غزة. عندما يشرعن الإعلام الفرنسي قتل الصحفيين

A group of people mourns over a deceased individual in a white shroud, surrounded by a press vest.
غزة -المدينة 11 أغسطس/آب 2025. تجمع المشيعون حول جثمان مراسل قناة الجزيرة محمد قريقع أثناء الاستعداد لجنازته في مستشفى الشفاء. أعلنت قناة الجزيرة في 11 أغسطس أن خمسة من صحافييها قُتلوا في غارة إسرائيلية: المراسلان أنس الشريف ومحمد قريقع، إضافة إلى المصورين إبراهيم زاهر، محمد نوفل ومؤمن عليوة.
مجدي فتحي / نور فوتو / نور فوتو عبر وكالة الأنباء الفرنسية.

كان أنس الشريف يبلغ من العمر 28 عامًا. متزوج وأب لطفلين — طفلة صغيرة تدعى شام، يعرفها كل متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي لحبه الشديد لها، وطفله الأصغر صلاح.

أَنَس مات. كان قد أصبح المراسل الرئيسي لقناة الجزيرة في غزة بعد إجلاء وائل الدحدوح. وقد قُتل على يد الجيش الإسرائيلي يوم الأحد 10 أغسطس/آب 2025 مع أربعة من زملائه — محمد قريقع، ابراهيم ظاهر، مؤمن عليوة، ومحمد نوفل — إضافة إلى صحفي مستقل آخر، هو محمد الخالدي. ذهب جميعهم ضحية قصف إسرائيلي لخيمة للصحفيين بجوار مستشفى الشفاء.

هذه هي المعلومات التي كان يجب أن تتصدر عناوين الصحف والنشرات الإخبارية الفرنسية صباح الإثنين. هذا والتذكير المستمر، الذي من المفروض أن يُفتتح به كل تقرير وكل مقالة: إسرائيل تمنع الصحفيين من جميع أنحاء العالم من دخول غزة، وتقتل زملاءنا هناك الذين يتيحون لنا معرفة ما يحدث. هذا هو المفروض، نظريًّا.

السردية الإسرائيلية في الصدارة

“إسرائيل تصفه بالإرهابي، بينما تقول القناة القطرية بأنه اغتيال.” الكرة على خط الوسط، في “تعادل” تام بين الجهتين. هكذا قُدِّم خبر هذه الجرائم في النشرة الصباحية الأكثر شعبية في فرنسا على إذاعة “فرانس أنتر” (إعلام عمومي). نفس النبرة طغت لدى إذاعة “فرانس أنفو”. وفي نشرة الثامنة مساءً على القناة الفرنسية الثانية، تم فتح المصدح أمام أوليفييه رافوفيتش، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة الفرنسية، لكي يقدم روايته.

هكذا، وبعد عام وعشرة أشهر من بداية حرب الإبادة على غزة، ومع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ملاحق بمذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، ومع وجود دعاوى قضائية ضد جنود إسرائيليين يحملون جنسية مزدوجة في بلدهم الثاني، لا تزال السردية الإسرائيلية تتصدّر الإعلام الفرنسي. أما التضامن المهني الشديد والمعروف عن الصحفيين الفرنسيين، فيبدو أنه يتوقف عند الحدود العربية للشرق الأوسط.كما بات التعداد المأساوي عبثيًا، بل يكاد يبدو غير واقعي: فمنذ شهر أبريل/نيسان ومنظمة “صحفيون بلا حدود” تتحدث عن “أكثر من 200 صحفي قُتلوا”. أسماء كثيرة أُضيفت إلى القائمة منذ ذلك التاريخ.

في ظل الحرب على غزة، انتقلت إسرائيل من سياسة الإنكار إلى الاعتراف بمسؤوليتها في قتل الصحفيين. فقبل وقت ليس ببعيد، عندما كان جيشها يستهدف الصحفيين ويقتلهم، كانت تل أبيب تكتفي برفع يديها عن الموضوع، والتظاهر بعدم فهم الاتهامات الموجهة إليها، قبل أن تعد في آخر المطاف بفتح تحقيق. هذا ما حدث عند اغتيال مراسلة أخرى لقناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها: إذ تقدم الاتهامات الفلسطينية على أنها “هستيرية” و“بلا دليل”، ثم عند انفجار الحقيقة، يتم الإعلان عن فتح تحقيق، يمتد لفترة تكفي حتى ينسى الجميع القضية.

أما في غزة وخاصة منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد أصبحت إسرائيل تتباهى بعمليات الاغتيال. يكفي أن تدعي — كما يحدث كل ما استهدفت المستشفيات والمدارس والجامعات وآلاف الأطفال القتلى — أن هناك علاقة ما بحركة حماس. وكما كتب الصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام عبر حسابه على منصة “إيكس”:

“بعد السابع من أكتوبر، أنشأت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) ما يسمى”خلية الشرعنة“. تتألف الأخيرة من عناصر استعلامات مكلفين بالبحث عن معلومات تمنح”مشروعية“لأفعال الجيش في غزة — كالقول بأن الأمر يتعلق بقذائف لحماس أخطأت هدفها، أو أن هذه الأخيرة استخدمت دروعاً بشرية، أو استغلت مدنيين. كانت المهمة الأساسية لهذه الخلية هي العثور على صحفيين من غزة يمكن تصويرهم في الإعلام على أنهم أعضاء متنكرون. لحركة”حماس“.”

تهديدات الجيش الإسرائيلي

وقد نجحت الخطة. فبعد ساعات قليلة من اغتياله، بدأت صور لأنس الشريف — ومنها “سيلفي” له مع قيادات من حماس، بينهم يحيى السنوار — تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي مجموعة “واتساب” تضم عشرات الصحفيين، أغلبهم فرنسيون، نشر أحدهم الصور قائلاً: هل رأيتم هذه الصور؟ ما رأيكم فيها؟

تم تداول الصور بحياد كامل. لم يؤكد أحد شيئًا، وإنما اكتفى بطرح الأسئلة، في احترام تام لقدسية الموضوعية الصحفية. وكأن كثيرًا من المراسلين والمراسلات في الشرق الأوسط لا يحتفظون بصور لهم مع “ديكتاتور” أو “إرهابي” يفضلون تناسيها. وقبل أشهر فقط، رأينا الصحفية الفرنسية لورانس فيراري مبتسمة بجانب مجرم حرب ملاحق قضائيًا: بنيامين نتنياهو.

كان أنس الشريف يعرف أن الخطر يحدق به. فقبل مقتله، تعرّض للتهديد أكثر من مرة، وتم قصف منزله، كما قُتل والده في ديسمبر/كانون الأول 2023. وفي 24 يوليو/تموز 2025، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، أفيخاي أدرعي، فيديو على وسائل التواصل يتهمه فيه مباشرة بالانتماء إلى كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، استنادًا إلى “وثائق وُجدت في غزة”.

نفى أنس هذه الاتهامات، وطالب زملاءه في جميع أنحاء العالم بنشر رسالته. موقع لجنة حماية الصحفيين دق ناقوس الخطر. كما أكّد أنس أكثر من مرة عدم انتمائه لأي تنظيم سياسي. لكن، وفي ظل حرب إبادة تستهدف مهنته وشعبه، كان عليه أن يثبت “براءته”. بل وحتى هذا لم يشفع له.

لا وجود لأبرياء في غزة

المشكل في تغطية العديد من الصحفيين الفرنسيين لموت أنس الشريف لا يكمن في الرغبة بمعرفة المزيد عنه، بل في الرسالة الضمنية: ربما لم يكن أنس الشريف بريئًا تمامًا. ومن هنا، يصبح مصيره رهنًا بقرار الجيش الإسرائيلي، وبيد من يعتقد أنه لا أبرياء في غزة.

لماذا لا تجد غرف الأخبار حتى الآن حرجًا في تبنّي السردية الإسرائيلية، رغم أن جميع المنظمات الدولية لحقوق الإنسان تصف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية؟ السبب يكمن في فكرة ترسخت في الأذهان عبر “الحرب على الإرهاب”، وهي بدورها امتداد لمنطق استعماري: نحن نحارب “برابرة” ويجب ألا ننسى ذلك أبدًا. فسواء أكنتَ صحفيًا في قناة قطرية، أو التقطت صورة مع قيادي في حماس، أو حصلت على عضوية في الحزب للحصول على وظيفة في إدارة غزة، أو كنت مسؤولًا سياسيًا أو مقاتلًا في كتائب القسام — لا يهم. إن لم تكن روحك طاهرة نقية تمامًا من آفة الإرهاب، فأنت هدف مشروع. وسترى الصحفيين الذين نشأوا على حقوق الإنسان والصواب السياسي، أولئك الذين لا يترددون في التنديد بمقتل صحفي في أوكرانيا دون نقل الدعاية الروسية، ستراهم يجدون طريقة لجعل جريمة القتل هذه مقبولة. وفي المقابل، يظل الإسرائيلي — حتى لو كان مؤيدًا لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وحتى لو هتف “الموت للعرب”، أو منَع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، بل وحتى لو خدم في الجيش أثناء هذه الإبادة — يظل في نظرهم بريئًا دائمًا، ويمكن إعطاؤه الكلمة دون أي حرج.

تقول الصحفية حسينة مشعي: “إسرائيل، وفقًا لهاته الرؤية السياسية الإعلامية الغربية، لا تقتل، حتى لو مات الفلسطينيون. هذا هو التناقض الذي لا يُطاق والذي نعيشه منذ 7 أكتوبر.” هذا المنطق، في الواقع، سابق للسابع من أكتوبر، لكنه منذ ذلك الحين أصبح مُعلنًا وصريحا. فإسرائيل “تدافع عن نفسها”، و“ترد الفعل”، وتستبق أعمالًا “إرهابية”، أو ذات علاقة بجماعات إرهابية، أو يُشك بأنها إرهابية. أما الذين يموتون جراء هذه العمليات، فهم — ربما، أو على الأرجح، أو على نحوٍ مفترض — مذنبون. تمامًا مثل جميع العرب.

أنس الشريف وخمسة صحفيين آخرين قُتلوا عنوة من لدن الجيش الإسرائيلي يوم الأحد 10 أغسطس/ آب 2025. وكل صحفي لا يصف هذا الفعل بالجريمة فهو شريك فيها.

  • أنس الشريف مع ابنته شام وابنه صلاح.