أنكر بوش ومحيطه من المحافظين الجدد في أعقاب الهجمات على نيويورك وواشنطن (11 سبتمبر/أيلول 2001) أن يكون لهذا العنف الشديد - أو هذا “الإرهاب” - دلالة وأسباب عميقة، قريبة أو بعيدة. وقد تجاهلوا ذلك متخذين موقفا أخلاقيًّا قاطعاً، لا رجعة فيه، يجعل من الولايات المتحدة “أنصار خير” تعرضوا لهجوم من قبل أحد “أتباع الشر”1. وكان الرئيس رونالد ريغان قد استعمل تعبير “إمبراطورية الشر” مع بداية الثمانينيات، كطريقة للإشارة إلى الاتحاد السوفيتي.
كان الرئيس الأمريكي يقسّم العالم آنذاك إلى معسكرين على أساس “محور الشر”، وأنذر كل أمة أنه عليها أن تختار تموقعها على جانب أو آخر من هذا الخط الفاصل. إما الانحياز إلى جانب أنصار “الإرهاب” أو الانضمام إلى “الحملة الصليبية” لمقاتلي الحرية (بوش هو ذاته من استعمل هذا المصطلح). يجب أن تكون إمّا مع هذا أو مع ذاك، هما خياران لا ثالث لهما. لم يكن إِنْذار بوش أكثر أو أقل من إعلان حرب عالمية على “الإرهاب”، شكّل التدخل العسكري في العراق محطّته الأولى. لم يُفهم إحجام فرنسا (وبعض الدول الأخرى) عن تبني هذا المخطط التبسيطي، ثم معارضتها الحرب على العراق. وقد أثار ذلك شعورًا عميقًا بالظلم والغضب لدى الإدارة والمجتمع الأمريكيين، سرعان ما تحول إلى فرانكفوبيا شديدة عامة تقريبا، بلغت ذروتها عامي 2002 و2003، قبل أن تنحسر تدريجياً دون أن تختفي تمامًا.
فرنسا إلى جانب أعداء الحرية
كان الموقف الأخلاقي الأمريكي يرفض الطعن أو التشكيك فيه، لأن قناعة أولئك الذين تبنوه كانت كاملة وشاملة. لذا كانت الصدمة كبيرة عندما تبين أن الرئيس جاك شيراك لمّح في 2002 بأنه لا يؤيد الحرب ضد صدام حسين، ولكنه يدعو في المقابل إلى وجود مفتشين من الأمم المتحدة في العراق لتحديد ما إذا كانت البلاد تمتلك أسلحة دمار شامل.
وصل الاستنكار إلى ذروته عندما أصبح جليًّا أن فرنسا ستستخدم سلاحها الفتاك - أي حق النقض الذي تملكه في مجلس الأمن للأمم المتحدة - وأنها عملت على إنشاء تحالف مناهض للولايات المتحدة في مجلس الأمن، ولا سيما خلال زيارة خاطفة لدومينيك دوفيلبان (وزير خارجية فرنسا آنذاك) إلى الكاميرون وغينيا وأنغولا، التي كانت لها في تلك الفترة عضوية غير دائمة في مجلس الأمن. لدى انتهاء مهمته سنة 2005، لخّص السفير الأمريكي في باريس، هوارد إتش ليتش، موقف الرأي العام الأمريكي قائلاً: “لم يسبق أن يعمل أي زعيم فرنسي آخر بهذه الطريقة ضد مصالح الولايات المتحدة.”
أفسح سوء الفهم الطريق للغضب. تساءل بعضهم لماذا كان شيراك أول رئيس دولة يزور الرئيس بوش بعد أسبوع فقط من هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. لم يُفهم أن عددًا كبيرًا جدًا من الباريسيين تجمعوا أمام السفارة الأمريكية في العاصمة الفرنسية للتعبير عن تعاطفهم. حاول الفرنسيون، دون جدوى، في مواجهة الغضب الأمريكي، استرجاع ذكرى ملحمة لافاييت2 أو الإنزال الأمريكي في نورماندي (شمال غرب فرنسا)، في محاولة لإبراز أن العداء لم يكن موجّهاً ضد الولايات المتحدة، بل ضدّ سياسة بوش التي تغذيها أيديولوجيا المحافظين الجدد. وتكفي قراءة الصحافة الأمريكية (والإنكليزية) في تلك الفترة أو الأدبيات3 التي تلت اجتماع مجلس الأمن، لتقدير حجم الغضب الذي انتاب الأمريكيين عند إعلان فرنسا استخدامها حق النقض لمنع أي قرار يفتح الطريق أمام الحرب.
أرض كل “الفواحش”
غطّت حملة من التضليل والافتراء كامل الأراضي الأمريكية. وفي هذا الصدد، يعد كتاب كينيث ر. تيميرمان، “الخيانة الفرنسية لأمريكا”، مثالاً بليغاً، وهو عبارة عن سرد لمجموعة من “الفواحش” الفرنسية، ويعطي وصفًا جيدًا للحالة الذهنية للأمريكيين في ذلك الوقت. “الخيانة.. الرياء.. الهوس بفعل كل شيء حتى تفشل الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط.. تواطؤ فرنسا مع صدام حسين منذ 1975.. كل شيء بالنسبة إلى فرنسا كان فقط مسألة أموال ونفط وأسلحة”4، إلخ. أبرز توماس فريدمان، وهو كاتب عمود مؤثر في صحيفة “نيويورك تايمز” أن فرنسا أصبحت “عدو أمريكا وأنها تريد أن ترى أمريكا تفشل في العراق”5. ازدهرت دون عوائق في المجتمع الأمريكي حملة تشهير ضد فرنسا، وهي رياضة يتميّز فيها الإنكليزيون أيضًا. سُكب النبيذ الأحمر الفرنسي (بوردو) في المجاري، وانطلقت دعوات لمقاطعة الجبن والنبيذ والمنتجات الفاخرة التي “صُنعت في فرنسا”، وتم وضع ملصقات على السيارات تندد بالخيانة الفرنسية، كما طُبعت قمصان توصي بضرب “العراق أولاً، ثم فرنسا”، ناهيك عن اللافتات التي رُفعت في التجمعات العامة لتطالب بـ“قصف فرنسا أولا”. عادت تسمية “القردة المتخاذلون أكلة الجبن” (التي ظهرت في سلسلة “سيمسون” سنة 1995) إلى الظهور وحققت نجاحًا باهرًا. بل واتُهمت فرنسا ببيع معدات عسكرية وحتى نووية سنة 2003 (هكذا!) لصدام حسين. وُصفت باريس بالجحود لتناسيها المساعدات العسكرية والاقتصادية التي قدّمها الأمريكيون خلال الحربين العالميتين، لأن واشنطن “أنقذت مؤخرتها” ووفّرت لها “حماية مجانية خلال الحرب الباردة”.
بالنسبة لـ كريستوفر هيتشنز، المراسل المنتظم لمجلة “فانيتي فير” وأحد وجوه “اليسار” المثقف، كان جاك شيراك من الرجال الذين يُشترون من قبل صدام حسين. وهو يذكره بشخصية أدبية لمصرفي “متعوّد على الفساد، لدرجة أنه مستعدّ ليدفع بطيب خاطر لشراء نفسه، فقط من أجل المتعة”. في مارس/آذار 2003، نُسبت إلى كوندوليزا رايس، مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي، عبارة قاتلة، لم تتأكّد صحّتها، لكنها جعلت طيور الشؤم تحلّق فوق العلاقات الفرنسية الأمريكية: “يجب أن نتجاهل ألمانيا، وأن نغفر لروسيا، وأن نعاقب فرنسا”. ليس من قبيل المبالغة إذن القول إن الفرانكوفوبيا كانت حينئذ في أوجها. ويتجاهل هذا المقال عن قصد الشعبية التي لا تضاهى التي تمتعت بها فرنسا في جميع أنحاء العالم خلال هذه الفترة، خارج الولايات المتحدة، بما في ذلك إسبانيا والمملكة المتحدة، وهما دولتان كانتا مع ذلك جزءًا من التحالف العسكري.
“شيراك دودة”
من جانب إنكلترا، لم يكن التعبير عن المشاعر المعادية للفرنسيين أقلّ حدة. نشرت الجريدة الشعبية “The Sun” رسما كاريكاتوريا يظهر جاك شيراك في شكل دودة أرض، في طبعة ورقية وزعت حتى في فرنسا نفسها تحت عنوان “شيراك دودة” بالفرنسية. بل تجرّأت الجريدة على تقديم الرئيس الفرنسي على أنه “عاهرة صدام حسين”.
وعلى نحو أكثر أو أقل دهاء، قدّم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير - الموالي المزعوم لأوروبا - شيراك بطريقة منحازة، للمساهمة في خلق مشاعر مؤيدة للحرب في المملكة المتحدة. ثم حمَّل الرئيس الفرنسي مسؤولية حرب لا تحظى بتفويض من الأمم المتحدة، كان بلير نفسه يجرّ بلاده إليها، وهو أمر لم يكن العديد من البرلمانيين وأعضاء من معسكره السياسي وجزء من الرأي العام مستعدين لقبوله. في 30 يناير/كانون الثاني 2003، شارك توني بلير في توقيع رسالة مفتوحة تطالب الاتحاد الأوروبي - الذي انقسم بعد ذلك حول ما إذا كان خيار خوض الحرب صائباً - بأن يوحّد الصفوف وراء السياسة الأمريكية، دون أن يتحدث عن هذه الرسالة مع بعض الشركاء الأوروبيين، بما في ذلك فرنسا.
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تم تقديم الفرنسيين في الصحافة المكتوبة أو السمعية البصرية على أنهم نقيض الأمريكيين تماماً. فتم تذكيرهم بأنهم “قذرون” ومتعودون “على الخيانات”، وبأنهم يجاهرون بـ“المسالمة” بينما يُظهر الأمريكيون وطنيتهم، وبأنهم خسروا كل حروبهم. اتُّهموا كذلك بإعادة بناء الجسور مع أعداء الولايات المتحدة، كما سبق وفعل ديغول، وفقًا لتصور أمريكي، وأن “ماريان” - رمز الجمهورية الفرنسية - لم تكن محاربة قادرة على الدفاع عن الجمهورية، بل امرأة واهنة ومسالمة وفاترة، على نقيض العم سام القوي وورثته الأبطال في سينما هوليوود (طرزان، رامبو، سوبرمان، باتمان، رعاة البقر..). كما ازدهرت الاتهامات بمعاداة السامية، والتي دعمتها الهجمات المعادية لليهود في الأشهر الأولى من عام 2002، لا سيما ضد كنيس يهودي في ليون (30 مارس/آذار) أو في مرسيليا (1 أبريل/نيسان)..
حملة ليست بالسابقة
لم تكن هذه الكليشيهات جديدة. سبق وأن تم استخدامها سنة 1957 للتنديد بأحداث قناة السويس وحرب تحرير الجزائر. وتم سكب النبيذ الفرنسي (الذي صار بالتأكيد رمزاً للحضارة الفرنسية) في مجاري لوس أنجلوس. في سنة 1958، اعتبر بعض السياسيين الأمريكيين طلب الجنرال ديغول تنصيبه من قبل الجمعية الوطنية بمثابة عمل ديكتاتوري. وقد تذكّر الأمريكيون حينها لفتة تشرشل التهكمية عندما صرّح أن أثقل صليب (عبء) حمله خلال الحرب العالمية الثانية هو “صليب لورين” (وكان رمز القوات الفرنسية الحرّة، أي الجيش غير النظامي المقاوم للاحتلال الألماني، بقيادة ديغول). وفي 1986، انطلقت حملة جديدة من الفرانكوفوبيا في القارة الأمريكية لأن الحكومة الفرنسية رفضت منح القاذفات الأمريكية حق تحليق فوق أراضيها لضرب ليبيا. وسُكب النبيذ مرة أخرى.
مرّت الأعوام. كان لبعض الأسماء الكبيرة في الصحافة الأنغلوسكسونية، التي سارعت إلى دعم مشروع واشنطن الحربي، فَضِيلَة القيام بنقد ذاتي. في افتتاحية مطوّلة بتاريخ 26 مايو/أيار 2004، اعترفت صحيفة “نيويورك تايمز” بأنها سايرت التيار، ولامت نفسها على عدم يقظتها تجاه مصادرها. برّأت الصحيفة مراسليها، لكنها حمّلت عبء أخطائها على عاتق مديري تحريرها، وانتقدتهم لكونهم لم يظهروا مزيدا من الاِرتياب تجاه مصادرهم - خاصة من المنشقين العراقيين - بدلاً من التسرع في نشر هذه المعلومة أو تلك ركضاً وراء سبق صحفي.
مرّت الأعوام. لكن تظل كلّ من الولايات المتحدة وفرنسا تتظاهران بأنهما بطلان للمُثُل العالمية والديمقراطية. غير أن واشنطن تجزم أنه لا وجود سوى لـ“ذَكَر ألفا” واحد (أي “الأحادية الأمريكية” أو “القوة المفرطة”، وفق تعبير وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين).
تلطّف الجو. لا تقتضي الظروف السياسية الحالية عودة تصريحات محمّلة بالفرنكوفوبيا. لكن عمر التحيزات طويل، وهي تبقى راسخة في العقل الباطن الجماعي، حيث لا يتطلّب الأمر الكثير لكي تعود بسهولة. ففي 26 يناير/كانون الثاني 2023، نشرت وكالة الأنباء الأمريكية “أسوشيتد برس” تغريدة حول كيفية الكتابة في وسائل الإعلام: “نوصي بتجنب التسميات الشاملة والتي غالباً ما تُسقط الطابع الإنساني، مثل”الفقراء“و”المرضى عقليًا“و”الفرنسيين“و”المعوقين“و”الخريجين“. استخدموا بدلا من ذلك عبارات مثل”الأشخاص المصابين بمرض عقلي“. ولا تستخدموا هذه الأوصاف إلا عندما تكون بليغة”.
يبدو، في آخر المطاف، أننا سنضطر إلى التشبّث بسلسلة “إميلي في باريس”، المليئة بالكليشيهات، ولكنها “شيك” للغاية!
1“محور الشر”: تعبير استخدمه الرئيس جورج دبليو بوش في خطابه في 29 يناير/كانون الثاني 2002. الدولتان الأخريان من هذا المحور هما إيران وكوريا الشمالية.
2ضابط فرنسي شارك في حرب الاستقلال الأمريكية 1777-1783.
3بعض وسائل الإعلام والأعمال التي نشرت وأنتجت برامج معادية لفرنسا والفرنسيين أو تشير إليهما: واشنطن بوست؛ نيوزويك؛ نيويورك تايمز؛ واشنطن تايمز، نيويورك بوست؛ وول ستريت جورنال؛ شيكاغو تريبيون، سي بي إس لايت شو؛ ان بي سي ذا تونايت شو؛ فوكس نيوز كانال شو؛ مارك موليسكي وجون جيه ميلل، “أعداؤنا الأقدم: تاريخ علاقة أمريكا الكارثية بفرنسا”؛ هارلو جيلز أونغر، “الحرب الفرنسية ضد أمريكا”؛ جستان فايس ، “عودة الفرنكوفوبيا”، مجلة السياسة الدولية، رقم 97 (خريف 2002) ، إلخ.
4كينيث ر. تيميرمان، الخيانة الفرنسية لأمريكا، Three Rivers Press، 2005.
5“نيويورك تايمز”، 18 سبتمبر/أيلول 2003.