المناورات الاقتصادية الدنيئة للجيش المصري

أصبح الجيش المصري دائم الحضور في الاقتصاد المصري، وليس فقط في مجال الصناعة الحربية. قليلة هي المجالات التي لم يبتلعها بعد نهم الجيش. لكن دراسة غير مسبوقة نشرت موفّى نوفمبر/تشرين الثاني تكشف أضرار هذا الجهاز قليل الإنتاج وغير الشفاف، والذي ينخره الفساد.

كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟ فالصناعة الحربية أنشئت منذ قرابة السبعين عاما من قبل بطل وطني -جمال عبد الناصر- بهدف تعزيز الاستقلال الوطني المصري الجديد. لكنها باتت، بمرور الزمن، عائقا أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي للبلاد وسرطانا للمجتمع. ويتحدث الباحث من أصل فلسطيني يزيد صايغ -وهو يشتغل في مركز كارنيغي للشرق الأوسط ببيروت- في كتابه “امتلاك الجمهورية، تشريح للجيش المصري” (Ownership of the Republic, An anatomy of Egypt’s military) عن صعود “جمهورية الضباط” الذي تسارع منذ الانقلاب العسكري لعبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/تموز 2013. هذا الكتاب هو دراسة مهمة متكونة من 250 صفحة متاحة مجانيا على الإنترنت، وتنأى بنفسها عن تقارير المؤسسات المالية الدولية التي لا تتحدث عن هذه “الجمهورية”، ولكن كذلك عن تقارير منتقدي نظام السيسي الذين يعطون هذه الجمهورية أكثر من وزنها من الناحية الاقتصادية فيما يقلّلون من دورها السلبي في سير نفس هذا الاقتصاد.

على الصعيد الرّسمي، تشرف على الصناعة الحربية وزارتا الدفاع والإنتاج العسكري، وكذلك الهيئة العربية للتصنيع، وهي وكالة أنشئت في السبعينات بمساعدة مملكات الخليج. تتراوح قيمة وزنها الاقتصادي بين 3 و6 مليار دولار، أي بين 1 و2% من الناتج المحلي الإجمالي. وبتعلة استعمال القدرات غير المستغلّة لهذه الصناعة، تتنوع منتوجاتها، من الغذائية إلى الأجهزة المنزلية، مرورا بالفولاذ والإسمنت والمواد الكيميائية. ونجد بعض فروعها في مجال البناء والمقاولة المعمارية. وعلى سبيل العدّ لا الحصر، اشتغل كذلك عناصر الجيش في التنقيب على الذهب في المناطق الصحراوية للبلاد، وكمزارعين غرب النيل، ومخططين إداريين، وأصحاب نزل، وتجّار، ومستوردين، وحرّاس أمن...

غموض ونقص في الكفاءة

هل هذا الإنتاج مربح؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال في ظلّ عدم الانصياع للمراقبة القانونية واستبعاد المحاسبين المستقلّين وغياب المعلومات الموضوعية. لكن هذا الغموض المقصود لا يخفي عدم نجاعة هذه الأنشطة وضعف قيمتها المضافة ونقص كفاءة المسؤولين عنها، فهم ليسوا أولئك المتصرفين الخارقين كما أثنت عليهم الدعاية الرسمية، بل هم بالأحرى منتجون صناعيون فاشلون واقتصاديون سيئون. إذ أن إنتاجية الشركات العسكرية أسوأ من إنتاجية القطاع العام المدني، واليد العاملة فيها متكونة أساسا من مجندين شباب رفضتهم القوات المقاتلة، وإخفاقاتها تفوق بكثير نجاحاتها. حتى أن مشروع السيارة الشعبية من صنع مصري “نصر” والذي وعد به الضباط الأحرار منذ أكثر من خمسين عاما لم ير أبدا النور. كذلك بالنسبة لخطة تجميع الطائرات الحربية التي منحتها الولايات المتحدة الأمريكية لمصر في إطار مساعدتها العسكرية، والتي تم التخلي عنها واستيراد الطائرات الحربية مباشرة.

قاعدة اجتماعية لبقاء النظام

منذ وصول المشير عبد الفتاح السيسي للحكم، أصبح آلاف الضباط المتقاعدين من الجيش والذين يعملون في القطاع العسكري يشكلون إحدى القواعد الاجتماعية الأساسية لبقاء النظام. ويسعى الرئيس للاستفادة من نفوذهم السياسي من خلال الهدايا المالية والضريبية والاجتماعية. فهؤلاء الضباط السامون يضيفون إلى منحهم المتواضعة بعض المعاش بفضل وظيفة تكاد أن تكون مدى الحياة.

بتجذرهم في كامل قطاعات الحياة الاقتصادية، يشكل هؤلاء الضباط شبكة عملاقة غدت أهم من الدوائر الرسمية، وتسمح بنسج عديد العلاقات مع المسؤولين، كما تكاد تتيح للجنرالات وقادة الأسطول التصرف بما يحلو لهم في بلد لا يمكن وصفه بدولة القانون، ذي البيروقراطية المنتشرة والإدارة المتشعبة.

فهم يتمتعون بالنفوذ الكافي لإحباط منافسيهم واستبعادهم من الدعم ومن الأسواق العمومية مثلما حصل لمشروع قناة السويس الجديدة والذي أودعه المشير-الرّئيس مباشرة للجيش، أو لرفع مراسيم الجمارك في وجه مستوردين كثيري النشاط. علاوة على كل هذا، فهم يتمتعون بميزة لا جدال فيها، وهي أولويتهم العليا في الوصول للأراضي من أجل تحقيق مشاريعهم، وهي أصول نادرة وباهظة في بلد مكتظ بالسكان مثل مصر.

أثير النفقات العمومية

لم يعد القطاع العسكري تحت السيسي جيبا يحدّه أولئك الذين يبغضهم العسكريون من أصدقاء رئيس الجمهورية والمستثمرين الأجانب أو المنتفعين من الخوصصة، كما كان الحال أيام حسني مبارك (1981-2011). فقد أصبح اليوم أثير النفقات العمومية، إذ سُلّم ربع ميزانية التجهيز لحفر قناة السويس الثانية، أو لبناء برنامج عقاري عملاق على قدم وساق خارج وادي النيل، وهو مشروع مهم بالنسبة للسيسي الذي بات مهووسا باكتظاظ السكان في هذه المنطقة. حتى أن قرابة نصف الدين الذي اقترضه النظام منذ 2013 استعمل لتمويل مشاريع عسكرية!

كما أن القطاع العسكري يشكّل عبئا ليس فقط على النفقات العمومية بل على كامل الاقتصاد، من خلال إنشاء علاقات غير عادية مع القطاع الخاص. طبعا، ينتفع الشريكان بذلك، لكن تزايد حضور الجيش في مجالات هيمنت عليها إلى حد الآن شركات خاصة مثل الإعلام والإسمنت وصناعة الفولاذ يقلب موازين اللعبة. فأصحاب الشركات الذين لهم علاقات وطيدة مع المؤسسة العسكرية يتمتعون بأفضلية واضحة على الآخرين، لا سيما لتجاوز جميع العقبات البيروقراطية أو الوصول إلى خدمات وزارة الدفاع، كما هو الحال في الإسكندرية، حيث يتم صون السفن التجارية في ترسانة المدينة.

في الجهة المقابلة، يتحول الضباط الذين صاروا منذ مدة قصيرة شركاء أصحاب رؤوس الأموال الخاصة من خلال مدهم بالأراضي -وهي ميزة كبيرة جدا- وتفويض تصنيع منتوجاتهم المشتركة، إلى منتفعين ينهبون المستهلكين.

إن تواصل الأمر على ما هو عليه، يمكن أن نشارك يزيد صايغ مخاوفه حول التأسيس للهيمنة العسكرية على الاقتصاد المدني وتحوّل مجموعة مصالح مهمّة ونافذة إلى صانعة أسواق أو إلى صانعة السياسية الاقتصادية للبلد بأسره. وبما أن فهمها للاقتصاد يبقى حكوميا وجاهلا لآليات الأسواق، فمن الوارد جدا أن يعود ذلك بمزيد من التضارب والضبابية على الاقتصاد المصري، رغم ما يدعيه شعار الضباط: “نحن نبني مصر، نحن نغذي مصر، نحن مصر”.