كلمات رثاء

جويس بلو، امرأة من نسيج خاص

توفيت يوم الخميس 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024 الناشطة السياسية والمتخصصة في اللغة والحضارة الكردية، جويس بلو، بعد حياة حافلة بمناهضة الاستعمار والفاشية.

الصورة تظهر امرأة مسنّة تجلس أمام مكتب مغطى ببعض الأوراق والأدوات المكتبية مثل مشبك الورق. يبدو عليها الودّ والسعادة، حيث تبتسم وتضع نظاراتها على ملصق مرتخي حول رقبتها. خلفها، يمكن رؤية جدران مزينة ببعض الصور والإطارات، وكذلك قطعة قماش تحمل اسم "جامعة دبي". أجواء الصورة تعكس بيئة عمل ومتعة في التواصل والذكريات.
باريس، 10 أكتوبر/تشرين الأول 2014. جويس بلاو في مكتبها في المعهد الكردي، شارع لافاييت.
© فريديريك لوبران

كم خدعت من ضباط شرطة وقضاة في مصر، وفي فرنسا، وحتى في الاتحاد السوفييتي بعبارة: “بشرفي!”، مظهرة على وجهها علامات الدهشة؟ كم عدد الأشخاص، من نساء ورجال وأطفال، الذين أسرتهم بذكائها، وثقافتها، وروح دعابتها، إضافة إلى كرمها؟ بدأت جويس بلو مسيرة حياتها في مصر وانتهت في فرنسا، مروراً ببلجيكا وكردستان، حيث كانت التزاماتها متعددة: فقد كانت شيوعية في القاهرة، أممية إلى جانب المناضلين الجزائريين، وداعمة لكل المظلومين الباحثين عن المساعدة، وناشطة سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وناقلة للثقافات. حتى أنها كانت هي من أدخلت دراسة الحضارة واللغة الكردية في الجامعات الفرنسية. حياة جويس بلو تشبه خرائط جغرافية تتجه دائماً نحو الشرق والبحر الأبيض المتوسط، مليئة بالعائلات والأصدقاء المتعددين، وتتخللها لحظات من الضحك والفكاهة الكامنة دائماً خلف المآسي.

وُلدت جويس بلو في 18 مارس/آذار 1932 في القاهرة. أحد أجدادها قدم إلى مصر في القرن التاسع عشر من فالتشي (التي أصبحت فيما بعد جزءاً من رومانيا)، زاول تعليمه بجامعة السوربون قبل انتدابه من النظام الملكي المصري الذي كان تحت الحماية البريطانية آنذاك. أما جدها الآخر، فقد جاء من تونس وكان يعمل مدرساً هو الآخر، وقد جذبته حركة تحديث المدارس التي قام بها الخديوي إسماعيل باشا في القرن التاسع عشر.

رغم تواضع أصول العائلة، حرص والداها على تعليم أطفالهما الثلاثة - ولد وابنتان. انتقلت جويس من مدرسة تديرها الراهبات الفرنسيات إلى مدرسة دينية إنكليزية. وفي الوقت الذي كانت أوروبا تستيقظ فيه من كابوس الحرب العالمية الثانية، عادت جويس إلى حظيرة الناطقين بالفرنسية، فالتحقت بمدرسة “الليسيه” الفرنسية في القاهرة.

تأثرت مصر بأهوال الصراع العالمي، الذي خرج منه الاتحاد السوفييتي منتصراً. وكما حدث في بلدان أخرى، انجذب المعلمون في مصر إلى الماركسية. وكان لأحد مدرسي مدرسة “الليسيه” الفرنسية تأثير كبير على الشابة جويس، مما دفعها وهي في الخامسة عشرة من عمرها للانضمام إلى تنظيم “إيسكرا” (الشعلة) في عام 1947.

لقاؤها مع هنري كورييل وبداية علاقة طويلة

في تلك الفترة، بدأت التنظيمات الشيوعية بالظهور في العاصمة المصرية واحدة تلو الأخرى، وحدثت خلافات بينها حول تفسيراتها ومواقفها السياسية، خاصة بشأن قرار تقسيم فلسطين الذي أقرته الأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947. اختارت جويس الانضمام إلى تيار هلال شوارتز، المناهض للصهيونية، والذي كان منافساً لهنري كورييل، الذي كان هو أيضاً مناهضاً للصهيونية، لكنه كان يؤيد قرار التقسيم.

كان حبيب جويس الأول من المعجبين بكورييل. وروت جويس ضاحكة أنه خلال إجازتهما في باريس عام 1953، قال لها خطيبها: “سأعرّفك على شخص مهم جداً، ولا ينبغي لكِ إخبار أحد عن هذا اللقاء”. كان هذا الشخص هو هنري كورييل. فصرخت جويس قائلة: “ماذا؟ الصهيوني؟” صفعها خطيبها، فردتها عليه، وسقطا أرضاً وهما يتشاجران. حينئذ دخل هنري كورييل الغرفة.

كان هنري كورييل مؤسس حركة التحرير الوطني المصرية، وهي منظمة شيوعية أخرى، وتم نفيه من مصر إلى إيطاليا عام 1950، ومنها انتقل إلى باريس، حيث واصل قيادة حزبه مع مجموعة من المنفيين الآخرين. قال كورييل لخطيب جويس معاتباً: “النعت بالصهيونية لا يبرّر بأي حال من الأحوال ضرب فتاة”. ثم دعا جويس للقاء في اليوم التالي في مقهى بالحي اللاتيني.

كانت جويس تبلغ من العمر 21 عاماً، بينما كان هنري كورييل في الأربعين من عمره. انبهرت جويس منذ لقائها الأول بهذا الرجل الذي كان يرتدي ملابس رثة ويسعل باستمرار. سألها هنري بصوت أجش عن سبب اعتناقها الشيوعية، فأجابت ببساطة: “لأنني لا أحب الحرب”. ثم اصطحبها هنري في نزهة على طول نهر السين حتى وصلا إلى كاتدرائية نوتردام في باريس، وسألها إذا كانت توافق على العودة إلى مصر لتأمين الاتصال بين “الرفاق في الخارج وزملائهم في الداخل”. قبلت جويس المهمة، وكان ذلك بداية علاقة دامت 25 عاماً، جمعت بين الحب والعمل السياسي، حتى اغتيال هنري كورييل.

في يناير/كانون الثاني 1954، ودّعت جويس خطيبها الذي بقي في باريس، وسافرت إلى مرسيليا، ومن هناك استقلت السفينة إلى الإسكندرية. كانت في أمتعتها علبة شوكولاتة تحتوي على منشورات سرية ورسائل أخرى موجهة للرفاق المصريين. كانت تلك أول مهمة يكلفها بها هنري كورييل ورفاقه.

عندما اقتربت السفينة من جزيرة صقلية، تلقت جويس برقية تقول: “تناولي الشوكولاتة”. ولأنها لا تحب الشوكولاتة، تركتها في العلبة ولم تدرك أنه كان عليها إلقاؤها في البحر، إذ كان هناك شك بتسريب خبر قدومها إلى مصر. وظلت بعد ذلك تردد لمدة 30 عاماً: “بشرفي، لم أفهم الرسالة!”

بدأت جويس عملها فور وصولها إلى مصر، حيث أرسلت التقارير تباعاً إلى مجموعة باريس. ولكن سرعان ما تشاجرت مع خطيبها الذي لحق بها إلى مصر، إذ كان يعتقد أنه من الممكن أن يقول لها: “ابتداءً من الآن، عليّ بالتفكير وعليكِ بالتطبيق”. وفي النهاية، ألقت شرطة جمال عبد الناصر القبض عليهما، وحُكم على الشاب بالسجن لمدة ثماني سنوات، بينما أُرسلت جويس إلى سجن القلعة. كانت تلك المرة الأولى التي تُسجن فيها.

الكفاح ضد الاستعمار

حشد أصدقاؤها في باريس جهودهم وأرسلوا محامياً للدفاع عنها. وبالفعل، تمت تبرئتها وطُردت من مصر. بعد ترحيلها من ميناء الإسكندرية ووصولها إلى ميناء مرسيليا، وصلت جويس إلى باريس في نهاية عام 1955. كان في استقبالها لجنة تهدف إلى تحويلها إلى رمز لمعاناة السجناء السياسيين في مصر. وكان هنري كورييل يبحث في المحطة عن فتاة نحيلة بوجه غائر، لكنه اكتشف بدهشة امرأة شابة أنيقة ذات خدود مستديرة حمراء. كان مدير سجن القلعة قد أعجب بجويس وقدم لها العديد من شطائر الموز التي كانت تحبها، مما جعلها تقول: “لقد زاد وزني خمسة عشر كيلوغراماً!”. من الصعب أن نتخيل أن جويس النحيلة جداً بشعرها البني ثم الرمادي، كانت في وقت من الأوقات ممتلئة الوجه.

في باريس، أخبرت جويس هنري كورييل برغبتها في استئناف دراستها بالتوازي مع نشاطها السياسي. كانت تميل لدراسة الكيمياء، لكنه اقترح عليها أن تتعلم العربية والفارسية والكردية. لا أحد يستطيع قول لا لهنري كورييل.

في عام 1955، كانت جويس تبلغ من العمر 23 عاماً. في ذلك الوقت، كانت فرنسا تحاول بشدة الحفاظ على سيطرتها على الهند الصينية، وتواجه في الوقت ذاته تمرداً جديداً في إمبراطوريتها، حيث بدأ الجزائريون، مثل الفيتناميين، بالمطالبة بالاستقلال. وحدثت أزمة السويس عام 1956، التي كانت بمثابة إخفاق آخر لباريس. بالنسبة لهنري كورييل ورفاقه، كانت هذه الأحداث أول فرصة لمناهضة الاستعمار، فوقفوا بحزم إلى جانب عبد الناصر، على الرغم من أن بعض رفاقهم كانوا في السجون المصرية. فقد فهم هؤلاء المناضلون أن الاستعمار، الذي تم تقديمه في القرن التاسع عشر كمساند لتحرر الشعوب، هو في الحقيقة شر مطلق.

أدرك الفرنسيون ذلك أيضاً وبدأوا في التعبئة ضد ما سُمي بـ“الأحداث”، على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، ورفض الفارون من التجنيد القتال في منطقة الأوراس، وإلى جانب أولئك الذين عُرفوا بـ“حاملي الحقائب”1، اتحدوا مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية فيما سيُعرف بـ“شبكة جانسون”، نسبة إلى مؤسسها الفيلسوف فرانسيس جانسون. ولكن بعد عامين، تم اعتقال الأخير وضعفت الشبكة، بينما زادت الأهوال في الجزائر من تعذيب واغتيالات وحرق للكهوف وجرائم حرب أخرى.

عرض هنري كورييل تولي المسؤولية بعد اعتقال جانسون. كانت من المهام الأساسية للشبكة تحويل الأموال التي يتم جمعها في فرنسا من المتعاطفين مع جبهة التحرير الوطني إلى حسابات المناضلين الجزائريين. ولكن كورييل، بصفته ابن مدير مصرف، قام بتغيير النظام، مما جعل الحقائب المليئة بالأوراق النقدية تختفي لصالح التحويلات المصرفية السرية.

كانت جويس من ضمن الذين ساعدوا في تهريب الأموال والوثائق السياسية. حتى أكتوبر/تشرين الأول 1960، عندما تم القبض عليها في مدينة فانف (جنوب باريس) ونُقلت على الفور إلى مقر إدارة الأمن الوطني الفرنسية. لا يزال المحققون يتساءلون عما حدث لهم في ذلك اليوم الذي أرادوا فيه استجواب شابة نحيلة تبلغ من العمر 28 عاماً، كانت آنذاك طالبة لغات شرقية.

في كتابه عن حياة هنري كورييل (“هنري كورييل، رجل من نسيج خاص”)، وصف جيل بيرو مشهداً بارزاً من التحقيقات مع جويس بلو، قائلاً:

جويس بلو ظاهرة تتجاوز وصفها وتفسيرها حدود فن الكتابة. عند وصولها إلى مقر التحقيقات في سوسي (التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية)، قدمت نفسها على أنها معلمة أطفال قادمة من بلدة فانف. كانت ترتجف بشدة، لدرجة أن أحد ضباط الشرطة تعاطف معها وأحضر لها جهاز تدفئة صغير، معتقداً أنها تشعر بالبرد. سألوها: “أين ويليام؟”، وكان “ويليام” الاسم الحركي لهنري كورييل. فبدأت تصيح وتصرخ بأعلى صوتها، ما جعل الضباط الثلاثة يفقدون صبرهم ورباطة جأشهم. صاح أحدهم: “حذار! لا تجعلينا نضربك! سوف نصفعك!”. لكنها لم تتوقف، بل زادت من صراخها وتحولت إلى حالة هستيرية، تنادي والدتها بصوت حادّ جدّاً لساعات طويلة. في الساعة الرابعة صباحاً، نفذ صبر المحققين، فوضعوها في سيارة وأعادوها إلى قسم شرطة فانف.

في اليوم التالي، أُمرت إدارة الأمن الوطني بإصلاح الخطأ الفادح والعودة إلى فانف لاستئناف التحقيق معها. لكن جويس كانت قد تمكنت من الهرب، بعد أن تنكرت في زي امرأة برجوازية عجوز. عبرت الحدود الألمانية ووصلت إلى بلجيكا، حيث وجدت أختها الصغيرة. وفي الوقت نفسه، تم القبض على هنري كورييل في باريس، وإرساله إلى سجن فران. شعرت جويس باليأس، متأكدة من أن هنري سيتعرض للتعذيب هناك.

ولإنقاذه من هذا المصير الرهيب، شرعت من غرفتها في بروكسل في دراسة صور جوية للسجن الفرنسي، واستفسرت عن شروط تعلم قيادة طائرة هليكوبتر واستئجار. لكنها لم تستطع المضي قدماً في خطتها. فبعد أن تم إعلامه بما تنوي جويس فعله، قام هنري كورييل بثنيها عن تطبيق مخططها، ليس بسبب خطورة العملية، فهو يعلم أن الحجة عديمة الفائدة، بل أخبرها بأنه يشعر بنفسه وكأنه في البيت وليس في السجن، حيث يعطي دروسًا في الماركسية وينظم التضامن مع المعتقلين الجزائريين. هكذا فشلت خطة الهروب. كم كنا نود أن نرى صورة جويس وهي تحط في ساحة سجن فران.

لم تستسلم للكآبة، بل التحقت جويس بجامعة بروكسل كباحثة، وأتقنت دراستها للغة والحضارة الكردية. قدمت بحثاً مهماً عن القضية الكردية، جمع بين التحليل الاجتماعي والتاريخي، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في حياتها مليئة بالبحث الأكاديمي والنضال الثقافي.

من الجانب الكردستاني

عادت جويس بلو إلى فرنسا في عام 1966 وقدمت أطروحتها بعنوان “اللهجة الكردية للعمادية وجبل سنجار” تحت إشراف الأستاذ جيلبار لازارد. ونشرت بعدها عشرات المقالات حول المسألة الكردية. وفي عام 1970، وبعد تقاعد أستاذها كامران علي بدير خان، تولت جويس منصب تدريس في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (“إينالكو” اليوم)، وأصبحت تشغل كرسي اللغة والحضارة الكردية.

كان الطلاب يشعرون بسعادة في حضور محاضراتها، حتى أولئك الذين التحقوا بها دون أي معرفة مسبقة بالثقافة الكردية. وفي بداية الثمانينيات، كان طلاب القسم الكردي ينقسمون إلى ثلاث فئات: ثلث من الشباب من الشتات الكردي، وثلث من الطلبة الفرنسيين الضائعين، وثلث من الأشخاص الذين يرتدون ملابس رسمية، والذين كانوا من الوارد جدًّ ينتمون إلى أجهزة استخباراتية. لكنهم لم يكونوا يحضرون لمراقبتها، كما كان يمكن أن نخشاه. بل كانوا يتابعون محاضراتها بشغف، ويدونون الملاحظات بشكل محموم، ويكافحون لطرح الأسئلة عليها. كانت جويس تقول وهي تضحك: “نِعم الطلبة!”

سافرت جويس حول العالم لحضور المؤتمرات، وذات مرة كانت في طريقها إلى موسكو. في تلك الفترة، كان الاتحاد السوفييتي في عهد ليونيد بريجنيف يحتضن أكبر عدد من علماء الأكراد. كان هنري كورييل فخوراً وسعيداً بهذه الرحلة إلى بلد الشيوعية، وطلب منها معروفاً: أن تلتقي بأحد أقاربه الذي استضافته عائلته في القاهرة من عام 1936 إلى عام 1939، وهو الآن يقيم في موسكو.

في ذلك الزمن، كان هنري كورييل يميل أكثر إلى السهر في النوادي الليلية من الحفاظ على العلاقات الأسرية، ولم يهتم كثيراً بقريبه المراهق. مرّت السنوات، وأصبح جورج بيهار الشاب معروفاً باسم جورج بليك، أحد أشهر العملاء المزدوجين في الحرب الباردة، والذي هرب في عام 1966 بطريقة مدهشة من أحد أكثر السجون الإنكليزية حراسة، بعدما حُكم عليه بالسجن لمدة 42 عاماً. شعر هنري بالفخر والسعادة تجاه قريبه الذي أصبح أسطورة في عالم التجسس.

عندما وصلت جويس بلو إلى موسكو، طلبت ممن كانوا في استقبالها في مطار شيريميتيفو لقاء جورج بليك. ولكن بمجرد ذكر اسمه، تم نقلها إلى أقرب مركز شرطة، حيث استجوبها عملاء المخابرات الروسية بشدة، فناورت قائلة: “بشرفي، لم أكن أعلم أن ذلك سيسبب مشكلة!” في النهاية، لم يتمكن المحققون من الوصول إلى شيء واستسلموا، فنقلوها إلى مؤتمر علم الأكراد في جامعة لومونوسوف، وعبرت بها السيارة موسكو على وقع صفارات الإنذار والأضواء الساطعة.

دورها في دعم النضال السياسي

إلى جانب مسيرتها الأكاديمية، كانت جويس داعمة قوية لنضال هنري كورييل في منظمة “تضامن” (Solidarité)، ومجموعة روما (تنظيم كان يجمع الرفاق المصريين)، وساعدت أيضاً في دعم “حاملي الحقائب” التابعين لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان يقوده نيلسون مانديلا، وكانوا من البيض المناهضين للأبارتايد، فضلاً عن الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في التفاوض نحو السلام. فقد لعبت جويس دوراً حاسماً لتنظيم الاجتماعات بين الجنرال الإسرائيلي ماتيتياهو بيليد، “بطل” حرب يونيو/حزيران 1967، والدكتور عصام السرطاوي، العضو البارز في منظمة التحرير الفلسطينية والمقرب من ياسر عرفات.

في 4 مايو/أيار 1978، تم اغتيال هنري كورييل على يد مرتزقة، كانوا أعضاء سابقين في منظمة الجيش السري (المناهضة لاستقلال الجزائر)، وقد عُرفوا بأنهم المنفذون للأعمال القذرة لصالح الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان. رغم حزنها العميق، نهضت جويس بلو من محنتها ووضعت نفسها في خدمة الفنانين ماريا أمارال وجان فيليب إلانكوفسكي، الذين تسلموا قيادة منظمة “تضامن” بعد كورييل. وعلى مدار 50 عاماً تقريباً، ساندت جويس عائلة كورييل في نضالهم لإعادة فتح التحقيق في قضية مقتله، والذي لا يزال مفتوحاً حتى يومنا هذا.

لم يكن لديها أطفال، لكنها كانت بمثابة الأم والجدة لكل من طلب منها ذلك. عاشت حياتها كامرأة محبة بحرية كاملة، في شكل من أشكال “الزواج الأحادي المتتالي”، وهو مفهوم أطلقته الكاتبة الثورية ألكسندرا كولونتاي. برفقة رفيقها الأخير روبي غرونسبان، كانت تطل من شرفة شقتهما على محطتي قطار الشرق والشمال في باريس، وظلت تتردد على المعهد الكردي في شارع لافاييت بانتظام. قبل ثلاثة أسابيع من وفاتها، منعها المرض من الذهاب إلى عملها، الذي كانت تلتزم به يومياً رغم عمرها البالغ 92 عاماً. كان مكتبها الصغير يقع فوق درج حاد في الطابق الثاني من المعهد الكردي.

وفاة جويس وتكريمها العالمي

عندما أُعلن عن وفاتها، تدفقت موجات من التكريم على وسائل التواصل الاجتماعي من الأكراد من جميع أنحاء العالم، سيما من كردستان العراق، حيث أشاد بها الرئيس نيجيرفان بارزاني قائلاً:

كانت جويس بلو صديقة للأكراد، كاتبة وخبيرة في اللغة والأدب الكردي. لقد أمضت حياتها في دعم الشعب الكردي وخدمة لغته وثقافته. بفضل أفعالها وصداقتها الدائمة، ستبقى في قلوبنا إلى الأبد. لروحها السلام ودامت ذكراها.

هناك مكتبة تحمل اسمها في المعهد الفرنسي للشرق الأوسط في أربيل، كردستان العراق.

في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دخلت سارة، أختها الصغيرة، إلى المستشفى في بروكسل، وتوفيت في نفس اليوم الذي توفيت فيه أختها الكبرى. وفي يوم الخميس 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024، غادرت جويس بلو بهدوء، محاطة بأحفادها المحبوبين ليونيل وإلسا وكليمان جريش، بعد أن سحرت كل من عرفها.. “بشرفي!”

1أي الفرنسيين الذين كانوا يحملون حقائب لنقل وثائق أو أموال جبهة التحرير الوطنية.