فرنسا وإسرائيل. أي لوبي صهيوني؟ (6)

مباراة مغشوشة على الحلبة الإعلامية

تحقيق · أثبتت الهجمات المتواصلة بلا هوادة على غزة مرة أخرى ما يحتاجه الصحفيون الفرنسيون من عزيمة فولاذية لتغطية الأخبار في فلسطين وإسرائيل، بين مضايقات تقوم بها حفنة متهيجة من المؤيدين لإسرائيل، وتردد هيئات التحرير. هذا ما آل إليه الوضع بعد الحملة العنيفة ضد الصحفي الفرنسي شارل أندرلان لبثه صور مقتل الطفل محمد الدرة في تقرير تلفزي.

بعد أن أسفرت اعتداءات اليمين المتطرف الإسرائيلي في القدس الشرقية على عودة المواجهات بين الجيش الإسرائيلي وحماس، تتبين لنا مرة أخرى أهمية وجود رؤية مستقلة في عين المكان، وهو عادة دور مراسلي وكالات الأنباء والصحف. برقياتهم ومقالاتهم تفضح التصريحات الكاذبة لحكومة بنيامين نتانياهو التي يُعاد نشرها على صعيد واسع ودون تنسيب -خاصة من قبل جزء من الإعلام السمعي البصري الفرنسي- من قبل أنصار إسرائيل الذين يشكلون لوبي سياسي وإعلامي واسع تطرقنا إليه خلال هذا التحقيق. وتبدو المعركة غير متساوية أمام شراسة هذه الدعاية. لكنها لم تُحسم بعد.

ثلاثة صحفيين من ثلاث هيئات تحرير عملوا على تغطية الأوضاع في إسرائيل وفلسطين في ثلاث فترات مختلفة، والذين طالبوا بالاحترام الصارم لعدم الكشف عن هوياتهم، يتحدثون عن المكالمات الهاتفية غير اللائقة، والتهديدات المبطنة بالكاد وعن اللعبة المزدوجة لرئاسات تحريرهم.

عمل الأول -لنسمّه إيتيان-، كمراسل في القدس ليومية وطنية، والثاني، مارك، مع وسيلة إعلامية سمعية بصرية، بينما كان الثالث، فيليب، مبعوثا خاصا منتظما لأسبوعية. مثل معظم المبعوثين الخاصين والمراسلين في إسرائيل، يثني هؤلاء على جودة العمل في هذا البلد: الصحافة هناك متعددة، ومصادر المعلومات كثيرة ومفتوحة، والمواضيع متنوعة.

وحدها المعلومات المتعلقة بـ“الأمن القومي” تخضع للجنة الرقابة العسكرية، ويُمنع نشرها في بعض الأحيان. ويتعلق الأمر بشكل أساسي بهدف منع التعرف على هوية الجنود في وسائل الإعلام السمعية البصرية. ولكن هذا يخص أساسا الصحافة الإسرائيلية التي غالبا ما تكون عنيدة ولا تزال كذلك على الرغم من المناورات الكبيرة لبنيامين نتنياهو وأصدقائه من مليارديرات وسائل الإعلام لتطويعها.

نشر العديد من مراسلي جرائد “لوموند” و“ليبيراسيون” الفرنسية أو هيئات تحرير أخرى عند عودتهم من إسرائيل كتبا غالبا ما تكون رائعة بقدر ما تنتقد في كثير من الأحيان المجتمع الإسرائيلي1. لا يكمن المشكل إذا في إسرائيل. يقول روني باكمان2، الذي عمل لمدة طويلة في مجلة “نوفيل أوبسرفاتور” وهو اليوم يعمل في موقع “ميديابارت”: “نحن نعمل هناك بشكل جيد، فالناس معتادون على الصحافة ويمكن الذهاب إلى كل مكان، كل شيء مفتوح. نحن نتعرض للمضايقات في فرنسا”. ولكي نكون أكثر دقة: تتم مضايقة الصحفيين والتعتيم على المثقفين المنتقدين للسياسة الإسرائيلية.

لنترك هؤلاء الصحفيين الثلاثة يتكلمون بشكل أوسع.

إيتيان، مراسل سابق ليومية.

كانت المفاجأة الأولى عندما أقمت بالقدس، وتمثلت في مجيء أحد رؤساء تحرير الجريدة لزيارتي وقدم لي أحد “الأصدقاء” القدامى من الموساد. ربطني هذا الأخير بعميل أصغر في الاستخبارات الإسرائيلية يطلق على نفسه اسم بول، وهو أحد الضباط المسؤولين عن الصحافة الأجنبية. قدم لي بول بانتظام وثائق في مجلدات بلاستيكية لا أستعملها، لأنه لا يمكنني التأكد منها من مصدر ثانٍ أو لأن المعلومات التي تتضمنها غير مهمة. غير أنني أجد هذه المعلومات منشورة في الجريدة لعدة مرات بإمضاء نفس رئيس التحرير الذي أتى لإسرائيل دون إخطاري. وقد ذهب حتى لإجراء مقابلة صحفية مع الوزير الأول دون أن يشاركني فيها، على عكس العرف الذي ينص على أن يكون المراسل في البلد حاضرا خلال المقابلة. وقد تم إخطاري بمكالمة هاتفية من رئيس التحرير: “إنه يريد رؤيتي أنا فقط”... ثم مرر لي ضابط الموساد المسؤول عن الصحفيين الأجانب الذي قال لي بدوره: “أنا آسف، هذا صحيح.. إلخ”. والسبب وجيه: كانت افتتاحياته تعكس الموقف الإسرائيلي في ذلك الوقت.

بعد أشهر قليلة من ذلك، تلقيت طلبية غير عادية من قسم المجتمع بالجريدة: مقال حول اليهود الفرنسيين الذين هاجروا إلى إسرائيل بسبب تنامي معاداة السامية بفرنسا. أظهر لي استطلاع سريع بأن الأمور مختلفة تماما. فعدد المهاجرين القادمين من فرنسا لم يزد في ذلك الوقت، وكل من قابلتهم قالوا لي أنهم لم يقوموا بـ“العلية” (“العودة” إلى إسرائيل) خوفا، بل بوازع صهيوني وأن على كل حال “البلد الذي يتعرض فيه اليهود للخطر هو هذا”.

زودني مصدر بالوكالة اليهودية بإحصائيات حديثة تظهر البعد النضالي جدا للمهاجرين، فأكثر من 90% منهم ذهبوا في فرنسا إلى مدارس أو هيئات يهودية. وتؤكد أغلبية كبيرة منهم بأنهم أتوا لأسباب إيديولوجية. لكن هذا لم يرض الصحفية من قسم المجتمع المكلفة بإدارة مقالي، ولم أكن أعرف بأنها مقربة من اليمين الإسرائيلي. وفي اليوم الموالي وجدت مقالي في الجريدة مبتورا ومنقوصا من الأرقام المزعجة. نفس الصحفية كتبت مقالا مجاملا عن “الجالية اليهودية الفرنسية الغاضبة من الصحافة”. إذ لأنني كنت أذهب بانتظام إلى الضفة الغربية وغزة وأعطي الكلمة للفلسطينيين، احتج المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا –“الكريف”- بالقرب من إدارة جريدتي. الصدى الوحيد الذي وصلني عن ذلك جاءني من رئيس “الكريف” نفسه. ففي نهاية مؤتمر كان يشارك فيه في القدس، سحبني جانبا وسألني: “هل اتصل بك مديرك؟” سألته بأي صفة يمكن أن تهمه اتصالات خاصة بالجريدة، وأجبته: “لا يتصل بي مديري أبدا، فهو يثق بي تماما” ثم تركته مكانه. عرفت محتوى القصة في وقت لاحق بعد مروري بباريس. التقيت مدير التحرير الذي شرح لي: “لقد دعيت إلى رحلة إلى إسرائيل من قبل”الكريف“، وذهبت إلى هناك من أجل أن أنعم بسلام. لم أرغب في محادثتك بشأنها حتى لا أزعجك أو أؤثر عليك، وبالطبع لم أكتب أي شيء”.

عندما تم استبدال هذا المدير بمناسبة تغيير مساهم في الجريدة، كنت قد عدت إلى باريس. وتباهى خليفته في كل مكان بأنه جعل من اليومية “جريدة مؤيدة لإسرائيل”.

مارك، مراسل وسيلة إعلامية سمعية بصرية.

“تسعى إسرائيل منذ زمن طويل إلى تطبيع صورتها دوليا، ولكن المشكل لا يكمن في نتنياهو بقدر ما يكمن في داعميه بفرنسا. عندما نقوم بتحقيق في الضفة الغربية، يهيج هؤلاء على مستوى الشبكات الاجتماعية وعلى صفحات مواقعهم ويتهموننا بمعاداة السامية وبترويج أخبار كاذبة. إنه هذيان كامل. المشكل بالنسبة لنا في المجال السمعي البصري أنه خلافا للصحافة المكتوبة -التي ليست لها رقابة خارجية- يتم تتبعنا من طرف مجلس السمعي البصري الأعلى، وأعضاؤه لا يعرفون شيئا ولا يدركون حتى كيف نعمل، ولكنهم يعتبرون بأنه علينا”ضمان معالجة متوازنة للنزاع“ويمكنهم أن يوجهوا إلينا”تحذيرات“3. إنه تهديد دائم معلّق فوق رؤوسنا.

هكذا تم توجيه الاتهام لـ “راديو فرانس” في يوليو/تموز 2020 من قبل مجلس السمعي البصري الأعلى بخصوص تقرير لإذاعة “فرانس أنتير” حول تدمير الجيش الإسرائيلي لعيادة متنقلة لمكافحة كوفيد-19 في الأراضي المحتلة. لقد كذّبت تنسيقية الأنشطة الحكومية في الأراضي المحتلة -وهي فرع للجيش مكلف بالسلطة في المناطق المحتلة- التقرير المبني على مصادر للإذاعة. ولكن كثيرا ما تقول هذه التنسيقية هراء حيث أن جيش الاحتلال ليس موجودا هنا من أجل الشفافية. وقد تم اللجوء إلى مجلس السمعي البصري الأعلى من طرف النائب ميار حبيب الذي يعتبر أن إذاعة “فرانس أنتير” هي وكر للـ“هبستر” الإسلامويين-اليساريين. بالطبع، من شأن هذا أن يخلق مناخا معينا ولكن لا ينبغي تضخيمه أيضا. غير أن ذلك يجعلني حذرا، وعليَّ أن أفكر مرتين قبل أن أقترح موضوعا ما. فأنا لا أريد التعرض إلى مضايقات باستمرار، كما أن رئاسة تحريري لا تريد تلقي توبيخات من مجلس السمعي البصري الأعلى.

فيليب، مراسل خاص لمجلة.

زرت إسرائيل وفلسطين كثيرا على الرغم من أن ذلك لم يكن جوهر عملي. ذهبت إلى هناك لأول مرة من عشرين سنة، ضمن رحلة استكشافية نظمتها اللجنة اليهودية الأمريكية بباريس. في الجريدة التي كنت أعمل بها، لم أكن الأول ولا الأخير الذي يقوم بهذا النوع من الرحلات. كان ذلك منظما ومدفوع النفقات بالكامل. تدعو اللجنة اليهودية الأمريكية عادة عديد الزملاء وليس فقط المراسلين للأقسام الدولية. فهناك كُتاب أعمدة ورؤساء تحرير وصحافيو أقسام. في المجموعة التي ذهبت من ضمنها، كان هناك صحفي متخصص في مسائل النقل، وزميلة تغطي قضايا الاستهلاك والحياة اليومية في قسم تحرير تلفزيوني. كانت الأمور محكمة ويتم تسييرها بسرعة. قمنا بجولة على متن طائرة عمودية في النقب والتقينا عددا من النواب والوزراء، والتقينا في ذلك الوقت حتى ممثلا عن معسكر السلام. على حسب علمي، لم يكتب أحد شيئا ولم يُطلب منا شيء، ولكن بالطبع، عندما تتم دعوتك، يدعوك هذا بالضرورة إلى عدم البصق في الصحن الذي قُدم إليك.

في البداية لم أواجه أية مشكلة في تمرير مقالاتي، على الرغم من أن أحد رؤساء التحرير كان ينشر افتتاحيات موالية أكثر فأكثر لإسرائيل، وكانت تتناقض مع ما كنت أكتبه… تلقيت بسبب أحد مقالاتي العديد من الرسائل المعادية، وأعرف أن رئاسة التحرير تلقت أيضا ومن دون شك مكالمات من أصدقاء مؤثرين في الجريدة. ثم شيئا فشيئا، ودون أن يخبرني أحد بشيء، صار من الصعب أكثر فأكثر الذهاب إلى هناك. كان يقال لي: “هل أنت متأكد؟”، “في الحقيقة لم يعد القراء مهتمين بذلك”، “أليس ذلك مكلفا بعض الشيء؟”، ولكن كل هذه الحجج لم تكن تقدم فيما يخص كتابة الافتتاحيات. فالرأي المؤيد لإسرائيل أصبح جامحا في الجريدة دون أن يقابله تحقيق ميداني أكثر اتزانا".

كان غيوم جاندرون مراسلا لجريدة “ليبراسيون” في إسرائيل وفلسطين بين عامي 2017 و2020، وقد أمضى عديد المقالات خلال الأيام الأخيرة في الجريدة التي يعمل بها تتوافق مع ما كُتب في اليومية في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2020 لوصف صعود اليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي:

أصبحت إسرائيل وفلسطين اليوم متشابكتين أكثر من أي وقت مضى، فالحقائق ليست متوازية بل متكدسة، وبأقدار كما لو أنها مكبلة بالأصفاد. ففي حين يتجذر المستوطنون، مما يضفي على الضفة الغربية طابع التكساس لكن بنكهة كوشير، أو نوع من بلاد ترامب ثانية حيث يقوم رعاة البقر الذين يرتدون القلنسوة المنسوجة بالصوف بإعادة لعب أسطورة الحدود بشاحنات صغيرة وبنادق أم-16 أمام هنود عرب، يقوم بنَّاء من جنين بربح قوته في ورشات تل أبيب وراء الجدار المجتاز بتصريح أو بدونه. في نفس الوقت لا يحلم الشباب الفلسطيني -جيل “خلاص” المحروم من أي آفاق- سوى بالبحر.

في لقاء له بعد أسابيع قليلة من ذلك مع دومينيك فيدال بمعهد البحث ودراسات المتوسط والشرق الأوسط لسرد تجربته المهنية التي استمرت ثلاث سنوات، تأسف جاندرون، مثله مثل كل الصحفيين الفرنسيين الذين يغطون الأحداث بتل أبيب والقدس ورام الله، من المضايقات التي يقوم بها المتعصبون للدفاع عن إسرائيل … في فرنسا. “هناك طريقة جد منظمة في تسيير الاعتداء، هناك أشخاص يقومون بذلك طوال اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي، يدققون في تقارير المراسلين بحثا عن معلومات مظللة مزعومة”. يواصل غيوم جوندرون قائلا: “في البداية، كنت أخوض الجدال، ولكن مع أشخاص بهذا الكم من سوء النية والمستعدين لتحريف كلماتك، أصبحت لا أدخل في النقاش لأنه في الواقع ليس نقاشا”.

بين “فراغات” على الهواء وذكريات هاربة، يصعب تقييم المعالجة الإعلامية للعلاقة بين فرنسا وإسرائيل. قال لي الكثيرون بطرق مختلفة خلال الأشهر الأخيرة “هذا ليس موضوعا”، لكن يوجد حراس قائمون على مهمة تصفية حسابات الصحفيين الذين يقومون بتأدية واجبهم فقط، أي الإعلام. من بين هؤلاء الحراس الصحفي كليمون فال راينال وموقعه “إنفو ايكيتابل” ( InfoEquitable)، والمحامي جيل ويليام غولدناجيل الذي يتجول في البلاتوهات العديدة للقنوات اليمينية وبالطبع النائب عن الفرنسيين بالخارج ميار حبيب الذي لا يمكن تجنبه، والذي كثيرا ما يكون في المناورة لمضايقة الصحفيين، وهو المتعود على الظهور بانتظام في القناة الإسرائيلية I24News. ويتم نقل مواقف هؤلاء بانتظام من طرف “الكريف” وشخصيات مختلفة مثل الفيلسوف آلان فينكلكروت والعديد من مستخدمي الإنترنت والمواقع الفرنسية الإسرائيلية ذات الرواج الضعيف مثل JJS News وأيضا الشبكات الاجتماعية طبعا. بالنسبة لهم وفي تعارض مع العقل والملاحظة البسيطة، فإن شيطنة إسرائيل أمر مرعب في الصحافة الفرنسية. فهم يطالبون بإعلام “متوازن” كما لو أن لهذا المصطلح معنى. ويشرح أحد الزملاء الذي يشتغل بالقدس: “لديهم فكرة خاطئة عن المعلومة”المتوازنة“التي يجب أن تكون وفق رأيهم مؤيدة باستمرار لإسرائيل”.

يذكر العديد من الصحفيين الجملة الشهيرة لجان-لوك غودار حول الموضوعية في التلفزيون، “خمس دقائق لليهود، وخمس دقائق لهتلر”، وقد أكد لي أحدهم بأن ميار حبيب حرفها بشكل كبير لينتقد التغطية الإعلامية لفلسطين لتصبح: “خمس دقائق لليهود، وخمس دقائق لإسرائيل”.

ومع ذلك فإن أولئك الذين يصفهم بيوتر صمولار، المراسل السابق لجريدة لوموند في القدس بـ“النمل الحاقد”، ينجحون في فرض قانون الصمت. يعلق روني باكمان قائلا: “سمعت ذلك مرارا من أصدقائي. فهم يجدون صعوبة متزايدة في العمل. حيث يقال لهم:”هل تعتقد أن فلسطين أمر يستحق العناء؟ انتهى، لقد قضي الأمر".

لقد مرت “قضية”محمد الدرة من هنا. تعرض شارل أندرلين، مراسل قناة فرانس 2 بعد تقريره عن قتل هذا الطفل الفلسطيني البالغ 12 سنة على يد قناصة إسرائيليين في غزة سنة 2000 إلى حرب علنية وقضائية طويلة. يروي الصحفي بالتفصيل في كتاب “مات طفل” (دار دون كيشوت 2010) وفي مذكراته المهنية الأخيرة، “من مراسلنا في القدس” (دار سوي 2021) الاتهامات بالكذب التي وجّهت له. لقد تطلب الأمر ثلاثة عشر عاما من الإجراءات حتى تتم تبرئة أندرلين من قبل العدالة الفرنسية، ويتم رفض تهم ادعاءات متهمه الرئيسي فيليب كارسنتي، الذي حُكم عليه بدفع التكاليف. غير أن الجرح كان عميقا والإشاعة قائمة. أن تتهم بالتضليل والكذب وأن تسمع “الموت لأندرلين” خلال لقاءات عامة كان أمرا فظيعا لهذا الصحفي. وإن دعمته إدارة عمله خلال الاجراءات القانونية، وكذلك فريق التحرير الذي وقع بالإجماع تقريبا على عريضة قدمتها النقابة الوطنية للصحفيين، فإنه “سرعان ما تم تهميش شارل ولم تكن حياته سهلة”، كما تقول دومينيك براداليي، الأمينة العامة للنقابة الوطنية للصحافيين وإحدى زميلاته السابقات في قناة فرانس 2. وتضيف: “لم تعد تؤخذ منه تقارير، كما قام بوجاداس، الذي كان آنذاك مقدم أخبار الثامنة، بوضعه على القائمة السوداء.”

جمعت عريضة أخرى لدعم أندرلين أطلقها روني باكمان مئات التوقيعات، بما في ذلك العديد من الأقلام من الجريدة الساخرة “لو كنار أونشيني” وأسبوعية “لونوفيل أوبسرفاتور” ووكالة فرانس راس ووسائل إعلام سمعية بصرية. ولكن لم يوقعها أي صاحب وسيلة إعلامية باستثناء ديدييه بيليه من الجريدة الجهوية “لابروفانس” وكلود بيردريال (وذراعه اليمنى في مجلة “لوبسيرفاتور” آنذاك دونيس أوليفان).

لم تظهر “مشيخات” الجرائد أدنى قدر من التضامن تجاه شارل أندرلين في حين كان واجب الإعلام في ذلك الوقت على المحك، وليس فقط في فلسطين. على العكس من ذلك كان دونيس جانبار، مدير أسبوعية “ليكسبرس” أحد متهمي أندرلين الرئيسيين، كما تناقلت صحف مثل اليومية اليمينية “لوفيغارو” عدة مرات حجج كارسنتي وأصدقائه أمثال إليزابيث ليفي لمجلة “كوزور” (يمين متطرف). ناهيك عن مواقع أكثر سرية والتي يعد تتبع كتلة معلوماتها المضللة شبه مستحيل، والتي تستمر في إدانة أندرلين.

وإضافة إلى ذلك، أخفقت محاكمات أخرى حركها مؤيدون لإسرائيل خاصة ضد الفيلسوف الفرنسي الشهير إدغار موران والكاتبة دانيال صالوناف والمحلل السياسي سمير ناير (برأتهم محكمة التعقيب باسم حرية التعبير بسبب مقال نشر في جريدة “لوموند” في 2002) أو الصحفي دانيال ميرميت الذي كان آنذاك بإذاعة “فرانس أنتير” (تمت تبرئته هو أيضا). ولكن هذه القضايا جعلت رئاسات التحرير تقتنع بأنه من المستحسن الابتعاد عن هذا الجدل. الجميع كان يربح القضية أمام العدالة ضد المؤيدين لإسرائيل، ولكن -وهي المفارقة المريرة- يخرج هؤلاء منتصرين من الجدل النتن الذي يحدثونه. للأسف لم يكن ذلك لغطا من أجل لا شيء.

الآن أصبح الصمت يُفرض في الصفوف. سبق أن كتبنا ذلك هنا، هناك قانون صمت مفروض، وأصبحت معلومات كثيرة لا تمر بكل بساطة. على سبيل المثال، هل قرأنا في فرنسا، نهاية أبريل/نيسان 2021، بأن دوائر “أمنية” إسرائيلية استعملت بشكل مغالط هويات صحفيين للقيام بعمليات سرية لفائدة “زبائن” في أبو ظبي؟ لقد تم تداول المعلومة التي نشرها الموقع الأمريكي “ذا ديلي بيست” (The Daily Beast) بصفة واسعة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة… وفي إسرائيل. ولكن لم يكن ذلك الحال في فرنسا، حيث تبدو وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أكثر خجلا تجاه إسرائيل من الصحافة المكتوبة، كما أن مسؤوليها أكثر فزعا أو أكثر تأييدا لإسرائيل. وبالفعل فإن الأصوات الناقدة نادرا ما تكون حاضرة في البلاتوهات. يشهد روني برومان، الفرنسي-الإسرائيلي، مثل شارل أندرلين ومثل كثيرين آخرين، بأنه لم يعد يُستضاف في وسائل الإعلام: “أنا شخص غير مرغوب فيه في قناة فرانس 24. تمت دعوتي ذات مرة بعد ملف قدم في حصة حول اليهود وإسرائيل. وتم إلغاء دعوتي عشية ذلك وتعويضي بـبيرنارد هنري ليفي. ويبدو أن الشركة المنتجة وجدت بأنني”رجل مثير للجدل“”.

يشرح سفير فرنسي متقاعد بأنه “يمكن انتقاد إسرائيل بفرنسا، ولن يدخل أحد السجن بسبب ذلك. ولكن إذا انتقدنا إسرائيل، سيقوم أصدقاء تل أبيب ضدنا وهم كثر. لا أريد تضخيم الأمور، كلٌّ حر في التفكير بما يريد، ولكن يوجد في بلادنا حمايات قانونية ضد معاداة السامية، وبالتالي يمكن الاعتقاد بأن النقاش يمكن أن يكون مفتوحا، ولكن ليس ذلك هو الحال حقيقة”.

توضّح الأكاديمية فريديريك شيلو، وهي أيضا فرنسية-إسرائيلية بأن “الهجوم السياسي لجعل المناهضة للصهيونية معاداة جديدة للسامية سمح بتسجيل النقاط لدى الرأي العام. إن الأمر منحاز بعض الشيء، ولكن العملية نجحت، وتعود بفائدتين بالنسبة لإسرائيل: أن تتمكن من القول بأن معاداة السامية اليوم مقنَّعَة بطرق مختلفة، وتخفيض مستوى الحظر على النقد السياسي”.

أصبح الخوف من تهمة معاداة السامية يشلّ العديد من الزملاء. كما أن تبني مجموعات مختلفة منذ أوائل عام 2021 لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست، الذي يعتبر انتقاد إسرائيل معاداة للسامية، لا يسهل الأمور، بما في ذلك داخل هيئات التحرير.

أما الدفاع عن فلسطين وعن حقوق الفلسطينيين، فيقول برونو جان كور، نائب عن حزب الحركة الديمقراطية بأنه “ليس موضوعا يحظى بشعبية كبيرة. كثيرون لا يريدون المجازفة، وذلك ليس من الشجاعة وليس من المجد”.

ويلاحظ جاك فتح، وهو مسؤول دولي سابق في الحزب الشيوعي الفرنسي: “لا يزال هناك تمسك عميق بالقضية الفلسطينية بفرنسا. هناك حركة تضامنية تدفع بها الجمعيات، ولكن لا توجد تغطية إعلامية، ولا يتحدث عنها أحد. إنه جدار تعتيم رصاصي حقيقي”.

لقد لعبت ويلات الإرهاب الإسلاموي دورا رئيسيا في هذا الصمت. وصار المؤيدون لإسرائيل يكررون بأن دعم الفلسطينيين يعني دعم حماس وبالتالي دعم الإرهاب. على الرغم من أن الحجة واهية فقد كانت مؤثرة ولا تزال.

لم تعد وسائل الإعلام ملتزمة. وأصبح الموضوع منذ فشل مسار أوسلو ثانويا. كما أن التهديدات بالمضايقات من قبل أشرس المؤيدين لإسرائيل، والتي ينقلها “الكريف”، أدت برؤساء التحرير إلى التزام الصمت والتواري عن الأنظار وفرض ذلك على هيئات التحرير.

أهي رقابة ذاتية؟ جبن؟ كسل؟ تأييد؟ “قليل من كل ذلك”، يقول ألان غريش مدير موقع أوريان 21 متنهدا، وهو الذي يتابع المنطقة منذ عقود، ومثل برومان تم “إلغاء دعواته” من طرف وسائل إعلام مرئية ومسموعة، ثم لم تعد توجه له دعوات على الإطلاق.

يمكننا لمواصلة الاستعارة الحيوانية “للنمل الحاقد” التحدث عن زملائهم، السحالي الكسولة، والخُلدان حُصرُ النظر. وهم أساسا العديد من المسؤولين ومساعديهم الموجودين في مهنة ذات نظام هرمي أكيد، الذين يقولون بأن الرأي العام لم يعد يهتم بالموضوع، وهي طريقة لتجنب معالجته. ولكنهم في نفس الوقت يفتحون أعمدتهم وقنواتهم للمؤيدين الكثيرين لإسرائيل.

يمكن التأكيد بأن الكاتب فريدريك أنسيل، المؤيد المعروف لإسرائيل على حق. ففي محاضرة قدمها في ستراسبورغ في 2013، ظهر كديك منتصر وهو يتحدث عن وسائل الإعلام وإسرائيل: “بشكل عام فإن الوضع … (كدت أن أقول هو تحت السيطرة) مواتٍ. نجد حقا وسائل إعلام مؤيدة لإسرائيل متوازنة وصادقة في كل مكان، في كل مكان بصفة مطلقة: فهذا صحيح في الصحافة المكتوبة وفي الإذاعة وفي التلفزيون”. بالنسبة لروني برومان، “كان إنسيل يتحدث بموضوعية عن لوبي موجود بشكل موضوعي. إن الأمر متبنى ومعلن”. وكان فريدريك إنسيل آنذاك في عز مجده الإعلامي بفضل تسييره المؤقت لعمود الجيوسياسة خلال فصل الصيف في إذاعة “فرانس أنتير”، والذي أوصله إليه فيليب فال، مؤيد آخر لإسرائيل الذي كان على رأس المحطة.

كتب بيوتر صمولار، المراسل السابق لجريدة “لوموند”، والذي لم يعد يحصي الشتائم والقذف الذي يتعرض له بعد بعض مقالاته، بأن “أولئك الذين يطالبون الصحافيين بالتحلي بـ” موضوعية“مستحيلة بخصوص إسرائيل هم بصفة عامة الأكثر تعصبا”. إنها وضعية فرنسية بامتياز، لأن وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية أكثر حرية في اللهجة كما في اختيار المواضيع4.

حتى وإن صار عددهم أقل -إذ أغلقت قناة التلفزيون الأولى (TF1) مكتبها بالقدس، ولم يتم بعد استبدال المراسل الدائم لجريدة “ليبراسيون”- لا يزال العديد من الزملاء، خاصة المتعاونون (الذين يعملون لحسابهم الخاص)، موجودين بتل أبيب والقدس ورام الله، ويقترحون تغطية شاملة ومتنوعة للوضع في عين المكان. وعليهم التوفيق بين جبن القادة الباريسيين والتهديدات الرقمية لجماعات الضغط لليمين الإسرائيلي، ناهيك عن وضعهم الاقتصادي الهش. ما يجعل نظرتهم ثمينة أكثر حتى وإن كانت الوسائل التي تفسح لهم المجال تزداد ندرة. وسيكون صمتهم أشد الهزائم مرارة. لكن ليس هذا هو الحال بعد.

1من بين كتب قدماء مراسلي “لوموند”، ميشال بول ريشارد، “إسرائيل النظام العنصري الجديد” (2013)، بيوتر سمولار، “اليهودي السيء” (2019)، أو لجريدة “ليبيراسيون”، آليكساندرا شواردز برود، “القدس” (2008)، جان لوك علوش، “الأيام العصيبة. لإسرائيل ـ فلسطين، السلم بعد ألف عام”، دون ان ننسى اكتاب لشارل أندرلين، “من مراسلنا في القدس، الصحافة كهوية” (2021).

2خص باكمان كتابا للجدار الفاصل (“جدار في فلسطين”، دار فايارد، 2006) وأكد أنه كانت له بهذه المناسبة العديد من المبادلات مع مصادر عسكرية. عندما كتبت أنا “وهم مثلي بتل أبيب” (ليبرتاليا، 2017) كانت لي مقابلات مع مسؤولين في وزارة السياحة ومنتخبين عن بلدية تل أبيب.

3يتكلف المجلس السمعي البصري الأعلى بضمان”أخلاقيات المعلومات والبرامج" في القطاع السمعي البصري وفقا للمادة 3ـ 1 من قانون 30 سبتمبر/أيلول 1986 المتعلق بحرية الاتصال. عارضت النقابة الوطنية للصحافيين على الدوام هذا النص لأن المجلس السمعي البصري الأعلى هو مؤسسة سياسية يتم تعيين قادتها من قبل رؤساء الجمهورية ومجلس الشيوخ والجمعية الوطنية.

4هذا لا يعني إضفاء طابع المثالية على الصحافة الأمريكية. هناك بعض العناوين، كما أظهر ذلك الفلم الوثائقي عن اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة، لا تتردد في نشر “تقارير” معدة مسبقا ويتم تقديمها مجانا وهي بالطبع مؤيدة لإسرائيل.