فلسطين ـ كولومبيا. غوستافو بيترو يتحدّى واشنطن وتل أبيب
خلال مسيرة تضامنية مع غزة في نيويورك، تلقى الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو إخطاراً بإلغاء تأشيرته إلى الولايات المتحدة. كما يدين بانتظام الإعدامات خارج نطاق القانون التي تنفذها واشنطن في فنزويلا بذريعة مكافحة المخدرات، ما يجعله يواجه تهديدات بفرض عقوبات اقتصادية، ولكن لا يثنيه على مواصلة مساره في إطار نضاله المناهض للإمبريالية.
“غوستافو بيترو زعيم تجارة المخدّرات ويشجّع على إنتاجِها في كولومبيا كلّها”. هذا ما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول عبر منصّته “تروث سوشيال”. وقبل ذلك بشهر، وصف ترامب الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو كذلك بـ“تاجرِ المخدّرات”، لتبرير نشر السفن الأمريكية في منطقة البحرِ الكاريبي. ومنذ الثاني من سبتمبر/أيلول، نُفّذت عشرة ضربات عسكرية استهدفت قوارب قبالة السواحل الفنزويلية والكولومبية، من دون أيّ دليل أو تفويض، ما أسفر عن مقتل أكثر من أربعين شخصاً تقريباً. وفي الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن أنّه سمح لوكالة الاستخبارات المركزية بتنفيذ عمليات داخل الأراضي الفنزويلية.
تُظهِر هذه التطوّرات تصاعُد التوتّر بين واشنطن والحكومات اليسارية في أمريكيا الجنوبية. ويبدو أنّ حكومة غوستافو بيترو، الذي يُعدّ رمزاً للنضال ضدّ الإمبريالية والمنتقِد للتدخّلات الأمريكية في المنطقة، أصبحت اليوم في دائرة الاستهداف. في نفس الوقت، يُعرَف بيترو لكونه من أبرز المناهضين للحرب التي تشنّها إسرائيل على غزّة بدعم من الولايات المتحدة. وقد عبّر عن مواقفه هذه حتى داخل الأراضي الأمريكية: ففي 26 سبتمبر/أيلول، شارك الرئيس الكولومبي في مسيرة مؤيّدة لغزّة في شوارع مانهاتن بنيويورك. هناك، مسك بمكبّرِ صوت وحيّا الحاضرين بالعربية، قبل أن يُلقي كلمة مؤيّدة لفلسطين بلغة حادة، بل وقال إنّه سيحمل السلاح بنفسه إذا اقتضى تحرير فلسطين ذلك. ثمّ توجّه إلى الجنود الأمريكيين داعياً إياهم إلى عدم إطاعة “أوامر ترامب، وإطاعة أوامر الإنسانيّة”.
“لا أحتاج إلى تأشيرة أمريكية”
نددت المعارضة الكولومبية بما وصفته تصرّفا لا يليق برئيس دولة. وبعد ساعات من المظاهرة، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية إلغاء تأشيرة دخول بيترو إلى الولايات المتحدة. ردّ الأخير على منصّة “إكس”: “قلت — وهذه ليست جريمة – بأنه لا ينبغي الانصياع للأصوات التي تأمر الجيوش بإطلاق النار ضد الإنسانية”، مضيفاً أنه لا يحتاج إلى تأشيرة أميركية.
بعيداً عن الحركات الاستعراضية، يتّخذ غوستافو بيترو قرارات سياسية تبرهن عن التزام حقيقي. ففي أعقاب نظيرِه البرازيلي لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا، كان بيترو من أول الأشخاص الذين اتّهموا إسرائيل بارتكاب إبادة بحقّ الفلسطينيين، في بيان صدر في 20 فبراير/شباط 2024. كما انضمّ إلى الشكوى التي قدّمتها جنوب إفريقيا أمام المحكمة الجنائية الدولية، مكرِّسا في الأوّل من مايو/أيّار 2024 قطع العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وإسرائيل. كما جمّد تصدير الفحم إليها، وشارك في تأسيسِ “مجموعة لاهاي”، التي تضمّ دولاً من الجنوب العالمي، وتلتزم بـ“إجراءات قضائية ودبلوماسية منسّقة” لفرض احترام القانون الدولي في فلسطين. ناهيك عن استضافة كولومبيا لأحد اجتماعات هذه المجموعة في بوغوتا في يوليو/تموز 2025.
وفي الأوّل من أكتوبر/تشرين الأول 2025، وبعد إيقاف إسرائيل لأسطول “الصمود” الذي كان يتوجّه نحو غزّة، وكانت على متنه ناشطتان كولومبيتان، أعلن غُوستافو بيترو عبر منصّة “إكس” طرد الوفد الدبلوماسي الإسرائيلي فوراً من كولومبيا.
أثارت الخطوة سخط اليمينِ الكولومبي، فيما رحّب بها اليسار. وقبلها بأسبوع، وخلال الاجتماع الأخيرِ للجمعية العامة للأمم المتحدة، كان خطاب الرئيس الكولومبي من أبرز المداخلات التي لفتت الأنظار بشأن الإبادة في غزّة، ومن أكثرِها تداولا، لا سيما في العالم العربيّ. فبعد أن أبرز فشل الدبلوماسية في وقف الجرائم الإسرائيلية في فلسطين، اختار بيترو طريق الكفاح المسلّح، مقترحا تأسيس قوّة من المتطوّعين تحت رعاية الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا تحت إشراف مجلس الأمن الذي يهيمنُ عليه أعضاؤه الدائمون الخمسة. وأكّد بيترو أنّ هذه القوّة لا ينبغي أن تكون “قوة حفظ سلام”، بل “جيشاً قويّا من أشخاص يرفضون الإبادة”، داعياً الأمم المتحدة إلى التخلّي عن حيادها المُعلن، واعتماد العمل الملموس.
بالنسبة إلى جزء من اليسار، في كولومبيا كما في الخارج، يجسّد غوستافو بيترو، وهو أوّل رئيس يساري في تاريخ البلاد، زعيما للجنوب العالمي ملتزما بالعدالة والدفاع عن الشعوب المضطهدة. هكذا، وقبل عشرة أشهر من نهاية ولايته، يثير موقف غوستافو بيترو، بوصفه زعيما للجنوب العالمي ملتزما بالعدالة والدفاع عن الشعوب المقهورة، انقساما. خصومه، مثل الصحفية والسياسية المحافظة فيكي دافيلا، المرشّحة للانتخابات الرئاسية عام 2026، ينتقدونه بالقول إنّه “يُبدي اهتماما أكبر بما يجري في الشرق الأوسط مما يجري في كولومبيا”. وفي سعيهم لاستعادة السلطة، يتّهمه أعضاء اليمين واليمينِ المتطرّف بعزل البلاد عن حلفائها التاريخيين، أي الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن بين هؤلاء ماريا فرنندا كابال، العضوُ في حزب “المركز الديمقراطي”، وهو حزب وطنيّ محافظ. وقد بلغت في انتقادها حدّ وصفه بالخيانة، إذ كتبت على منصّة “إكس” في الثاني من أكتوبر، بعد طرد الوفد الدبلوماسي الإسرائيلي: “قطع العلاقات لأسباب إيديولوجيّة لا من أجل مصلحة الدولة، يُعدّ عمل خيانة تجاه الوطن.”
متحّدون في النضال ضد الإمبريالية
في شبابه، ناضل غستافو بيترو في صفوف حركة 19 أبريل (إم-19)، التي تأسّست عام 1974، ويشير اسمها إلى عمليّة التزويرِ التي حرمت المرشّح اليساري غوستافو روخاس بينيّا من الفوز في الانتخابات الرئاسيّة في 19 أبريل/نيسان 1970، لصالح منافسه من “الجبهة الوطنيّة”، وهي تحالف بين الحزب المحافظ والحزب الليبراليّ. وقد ندّد أعضاء تلك الحركة المتمرّدة بإغلاق المجال السياسيّ أمام المعارضة، واختاروا الكفاح المسلّح سعيا إلى إرساء “ديمقراطيّة حقيقيّة” في البلاد وبناء “وطن حرّ”.
دائما ما وقفت حركة “إم-19” إلى جانب الشعوب العربيّة والإفريقيّة في نضالها من أجل التحرّر الوطنيّ خلال سبعينيات القرن الماضي، وكانت تعتبر أن كفاحها يندرج ضمن نفس الرفض القاطع للإمبرياليّة الأمريكيّة وللاستعمارِ الداخليّ في كولومبيا. وأعلنت أنّ هدفها هو محاربة النظام القائم على اللاعدالة والظلم ونزع الأراضي، من أجل استعادة حقوق الأغلبيّات، وبناء دولة اجتماعيّة وديمقراطيّة. كما أقامت علاقات تعاون مع منظّمة التحريرِ الفلسطينيّة، وجبهة البوليساريو الصحراويّة، وحزب المؤتمر الوطنيّ الإفريقيّ الذي كان يتزعّمه نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا.
عندما يُسأل عن سبب اهتمامه بفلسطين، يُسلّط الرئيس الكولومبي الضوء على “الظلم الكبير الذي يعيشه الشعب الفلسطينيّ منذ عام 1948”. وانسجاماً مع هذا التوجّه، تشير المؤرّخة الكولومبيّة لينا بريتو، أستاذة التاريخ في جامعة نورثوسترن في شيكاغو، إلى أنّ “فلسطين ونضال الشعب الفلسطيني يندرجان، في نظرِ بيترو، ضمن استمراريّة تلك النضالات الكبرى التي يراها غير مكتملة بعد، والتي ما زال يشعر بالانتماء إليها”. وتضيف أنّ “بيترو لم ينفصل قط عن هذا الإرث، بل يسعى اليوم إلى إحيائه، في خطابه العلنيّ كما في ممارساته السياسية”.
“القريب الإسرائيلي”
بصفته عضوا سابقا في حركة يساريّة مسلّحة، كان غوستافو بيترو شاهداً مباشراً على الدور الذي لعبته إسرائيل في “الحرب القذرة” التي شنّتها الحكومات الكولومبيّة ضدّ الحركات اليساريّة، وفي دعمها للمنظّمات شبه العسكريّة اليمينيّة المتطرّفة.
تذكّر المؤرّخة الكولومبيّة لينا بريتو بأن إسرائيل كانت “بشكل غيرِ مباشر، وفي الخفاء، وأحيانا بطريقة مباشرة تماما، طرفاً منخرطاً في النزاعِ المسلّح الداخليّ في كولومبيا” ـ وهو النزاع الذي استمرّ خمسين عاما، من منتصف ستينيات القرن الماضي حتى توقيع اتفاق وقف إطلاق النارِ النهائي عام 2016 بين القوات المسلّحة الثورية الكولومبية “فارك” والحكومة ـ وقد تورّطت فيه جماعات متمرّدة ماركسيّة، وتنظيمات شبه عسكريّة مضادّة للتمرّد، إلى جانب القوات المسلّحة الرسميّة. وتوضح قائلة: “إسرائيل وكولومبيا ربطتهما علاقة وجيزة، وإن كانت غير ظاهرة للعيان، لأنها نشأت عبر قنوات تقنية ومؤسسية غالبا ما تعمل في صمت بعيدا عن الأضواء، ولذلك لا يدرك كثيرون حقيقتها”. وتضيف: “في الواقع، كانت العلاقة ثلاثية بين الولايات المتحدة وإسرائيل وكولومبيا. فحينا كانت الروابط مباشرة بين بوغوتا وتل أبيب، وحينا آخر تمرّ عبر واشنطن”.
ورغم أنّ العلاقات بين إسرائيل وكولومبيا تعزّزت في مطلع الثمانينيات، في سياق حرب لبنان، فإنّ جذورها تعود إلى ما قبل ذلك بكثير في أمريكيا اللاتينية. فبعد الحرب التي خاضتها إسرائيل ضدّ مصر والأردن وسوريا عام 1967، أقامت عدد من الأنظمة العسكرية في أمريكيا اللاتينية، ولا سيما في الأرجنتين وهندوراس وغواتيمالا، تحالفات سياسية وإيديولوجيّة واقتصادية وثيقة مع إسرائيل.
إسرائيل، الشريك التقني في الحرب على التمرد
وفي مطلع الثمانينيات، ومع الضغوط الداخلية والدولية، شرعت ديكتاتوريات أمريكيا الجنوبية في انتقالات ديمقراطية تدريجية، بينما انخرطت الأنظمة العسكرية في أمريكيا الوسطى في مسارات سلام. آنذاك، برزت كولومبيا مجدّداً كحليف لإسرائيل، التي كانت تبحث عن توسيع نفوذها في المنطقة. في الوقت نفسه، كانت كولومبيا تشهد صعود شبكات الاتجار بالمخدرات، بدءا بالقنب الهندي ثم الكوكايين، ومعها نشأت قوى مالية جديدة سعت إلى تعزيز أجهزتها الأمنية لمواجهة ما تعتبره تهديدا: حركات التمرّد اليسارية، والحركات الاجتماعية المناهضة لها.
بفضل خبرتها المباشرة كقوّة احتلال استعماريّة، أصبحت إسرائيل حليفا استراتيجيّا ومصدرا للخبرة والتكنولوجيا والسلاح. غير أنّ دورها تجاوز ذلك بكثير، إذ أسهمت في بناء الهياكل شبه العسكريّة لمكافحة التمرّد. وتجسّد شخصيّات مثل يائير كلاين، الضابط السابق في الجيش الإسرائيلي، ورافائيل إيتان (1926–2019)، العميل السابق في جهازِ الموساد، هذا النمط من التعاون. الأوّل، من خلال شركته العسكريّة الخاصّة “هود هاهانيت” (بالعبريّة، أي “رأس الحربة”)، درّب خصوصا الأخوين كارلوس وفيديل كاستانيو، مؤسّسا قوّات الدفاع الذاتي المتّحدة في كولومبيا، وهي من أكثرِ التنظيمات شبه العسكريّة دموية في البلاد. أمّا الثاني فكان مستشارا للرئيس فيرخيليو باركو فارغاس (1986–1990)، وقد وضع له خطّة ترمي إلى القضاء على الاتّحاد الوطنيّ، وهو حزب أنشئ عام 1985 وضمّ مقاتلين سابقين من حركة “فارك”، ومناضلين من الحزب الشيوعي وأعضاء من المجتمع المدني. وبحسب تحقيق أجرته المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان عام 2021، فقد جرى اغتيال أو اختفاء نحو ستة آلاف ناشط من أعضاء هذا الحزب.
لكن، كما تؤكد لينا بريتو، “تتجاوز هذه القصة مجرد ذكر أسماء أو حوادث معزولة، فهي تكشف عن توافق إيديولوجي بين بعض التيارات اليمينية في كولومبيا ونظيراتها في إسرائيل، التقت مصالحها خلال الثمانينيات وتوطدت عبر روابط تعاون ودعم متبادل”. ومنذ ذلك الحين، ظلت إسرائيل شريكا محوريا لكولومبيا. ففي مطلع الألفية، خلال رئاسة ألبارو أوريبي، تعزّز هذا التحالف أكثر في إطار سياسة “الأمن الديمقراطي”، لتصبح كولومبيا أحد أبرز زبائن الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
وبالنسبة إلى لينا بريتو، فإنّ بيترو، حين يتحدث عن إسرائيل، لا يرى فيها طرفا بعيدا، بل شريكا قديما — ويكاد يكون “قريبا” — تربطه ببلاده علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية متجذّرة منذ عقود.
في هذا الإطار، يبدو طبيعيا أن ينحاز غوستافو بيترو، انسجاما مع تاريخه وأيديولوجيّته، إلى جانب فلسطين، وأن يدافع عن سيادة كولومبيا التي يسعى جارها الشمالي علنا إلى زعزعة استقرارها. وهو موقف يعيد إلى الأذهان أشدّ فترات التدخّل الأمريكيّ في شؤون المنطقة الداخليّة، حين كان الهدف دعم حكومات خاضعة تتماشى مع مصالح واشنطن.
أما اليمين الكولومبي، فما زال وفيّا لتحالفه مع الولايات المتحدة وإسرائيل، بينما ستكون الانتخابات المقرّرة في مايو/أيار 2026 حاسمة.

