من 1914 إلى 2019، عندما يعيد التاريخ نفسه

تركيا في مواجهة “غدر” الغرب

لقد أبلغ البيت الأبيض تركيا أن الولايات المتحدة لن تسلمها الطائرات المقاتلة إف-35 بالرغم من دفع أنقرة ثمنها. وهذه الحادثة تذكر بسابقة تاريخية وقعت عام 1914 حين احتجز البريطانيون بارجتين حربيتين حديثتين مدفوعتي الثمن.

طائرات إف35
Matthew Plew/US Air Force

اشتدت الأزمة بين الولايات المتحدة وتركيا حول نظام الصواريخ الروسية إس-400 والمقاتلة المتعددة المهام إف -35 حدة خلال الأشهر الأخيرة. وفي 19 يوليو/تموز 2019، أبلغت الولايات المتحدة الأميركية أنقرة أنها تعلق تسليم الطائرة المقاتلة متعددة الوظائف بعد استلام تركيا لأنظمة الدفاع الجوي إس-400. هل ستتمكن تركيا والولايات المتحدة من التفاوض على تسوية مقبولة من شأنها تخفيف التوتر المتزايد بين هذين الحليفين ضمن منظمة حلف شمال الأطلسي ؟

يعد التهديد الأمريكي المزدوج بالانتقام في حال تسليم أنظمة إس-400 إلى تركيا أمرا ملفتا للغاية: تنفيذ العقوبات التي ينص عليها قانون “مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” [CAATSA] وحظر شراء طائرات إف-35 . ولكن لو وضعنا الوضع الحالي في السياق التاريخي لحدث محدد حصل عشية الحرب العالمية الأولى، لأخذ السيناريو الحالي كل أبعاده. يجدر بصانعي القرار الأمريكيين على وجه الخصوص الانتباه لذلك لأن ذاكرة هذا الحدث من شأنها تضخيم ردود الفعل السلبية لدى تركيا في حالة ما إذا نفذت الولايات المتحدة تهديداتها بفرض عقوبات. وقد يتسبب هذا الوضع في أضرار لا يمكن إصلاحها في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة.

بارجتان دُفِعَ ثمنهما... ولم تسلّما

يعود هذا الحدث التاريخي إلى عام 1914. في ذلك الوقت، تعاقدت الإمبراطورية العثمانية مع ورشات صناعة السفن البريطانية لبناء بارجتين حربيتين من نوع “دريدنوت” التي كانت في أعلى مستوى التكنولوجيا آنذاك. كان مفترضا أن تشكل هاتان البارجتان الحربيتان التي أطلق عليهما على التوالي اسم السلطان عثمان الأول و الرشيدية حجر الزاوية في البحرية العثمانية التي جرى تحديثها. وقصد تغطية التكاليف الضخمة لبناء هاتين السفينتين ، دعت الحكومة العثمانية مواطني الإمبراطورية للمساهمة في حملة عامة لجمع الأموال. وكما كان متوقعا، كانت التكلفة الإجمالية لبناء هذه الأنظمة من الأسلحة ذات التقنية العالية باهظة فعلاً. وقد دفعت الحكومة العثمانية المبلغ الإجمالي المطلوب لبناء البارجتين، وكان من المنتظر تسليم السلطان عثمان الأول والرشيدية إلى السلطات العثمانية في 2 أغسطس/آب 1914.

لسوء حظ العثمانيين، تسبب اغتيال الأرشيدوق فرانسوا- فرديناند في يونيو/ جوان 1914 بسلسلة من الأحداث التي سرعان ما أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. في التاريخ المحدد لتسليم البارجتين “دريدنوت” إلى قواتها البحرية، لم تكن الإمبراطورية العثمانية متورطة في أي نزاع مع القوى المتحاربة في الحرب التي اندلعت. ومع ذلك، وقبل أقل من ساعة من مراسم التسليم في يوم 2 أغسطس/ أوت، تم إبلاغ القبطان العثماني رؤوف بك، الذي كان من المقرر أن يتسلم السفينتين، أن الحكومة البريطانية، بأمر من ونستون تشرشل، اللورد الأول للأميرالية آنذاك، قررت حجز البارجتين.

وإضافة إلى هذه الإهانة، أُبلغت الحكومة العثمانية بأن المملكة المتحدة ستدفع تعويضات عن مصادرة السفينتين في وقت لاحق، وفي الموعد الذي يناسبها. غير أن انخراط الإمبراطورية العثمانية في الحرب إلى جانب ألمانيا في أكتوبر/ تشرين أول 1914 أبطل كل التزام بريطاني.

في نهاية سنة 1914 تسارعت أحداث متشابكة تورطت فيها قوى مختلفة كانت تتفاوض بشراسة مع بعضها البعض وراء الكواليس قصد تعزيز مصالحها الأمنية الاستراتيجية. كان قرار الحكومة البريطانية بالاستيلاء على بارجتي السلطان عثمان الأول و الرشيدية منطقيًا من وجهة نظر الواقعية السياسية، لا سيما في نهاية عام 1914. وكانت المملكة المتحدة قلقة جدا إزاء حرب وشيكة مع ألمانيا. وفضلا عن ذلك كان البريطانيون على علم بتنامي علاقات الإمبراطورية العثمانية مع ألمانيا. . ووفقا لأقوال تشرشل ذاته [ونستون تشرشل ، مذكرات الحرب العظمى، منشورات تايلانديي 2016 تم اتخاذ قرار حجز بارجتي السلطان عثمان الأول والرشيدية لمصلحة الأمن القومي للمملكة المتحدة، ونقتبس منها هذا المقطع:

“في 27 يوليو اقترحت تركيا تحالفًا دفاعيًا وهجوميا سريًا بين ألمانيا وتركيا ضد روسيا، وقد قبلته ألمانيا على الفور، وتم التوقيع عليه في 2 أغسطس/ آب وكان قد صدر الأمر بتعبئة الجيش التركي في 31 يوليو/تموز. لكن المفاجأة تمت بتبني إنجلترا دون سابق إنذار موقفًا مقاوما واضحًا تجاه ألمانيا. كانت الأساطيل البريطانية قد أبحرت للمعركة. في 28 يوليو/ تموز قمت بحجز البارجتين”دريدنوت“التركية لفائدة البحرية الملكية. لقد اتخذت هذا الإجراء لأغراض الاستراتيجية البحرية البريطانية. تبادر لي أن إضافة البارجتين التركيتين إلى الأسطول البريطاني أمرا حيويا بالنسبة للأمن القومي.”

على الرغم من أن الاستيلاء على السفينتين الحربيتين ربما كان اختيارًا منطقيًا وعقلانيًا بالنسبة للبريطانيين، فقد اعتبره الرأي العام العثماني، وهو محق في ذلك، على أنه فعل غادر. من وجهة نظر العثمانيين، كانوا قد قاموا بحسن نية بدفع المبلغ الكامل لبناء البارجتين ورُفض في اللحظة الأخيرة تسليم ما تم دفع ثمنه. يرى بعض الباحثين أن هذا القرار البريطاني ساهم في التأثير سلبا على الرأي العام العثماني ضد لندن، وأنه سهّل تقبل الشعب العثماني للتحالف مع ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى.

إس-400 روسية مقابل إف-35 أمريكية

وإن تذكرنا هذا الحدث التاريخي للحرب العالمية الأولى، وانتقلنا بسرعة إلى عام 2019 ، لوجدنا للوضع الحالي شبه بالوضع آنذاك على الرغم من أن السياق مختلف. فتركيا شريك رسمي في تطوير الطائرة إف-35 منذ عام 2002 كمل أنها تعتزم شراء العديد من طائرات إف-35 في إطار مبادرة تهدف إلى تحديث سلاحها الجوي بمعدات من أحدث طراز. وقد استثمرت تركيا حتى اليوم الملايين من الدولارات الأمريكية في تطوير طائرة إف-35. وهي تعتزم حاليًا استثمار عدة مليارات من الدولارات الأمريكية في شراء هذه المقاتلة.

كما هو معلوم، تشعر الولايات المتحدة بالقلق من شراء تركيا لنظام الدفاع الروسي إس-400. فمن وجهة نظر الولايات المتحدة من شأن نشر وتشغيل أنظمة إس-400 في تركيا أن يكون لها إمكانية تتبع تحركات ال إف -35 خلال تحليقها وجمع معطيات حول نقاط الضعف المحتملة للطائرة المقاتلة. وتخشى الولايات المتحدة أن تصل هذه المعطيات بطريقة أو بأخرى إلى روسيا، مما يهدد مصالحها في مجال الأمن القومي.

وبما أن تركيا كانت شريكة في تطوير ال إف-35 منذ عام 2002 وكونها قد استثمرت فعليا رؤوس أموال هامة في هذا المشروع، بصفتها حليفة الولايات المتحدة في إطار حلف شمال الأطلسي، فمن الطبيعي أن يكون رد فعل الرأي العام التركي حيال رفض الولايات المتحدة تسليم هذه المقاتلات رداً سلبياً.

وقد تعتبر تركيا بشيء من المنطق أنها بصفتها شريكاً للولايات المتحدة قد التزمت منذ فترة طويلة بتوفير الموارد من أجل تطوير مشروع إف-35. ولا شكك أن تهديد الولايات المتحدة بحرمان تركيا من ثمار هذه الشراكة سيترك طعماً مرًا لدى الأتراك، كما يمكن أن يذكرهم بمصادرة البارجتين السلطان عثمان الأول و الرشيدية. تعد الذاكرة التاريخية عاملاً مهمًا، وإلى يومنا هذا، مازالت تصرفات بريطانيا عام 1914 تعتبر إهانة لتركيا. عسى أن يتمكن صانعو القرار السياسي الأتراك والأمريكيون من إيجاد تسوية مقبولة في المستقبل القريب تجنب العلاقات بين البلدين ضرراً يصعب التكهن به.