقى الأمل ممكناً من خلال التشبث بالتعبئة التي يقوم بها “جيل عالمي جديد”، أعاد فكرة الثورة إلى المركز و“عولم” القضية الفلسطينية.

في الصورة، يظهر مجموعة من الأشخاص في تظاهرة، حيث يحمل أحدهم لافتة مكتوب عليها "الحرب الدينية؟ لا! الحرب الحضارية؟ لا! حرب الاحتلال؟ نعم! اوقفوا الحرب!"، بينما يحمل آخر مظلة خضراء. التعبيرات على وجوه المتظاهرين تدل على الإصرار والمشاركة الفعالة في الاحتجاج. الأجواء تتسم بالجدية مع خلفية غائمة أو ممطرة.
صورة من مظاهرة مساندة لفلسطين في باريس بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

حين خلص أدورنو عشية المحرقة وفظاعة أوشفيتز إلى أن مجالات كتابة الشعر قد انعدمت قبالة وجوه موتى المحتشد، كان يريد لفت الانتباه متشائما إلى هول ما وقع، فبإعلانه أن قول الشعر هو اليوم بربريّة بوجه ما1 وبتساؤله عن معنى التفلسف لاحقا، كان قصده بيان الحاجة لإعادة النظر في فاعلية النقد والتعبير الجمالي، بعد ظواهر معاصرة مرعبة كغرف الغاز ووحشية النازية.

لا شيء يوحي بعد محتشد أوشفيتز وقنبلة هيروشيما، وبعد الغولاغ، بخلاص أخلاقي وسياسي للإنسانية الحديثة الموعودة بالتقدم بفضل سلطة العلم والتقنية وفضائل التنظيم البيروقراطي والديمقراطي للمجتمع واقتصاد السوق. وصارت الخيبة أكبر خاصة بعد أن فشلت محاولة تغيير العالم ماركسيا نحو أفق ما بعد الرأسمالية المتوّحشة، ودخلت الثقافة الغربية الحديثة في حلقة مفرغة من اللاّ معنى واللاّ مسؤولية المعممة، بتبريرها بصلف العنصرية والنازية والجرائم الاستعمارية والحروب.

إن أدورنو على حق، فالمحرقة النازية فظاعة، والمعاداة الحديثة للسامية بجذورها الدينية والأيديولوجية والقومية هي إحدى تجليات أمراض الحداثة الغربية المركبة. وعلى حدّ قول إدوارد سعيد، فإن أدورنو على حق في تشاؤمه، ومع ذلك يلهمه كفلسطيني عاش كل حياته أو يكاد خارج المكان، وتعلّق فكره وقوله ’’ كمثقف يهودي أخير’’2 يعيش المنفى، كما قدم نفسه مرة بطلب المستحيل: العودة إلى بيت أهله وطفولته الأولى.

هل نستطيع أن ننتمي كلنا لنفس الإنسانية؟

قياساً على أدورنو، نتساءل: هل لا يزال مجال التفكير ممكنا بعد غزة وموتاها ودمارها ودمائها؟ هل نستطيع أن ننتمي كلنا لنفس الإنسانية وأن نشترك في قاعدة قيم تجمعنا نحن ساكنة المعمورة بعد وحشية الحرب على غزة، وبعد هذه الكراهية المفرطة للآخر الفلسطيني والعربي و"المسلم’’، بعد هذا الإنكار لكلّ غيرية لا أوروبية ولا غربية؟

تحركت آلة الدعاية الإعلامية والسياسية والديبلوماسية سريعا بعد ساعات من صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول لتروّج سردية واحدة مدارها إرهاب حماس، وتحريك ذاكرة المحرقة، فكأن تاريخ الصراع بدأ الآن حيث صار عنف حماس وسلاحها هو فاتحة الاعتداء، وليس وليد مسار طويل من الحصار طال ما يقارب العقدين، ونتاج إرادة معلنة بين إسرائيل وحلفائها من العرب المطبعين والغرب المتواطئ بقبر القضية، وبشطب مطلب حق تقرير المصير والتحرر الوطني، بإلغاء أي تمثيلية سياسية فعلية للشعب الفلسطيني. مدار الخطاب السائد إعلاميا هو توفير نسيج علامات لغوية وصور وتحاليل أحادية، هي بمثابة السلاح الإيديولوجي في الحرب ضد الفلسطينيين.

بعد 56 عاماً من الاحتلال و16 عاماً من الحصار، تُشن الحرب الأخيرة على غزة، وتُقطع إمدادات المياه والغذاء والطاقة والوقود، في عقاب جماعي وحرب إبادة طالما انتظر اليمين المتطرف الإسرائيلي إنجازها عسكريًّا. فهو لا يرى حلاًّ آخر غير ذلك أمام حقيقة الديمغرافيا الفلسطينية، وكحضور حيوي مرعب لليهودي الذي لا يستطيع العيش مع الآخرين، والعاجز عن مغادرة ذهنية الغيتو، وهو ضرب من الإقامة الجبرية في سجن الهوية الجامدة.

الفلسطيني هو الآخر المطلق الذي ظلّ غائباً وغير قابل للإدراك ومطالَب بالانسحاب، حتى لا يعبث بنظام وجود المحتل وترتيبات بسط نفوذه على الأرض، باسم التفوق العرقي بداية ثم التفوق الحضاري. إنها حرب الحضارات في صورتها الجلية تنتصر لهوية الأقوى وتعمد طمس هوية الغير والمستعمر. عنف العدوان وفظاعة الانتقام ورغبة القتل الجامحة المتحكمة في العقل السياسي الإسرائيلي الراهن هي التجسيد المادي لهذه الحرب الأيديولوجية التي تمّد جذورها في التاريخ الحديث وحتى الوسيط. وهي بصدد دفع المنطقة كلها إلى مواجهة دينية دامية، والحال إن المعركة هي معركة تحرر وطني ضد الاحتلال.

لم يعد من السهل على أي صوت حرّ في الشمال أن يذكّر الناس بالسياق التاريخي القريب والبعيد، ولا بحقيقة الاحتلال، ولا بسياسات التهجير والتمييز العنصري، ولا بلفت انتباه الضمائر إلى حرب الإبادة التي تُشن على غزة، عجزاً أو خوفاً. وهو ما وضع مقولة ’’لن يتكرّر أبدا’’ (plus jamais ça) التي ردّدها ناجون من أوشفيتز على المحك.

المعنى الحقيقي لعبارة “لن يتكرر أبدا”

لقد اختيرت نورمبرغ الألمانية لمحاكمة النازيين، لكونها كانت مركز الدعاية النازية التي سبقت الحرب. ما أراده الحلفاء هو أن ترمز نورمبرغ إلى موت ألمانيا النازية، وإلى التزام كلّ أوروبا بحماية اليهود مستقبلاً من كلّ أذى. ما فهمه العالم حينها أن الإنسانية الحديثة تريد أن تطوي صفحة سوداء من تاريخها وأن تفتح أخرى، تعززت حقا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبموجات انتصار حروب الاستقلال في إفريقيا وآسيا ثم انتصار الفيتنام، وموجة الثورات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وجنوب أوروبا وسقوط نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا.

وتواصل الأمل حتى بعد سقوط جدار برلين، إذ عُقدت عدة مؤتمرات مهمة خلال التسعينيات في ريو دي جانيرو حول البيئة (1992)، وفيينا لدعم حقوق الإنسان ( 1993)، و بكين حول حقوق النساء (1995)، وكوبنهاغن للتنمية الاجتماعية (1995)، مما أوحى بديناميكية جديدة صلب المنتظم الأممي، سرعان ما بينت حدودها أمام الاكتساح الأيديولوجي للنيو ليبرالية، مما دفع الحركات المناهضة للعولمة للتعبئة من أجل عولمة بديلة بداية من أواخر التسعينيات، قبل أن نشهد مع بداية الألفية وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول بداية التحول الكامل نحو عالم يقوده قطب واحد، تغيب فيه العدالة بين الشعوب، وتحكمه دوليا سياسة المكيالين، وأصبحت فيه الحروب قراراً يتخذّه الأقوى ولا يُحاسب عليه. بل قُدّمت هذه الحروب على العراق و أفغانستان كتواصل لعبء الرجل الأبيض لنشر التمدن و الديمقراطية في عالم تستمر فيه ظلمات الشرق3.

لا يمكن حصر عبارة "لن يتكرّر أبداً’’ في حماية اليهود كضحية أبدية، بل تعني هذه العبارة لن تتكرر هيروشيما، ولا حرب الفيتنام، ولا سياسات الاستعمار والممارسات العنصرية وصبرا وشتيلا، وجرائم أبو غريب وغوانتنامو.. وغيرها من الجرائم في حق غير اليهود وغير الغربيين. دون هذا المعنى يصبح الشعار تمييزيا لا يحمي كلّ النوع الإنساني ويفقد مداه الكوني. فتواصل إنكار الحق الفلسطيني رغم كلّ التحوّلات الجيوسياسية، وتواصل دعم آخر دولة استعمارية في العالم لا تزال تمارس سياسة الأبارتايد، ظلّ بمثابة نقيض المسار الذي وعدت به نهاية الحرب الباردة. بل هو مسار توغل في منظومة الحرب الأمريكية على ’’الإرهاب’’ كذريعة للهيمنة العسكرية على العالم.

صراع ثقافي وأخلاقي وسياسي كوني يتكثف في غزة

تجليات هذا العصر الأمريكي برزت بقوة بعد العملية العسكرية الأخيرة صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث لا مجال للتساؤل ولا للريبة في أي شيء. فللعقل الباطن الغربي الذي يدمج إسرائيل ضمن نظامه المعياري قناعات راسخة، وهي تفوقه الحضاري النهائي، ولا جدارة للاّ غربيين بالحياة اللائقة.

الموقف الأخلاقي الكوني الوحيد بناء على هذه العقيدة هو إدانة “إرهاب” حماس وإبداء التعاطف والمحبة إزاء الضحايا المدنيين الإسرائيليين، وإحياء رهاب معاداة السامية وجرائم النازية، وهو ما ينزع عن جيش الاحتلال صفة المعتدي، ويمنحه حقا وجوديا في الدفاع عن “الضحية”.

هكذا يضحى وجه الضحية الفريدة الذي يثير الشفقة والعناية هو وجه الضحية اليهودية، وهو ما يسقط ادعاءات الكونية وينسف الطابع المميز للديمقراطية الليبرالية وعلاقتها بالتعددية، تعددية الآراء والمصالح والآلام..

في هذا المناخ، تدرك وتخجل ألمانيا خاصة وأوروبا عموماً من تاريخها الذي ولّد الشخصية التسلطية، وفسح المجال لفكرة النازية أن تتفشى وتبتذل. غير أنها الآن تحوّل آليات إنتاج التعصب ورفض الآخر وطرد المغاير نحو المسلم والعربي والمهاجر والإفريقي، فباثولوجيا كراهية الغير لا تزال على حالها وإن تغير موضوعها. كما أن عودة النزعات الوطنية والقومية في أوروبا لا تقف عند حدود المجر الطرفية، بل تصل إلى إيطاليا وهولاندا، وتتنامى في فرنسا وألمانيا، شعارها لا للغرباء، حيث لا ضيافة ولا كوسموبوليتية ولا مواطنة عالمية غدت متاحة، كما يذكّرنا بذلك قانون الهجرة الذي صادق عليه مؤخّراً البرلمان الفرنسي. عولمة السوق والمبادلات وحركة رأس المال لا تحتمل عالمية الحقوق، لذلك تعود فكرة الحدود والجدران قوية بعد أن تم التبشير الليبرالي بسقوطها.

في هذا المناخ أيضاً، لم يعد الفدائي والمقاوم والشاعر والمثقف المرتبطون بفلسطين هم المشكل الوحيد لكل محتكري المعرفة والحق في الكرامة، بل صار حمل علم فلسطين تهمة ’’إرهابية ومعاداة للسامية’’ إذ منعت بعض “عواصم الأنوار” التظاهر دفاعاً عن فلسطين، لتسقط القناع عن نفسها مرة أخرى.

على النقيض من ذلك، نقول: حياة الفلسطينيين مهمة ككل حياة إنسانية، تلك هي القاعدة الأخلاقية التي توجّه تفكيرنا. إلا أن الإصرار فقط على إدانة العنف الفلسطيني يهدف إلى نزع كلّ صفة أخلاقية وإنسانية تعلن تضامنها مع الفلسطينيين في نضالهم من أجل الحرية والعدالة وتقرير المصير. ومع ذلك، كسر أحرار العالم هذه النزعة التسلطية الغربية على اللغة والتعبير والصورة والخبر، وارتفعت الأصوات المطالبة بوقف إطلاق النار والعودة للحل السياسي العادل للصراع.

هذا التحوّل في مفردات المواجهة وفاعليها ينطوي على مضامين سياسية وإيديولوجية هي بالضرورة مدار صراع ثقافي وأخلاقي وسياسي كوني يتكثف اليوم في غزة، ويتّخذ وجهة أوسع يسميها الأرجنتيني والتر د. منيولو “العصيان الإبستمولوجي”، وهو تمرّد المتحرّرين من الهيمنة الاستعمارية على احتكار جغرافيا الغرب للمعرفة. إن أماكن اللاّ فكر وأماكن الأسطورة والأديان غير الغربية الموصومة بالتخلف المعرفي والحضاري استفاقت اليوم من عمليّة التغريب التي طال أمدها وتنتزع حق إنتاج معرفة بالعالم4. لا شيء ربما يوحّد هذا الجنوب العالمي اللاّ متجانس، إلا أن رغبة الانعتاق من قرون الهيمنة الغربية العسكرية والاقتصادية والثقافية والسياسية مشتركة، فكأن استعادة تقدير الذات تمرّ ضرورة في العلاقات الدولية وبين الشعوب برفض الإهانة والاحتقار والاستتباع5.

مفترق طريقين

لكن ما أثر هذا التمرد المعرفي على قراءتنا للحدث الفلسطيني؟ وعلى مضمون الجدل الدائر الآن حول معيارية كونية ممكنة للحق والعدالة في العالم، تنسحب على البشرية قاطبة ’’البيضاء’’ و"غير البيضاء’’، الغربية وغير الغربية؟ بمعنى ما، يتعلق الأمر الآن بحظوظ إقامة سياسة للنوع البشري تخترق الأديان والقوميات، وتعلو على الهويات القاتلة، وهي مهمة لم يعد الغرب العائد إلى منطق ’’الأمة النقية’’ - لا كلّ الغرب - الاضطلاع بها، وهي ملقاة على عاتق تيار فكري وفلسفي جديد للجنوب فيه موقع.

ندرك أن مثل هذه المهمة عسيرة. فالعنصرية لا تزال مرض العالم، لكن لا خيار لنا، فالعالم على مفترق طريقين: إما عودة العدالة والسلام ووقف التدحرج، أو تواصل الظلم والحروب والانهيار. ذلك هو المدخل الإنساني الذي ننطلق منه للعودة إلى الحرب على غزة والتفكير في دلالاتها ومآلاتاها.

بداية، كلّ وجه ضحية مدنية في نظرنا مؤلم، ومقتله في ساحات الحرب مأساة، ويفترض فيه أن يكون في دلالته الأصلية عارياً من كلّ شحن أيديولوجي أو عرقي او ديني. تلك قاعدة لا نسحبها فقط على الفلسطيني، بل على الإسرائيلي أيضا. دون هذه القناعة، لا مجال للتفكير والحوار بالمعنى الفلسفي الكوني.

ثانياً، قتل المدنيين الإسرائيليين في هذا الصراع نفسه ليس موضع اتفاق بين الفلسطينيين أنفسهم منذ عقود، وسبق لقيادات وطنية ومثقفين فلسطينيين أن رفضوا ذلك علناً، خاصة في حقبة تنفيذ العمليات الانتحارية، وهو ما لم يعفيهم من تهمة الإرهاب. فحتى إدوارد سعيد وُصم بمفكر الإرهاب لمجرد إلقائه حجراً رمزيًّا من جنوب لبنان تماهيا مع أطفال انتفاضة الحجارة.

والآن ونحن أمام هذا العدوان والزلزال الذي هز ضمائر العالم الحر من جهة وأسقط أقنعة من جهة أخرى، لا بدّ من تعهّد مهام المرحلة التي صارت تتجاوز حدود العرب وفلسطين وسياسة دولة الاحتلال، لتمتد إلى مجال العلاقة الجديدة بين الشمال الكبير والجنوب العالمي.

عولمة فلسطين

لا نبالغ حين نعيد القول إن فلسطين بوّابة أخرى لوعي سياسي لجيل عالمي جديد، صار بمقدوره أن يقف جماعيًّا على معاني الظلم وغطرسة الاستعمار وفظاعة التمييز العنصري وصلف الغرب المستعمر، وأن يقف على قيمة الالتزام بالحق وفخر الدفاع عنه ومتعة انعتاق جسد يتلحف بالكوفية وبالعلم الفلسطيني، يصدع بصوته في الشوارع والجامعات والفضاء الافتراضي بهمة عالية وفكر حرّ.

ما كشفته غزة اليوم هو التجلي الأخير لما يعتمل في العالم المعاصر من صراعات بدت محاورها ومدارتها واضحة بين شمال كبير فقد مقومات الهيمنة وجنوب لا متجانس وصاعد. قبالة هذا العالم القديم، يعتمل عالم جديد نراه في المقاومات والسياسة الحيوية - بالمعنى الفوكوي (نسبة إلى ميشال فوكو) - في سلسلة الانتفاضات العربية والآسيوية واللاتينية، وموجة الحركات الاجتماعية البيئية المناهضة للعنصرية في الغرب، وهي موجات ارتدادية تدفع نحو فهم تاريخ الثورات من منظور عالمي قادر على اكتشاف ارتباطاتها العابرة للقارات، واستكشاف تداولاتها الأساسية. فهي تكثف حركات التضامن، وحركة التجارب والأفكار6. مشكلة مركز النظام العالمي أنه تخلى عن فكرة الثورة، وهي اليوم تعود في تخومه، حاملة معاني الكرامة الوطنية ومناهضة العنصرية ومطالب العدالة.

تعود فكرة الثورة الفلسطينية بعد كلّ هذا ورغم كلّ هذا بشكل مفاجئ وفي توقيت غير متوقع بلغة عصرها وسياقها وفاعليها الجدد كثورة معولمة. كلّ ثورة كما كلّ فلسفة هي بنت عصرها، ومعنى ذلك عند هيجل ليس أن تكون بنت وقتها بالمعنى الزمني، بل بنت التناقضات التي تعتمل راهناً وتؤجّج الصراع المتاح لقوى التغيير من أجل دفع حركة التاريخ. رسالة “طوفان الأقصى” أنها عولمت فلسطين بشكل غير مسبوق وفي وقت جدّ مناسب عالميا، وميّزت بين من هم مع العدالة والسلام والحق، ومن هم مع جرائم الحرب وإرهاب دولة الاحتلال. ليس مسار هذا الخطّ الفاصل نهائيًّا، بل مازال قابلاً للحركة في اتجاهات عدة وفي كلّ مجالات الفعل الممكنة في الأرض المحتلة والشوارع والمؤسسات والفضاء العمومي العالمي، وفق متغيرات اللّحظة واحتمالاتها.

لم تنته الحرب على غزة بعدُ، والتكهن بما ستفضي إليه تداعياتها من تطوّرات ونتائج سياسية يبقى مفتوحا. ومع ذلك، ما نتلقفه من هذه الهبة الجماهرية الداعمة لفلسطين في المنطقة وفي العالم هو المنعرج التاريخي الذي نحن بصدده، والذي يعرف صعوداً لافتاً منذ سنوات للحركات المناهضة للعنصرية ضد السود في أمريكا وضد الأجانب في أوروبا ورهاب المسلمين وللحركات الديكولونيالية وحقوق الأقليات ومن أجل العدالة المناخية، والتي يحملها كلها جيل جديد من النشطاء والمثقفين المتصدين للعالم القديم. مثل هذا الأمل يجعل التفكير ممكناً، وقول الشعر متاحاً حتى لا نسقط رغم الوجع في تشاؤم أدورنو ونتشبّث بحلم إدوارد سعيد.

1انظر: A. Kalfa, La force du refus : philosopher après Auschwitz, Paris, L’Harmattan, 2004.

2حوار مع صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، 18 أغسطس/آب 2000.

3Jacques Rancière, Les Trente inglorieuses, La Fabrique, 2022.

4“العصيان المعرفيّ، التفكير المستقلّ والحرية الديـ-كولونيالية”، والتر د. منيولو.

5Bertrand Badie, Le temps des humiliés. Pathologie des relations internationales, Odile Jacob, 2014.

6David Motadel, « Révolution-monde et mondialisation de la révolution », traduit de l’anglais par Pauline Stockman, dans Une histoire globale des révolutions, sous la direction de Ludivine Bantigny, Quentin Deluermoz, Boris Gobille, Laurent Jeanpierre, Eugénia Palieraki, La Découverte, 2023.